الشرق الاوسط
للأسف لا. يا ليت! كم أتمنى لو أغمض عيني وأفتحها فأرى سوريا وقد أصبحت مثل هولندا ازدهارا وسلاما، أو مصر مثل فرنسا، أو تونس الخضراء مثل سويسرا، الخ.. كنت سأقفز على ثلاثة قرون من الاستبداد السياسي والحروب الأهلية والمجازر الطائفية والأصولية الظلامية.. وكنت سأقفز أيضا على ثلاثة قرون من عناء البحث العلمي عن الحقيقة في كل المجالات! ينبغي العلم بأنه حصلت ثلاث ثورات فكرية تحررية في أوروبا قبل أن تتصالح المسيحية مع الحداثة، في حين أنه لم تحصل أي واحدة منها في العالم العربي أو الإسلامي كله. لهذا السبب يحدث ما يحدث الآن في مصر وغير مصر من صدامات مروعة حيث يعرقل «الإخوان» مسيرة الشعب نحو التقدم والتسامح والحرية.
كيف يمكن أن نتصالح مع أنفسنا إذن؟ كيف يمكن أن نحل مشكلة الصراعات المذهبية والطائفية ونحن لا نزال في المرحلة اللاهوتية التكفيرية التي تجاوزتها أوروبا منذ 150 سنة على الأقل؟ عندما يلتقي ألمانيان في الصين أو اليابان أو أقاصي الأرض هل تعتقدون أن أول سؤال يراودهما هو التالي: من أي مذهب هو يا ترى؟ هل هو بروتستانتي مثلي أم كاثوليكي مضاد؟ مستحيل. هذا شيء لا يخطر على بالهما على الإطلاق، في حين أنه أول تساؤل يخطر على بال السوري أو اللبناني أو العربي عموما عندما يلتقيان في باريس ولكن من دون أن يتجرأ أحدهما على البوح به بالطبع. والسبب هو أن ألمانيا حلت المسألة الطائفية فكريا أولا، على يد كانط وهيغل وفيخته وبقية التنويريين، ثم سياسيا ثانيا، على يد بسمارك ومن تلاه. هذه مسألة أصبحت محسومة ومهضومة تماما من قبل الشعب وبرامج التدريس ولم تعد تشكل أي عرقلة في ألمانيا. لقد أصبحت وراء ظهرهم. كلهم متساوون في المواطنة والحقوق والواجبات. كلهم ألمان بنفس الدرجة. لا يوجد ألماني درجة أولى وآخر درجة ثانية أو حتى ثالثة! والألماني المتفوق يكافئونه بدلا من أن يعاقبوه! ولذلك فإن الوحدة الوطنية الألمانية راسخة رسوخ الجبال. وقل الأمر ذاته عن الوحدة الوطنية الفرنسية، الخ.. ولكن يكفي أن نعود إلى القرن السابع عشر لكي نغطس في حمأة الحروب المذهبية الطاحنة حيث لم يكن البروتستانتي يطيق رؤية الكاثوليكي والعكس بالعكس. كانوا متناحرين يذبحون بعضهم بعضا على الهوية مثلنا الآن. بل واستمرت المشكلة تنغص عيشهم طيلة القرن الثامن عشر. ولولاها لما كانت هناك حاجة إلى التنوير أصلا. قد يقول قائل: ولكن هل سننتظر 200 سنة لكي نحل المشكلة الطائفية؟ والجواب لا لسببين؛ الأول، هو أننا نعيش في عصر الثورة المعلوماتية التي اختصرت الزمن والمسافات. وبالتالي فما كان يهضم في قرنين أصبح ممكنا هضمه في نصف قرن مثلا. والثاني هو أننا محاطون بالحداثة الكونية من كل الجهات وبالتالي فهناك تسريع إجباري للتطور. نحن مراقبون من قبل أمم كبرى في الغرب والشرق وما عدنا قادرين على أن نقول أي شيء أو نفعل أي شيء. حتى أمد قريب، أي حتى 11 سبتمبر تحديدا، كانت أصوات شيوخ الجوامع