روبرت صامويلسون : الشرق الاوسط
من الأسئلة المصيرية المطروحة خلال عام 2013 هو ما الذي سيحدث للعولمة؟ ظل ازدياد حجم التجارة بين الدول وتدفق الأموال لعقود يعزز النمو الاقتصادي. مع ذلك من الملاحظ أن شيئا ما يحدث، حيث تتباطأ حركة التجارة وتدفق الأموال، بل وتتراجع في بعض الحالات. ويصف ديفيد سميك، رئيس تحرير مجلة «إنترناشيونال إيكونومي» الذي يتسم بنفاذ البصيرة، التراجع بـ«الارتداد عن العولمة». من غير الواضح ما إذا كان هذا ينذر بفترة طويلة من الركود الاقتصادي وتزايد الحس القومي، أم أنه سيجعل الاقتصاد العالمي مستقرا ومقبولا سياسيا إذا نظرنا إلى الوضع بتفاؤل.
ستبدو بعض جوانب الارتداد عن العولمة بالنسبة إلى الأميركيين باعثة على السرور مثل التصنيع، فالعولمة حرمت الولايات المتحدة من الوظائف في المصانع. أما الآن فقد يكون الوضع في طريقه للتحول. أعلنت شركة «أبل» مؤخرا عن استثمار نحو 100 مليون دولار من أجل إعادة جزء من إنتاجها لأجهزة كومبيوتر «ماك» إلى الوطن. ورغم أن هذه الخطوة ليست بالكبيرة، فإنها تعبر عن توجه.
ولطالما كان مبنى «أبليانس بارك» الخاص بشركة «جنرال إلكتريك» في لويسفيل رمزا لتفوق الولايات المتحدة في الصناعة خلال حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، حيث وصل عدد العاملين به إلى 23 ألفا في عام 1973. انتقلت فرص العمل منذ ذلك الحين إلى الخارج أو انتهت بفعل اللجوء إلى الآلات. ومع ذلك تعمل مؤسسة «جنرال إلكتريك» على إعادة صناعة سخانات المياه والثلاجات وغيرها من الأجهزة من الصين والمكسيك إلى «أبليانس بارك». وارتفعت فرص العمل خلال نهاية العام إلى نحو 3600 بنسبة تصل إلى 90% مقارنة بالعام الماضي كما ذكر تشارلز فيشمان في مقال رائع بمجلة «أتلانتيك» خلال شهر ديسمبر (كانون الأول) الماضي.
وليست «جنرال إلكتريك» فقط هي التي تتبع هذا النهج كما يشير فيشمان، حيث تنقل شركة «أوتيس» للمصاعد جزءا من إنتاجها من المكسيك إلى ولاية ساوث كارولينا. وتنقل شركة «وام أو» صناعة الأقراص الطائرة من الصين إلى كاليفورنيا.
لهذه التغيرات دلالات، كما توضح مجموعة «بوسطن كونسالتينغ غروب» الاستشارية. وتتوقع المجموعة أن يعود التصنيع إلى الحياة، فقد تآكلت ميزة تكلفة العمل في الصين كما ترى. ووصل متوسط أجور العاملين في المصانع الصينية عام 2000 إلى 52 سنتا في الساعة، لكن الزيادة في النسبة السنوية التي تتكون من رقمين سوف تجعل الأجر 6 دولارات في الساعة في المجالات التي تتطلب قدرا كبيرا من المهارة بحلول عام 2015. ورغم أن متوسط أجور العمال في الإنتاج الأميركي يبلغ 19 دولارا في الساعة، ترى «بوسطن كونسالتينغ غروب» أن هناك عوامل أخرى لا تتعلق بالأجور في صالح الولايات المتحدة.
إنتاجية العمال الأميركيين أكبر، وقد حد استخدام الآلات من حصة العمل من النفقات، وساعد الغاز الطبيعي الرخيص في خفض التكاليف، وأخيرا أدى ارتفاع أسعار النفط إلى زيادة تكلفة شحن الواردات. وبحلول عام 2015، ستنخفض الميزة، التي تتمثل في إجمالي التكلفة بالصين، إلى 7% بحسب توقعات «بوسطن كونسالتينغ غروب». وتوضح المجموعة أنه يقع على القدر نفسه من الأهمية، تفوق مزايا التكلفة، التي تتمتع بها الولايات المتحدة كثيرا، على المصنعين في الدول المتقدمة الأخرى، حيث تتفوق على فرنسا وألمانيا بنسبة 15%، وعلى اليابان بنسبة 21%، وعلى بريطانيا بنسبة 8%.