سلبية إزاء المعتقدات الأخرى بلا رقيب أو حسيب. أما الآن فقد أصبح ذلك صعبا جدا. الآن أصبحت تعقد مؤتمرات عالمية لحوار الأديان أو للتقريب بين المذاهب الإسلامية… الخ. وهناك سبب ثالث أيضا، وهو أن فتوحات الأمم المتقدمة ماثلة أمامنا. وهي تعفينا من اختراع كل شيء أو إعادة اختراعه من جديد. إنها ملك لنا أيضا بل وللبشرية بأسرها. فلسفة كانط أو هيغل أو هابرماس ليست فقط للألمان! فلسفة ابن رشد كانت يوما ما ملكا لكل الأوروبيين. ولكن هذا لا يعني أن المشكلة الطائفية التي تؤرقنا حاليا وتمزق وحدتنا الوطنية ستحل في سنتين أو ثلاث! هذه مشكلة مفصلية تاريخية ضخمة لا تحل بسهولة ولا من خلال جيل واحد أو جيلين. كم أتمنى أن أكون مخطئا! ولكن ما يزيد من تشاؤمي هو أن تطبيق منهج النقد التاريخي على الانغلاقات التراثية لا يزال ممنوعا في العالم الإسلامي حتى اللحظة. وحده الباكستاني فضل الرحمن والجزائري محمد أركون طبقاه ولكن خارج أرض الإسلام: الأول في جامعة شيكاغو، والثاني في جامعة السوربون. ولو بقيا في بلديهما لما استطاعا البحث بحرية في مجال حساس جدا. ولما استطاعا إتحافنا بكل هذه المؤلفات التدشينية الكبرى. أضف إليهما عبد الوهاب المؤدب ومؤلفاته التحريرية الرائعة. من دون تطبيق هذا المنهج التفكيكي – الأركيولوجي على التراث لا يمكن أن نتخلص من منظور القرون الوسطى التكفيري الإقصائي. عندما نخرج من هذا المنظور الإقصائي للدين يمكن أن نعترف بوجود عدة طرق إلى الله لا طريق واحد على عكس ما يزعم المتطرفون. والغريب العجيب أن القرآن الكريم يعترف بمشروعية التعددية الدينية «ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» ولكن ليس فقهاء الفضائيات! فهل كلام البشر أعلى من كلام القرآن؟!
هذه الطفرة المعرفية الحاسمة استغرقت من الغرب المسيحي ثلاثمائة سنة حتى تجرأوا عليها وحققوها إبان انعقاد مجمع الفاتيكان الثاني عام 1962 – 1965. عندئذ تخلى الفاتيكان لأول مرة عن لاهوت التكفير واعتنق مكانه لاهوت التحرير والإيمان المستنير. وهو إيمان رحب واسع يتسع لكل خلق الله الصالحين أيا تكن أديانهم أو مذاهبهم. أما نحن فيمكن أن نحقق هذه القفزة خلال الثلاثين سنة المقبلة ولسنا بحاجة إلى ثلاثة قرون! هذا هو حرق المراحل أو تقليصها. ولكن هضم هذه الثورة الدينية الكبرى من قبل الجماهير الشعبية سوف يستغرق وقتا أطول بكثير. بل وحتى الكثير من المثقفين أو أشباه المثقفين والحركيين السياسيين الانتهازيين بحاجة إلى تحرير وليس فقط الجماهير! وبعضهم أخطر بكثير لأنهم يدعون الحداثة والديمقراطية ثم يلقون بأنفسهم في أقرب فرصة في أحضان شيوخ التكفير والظلام! أخيرا فإن التواريخ التي أقدمها عن آفاق التطور العربي تقريبية. أحيانا أقول ثلاثين سنة وأحيانا خمسين أو حتى سبعين سنة.. المقصود من كل ذلك أن شيئا ما سيحصل في عالم الإسلام لا محالة خلال السنوات القادمة. وهو شيء منتظر بفارغ الصبر من قبل العالم أجمع!