وستزداد جاذبية الولايات المتحدة كمقصد للإنتاج، في الوقت الذي تتراجع فيه الواردات وتزداد فيه الصادرات. وتتوقع «بوسطن كونسالتينغ غروب» أن يزداد عدد الوظائف في المصانع بما يتراوح بين 2.5 و5 ملايين بحلول عام 2020. الجدير بالذكر أن 5.7 مليون وظيفة في مجال الصناعة اختفت بين عامي 2000 و2010.
وقد يثبط هذا التحول حركة التجارة نظرا لأن الولايات المتحدة تعد أكبر مستورد في العالم. وبالمنطق نفسه، تراجع تدفق الأموال عبر الحدود. وخفضت المصارف، خاصة في أوروبا، القروض الأجنبية من أجل خفض نسبة الرفع المالي ودعم ميزانياتها.
وانخفضت القروض المصرفية الممنوحة لـ30 دولة من الدول ذات الأسواق الناشئة منذ عام 2011 إلى عام 2012 بمقدار الثلث بحسب ما أوضح معهد التمويل الدولي. وأوضح الخبير الاقتصادي لدى معهد التمويل الدولي، فيليب ساتل، قائلا «إنها أكثر حالة تدل على عودة الانحياز للوطن في الإقراض»، ويرى أن المنظمين الحكوميين يشجعون هذا التحول، مشيرا إلى أنه إذا كان من الضروري خفض القروض، فليكن ذلك هناك لا هنا.
بطبيعة الحال لن تختفي العولمة، فهي أكبر وأكثر تداخلا مع اقتصاد الدول من أن تختفي. وزاد إجمالي صادرات العالم عام 2011 إلى نحو 18 تريليون دولار. ويصدق ذلك أيضا على تدفق رؤوس الأموال. ورغم انسحاب المصارف، يُقدر حجم الاستثمارات في تلك الدول الثلاثين ذات الأسواق الناشئة عام 2012 بتريليون دولار عبر الشركات متعددة الجنسيات ومستثمري القطاع الخاص وشركات المعاشات والتأمين وجهات الإقراض الأخرى. ويعد هذا الإجمالي ضخما رغم تراجعه عن الذروة. مع ذلك قد يطرأ تغيير على شكل العولمة.
وظل الاقتصاد العالمي يعاني من انعدام توازن لسنوات، حيث تمتعت الصين وبعض الدول الأخرى بفائض تجاري ضخم، في حين عانت الولايات المتحدة من عجز كبير مستمر في الميزانية. وشهدت أوروبا أشكالا مشابهة من اختلال التوازن. وأدت الأزمات الاقتصادية إلى تراجع الإقبال الأميركي والأوروبي على الواردات.
والنتيجة هي تعديل الصين ودول أخرى الاستراتيجيات الاقتصادية التي تقوم على الصادرات بحيث تركز أكثر على الطلب المحلي بحسب ما أوضح الخبير الاقتصادي لدى معهد بيترسون فريد بيرغيستين. ويرى فريد أن هذا أمر جيد، حيث سيصبح الاقتصاد أكثر توازنا.
وبالمثل أدى التدفق المتقلب لرؤوس الأموال إلى أزمات مالية في الماضي. وربما يعزز تباطؤ التدفق الاستقرار.
مع ذلك لا يتفاءل الجميع، حيث ترى مجلة «إنترناشيونال إيكونومي» أن العولمة مثل «الأوزة الشهيرة التي تبيض بيضات من الذهب». ما يحرك الاستثمار والتجارة والنمو الاقتصادي وفرص العمل حول العالم هو البحث عن أسواق أكبر وتكلفة أقل. وقد ضعف كل ذلك، ولم يعد هناك نموذج جديد ليحل محله. وسوف يتضح في المستقبل أن الطلب المحلي لن يكون بديلا كافيا. وحاولت المصارف المركزية (مجلس الاحتياط الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي والبنك المركزي الياباني) ملء الفراغ بسياسات الأموال السهلة. ويخشى سميك من حدوث عواقب مدمرة، ومنها حروب العملات في ظل صراع الدول من أجل الاستحواذ على حصص أكبر من أسواق الصادرات الراكدة، وفقاعات الأصول، التي تنتج عن الأموال السهلة. وتتصادم هذه الرؤى؛ وربما نعلم خلال عام 2013 أيا منها هي الصحيحة.
* خدمة «واشنطن بوست»