بقلم جمال أبو الحسن/
مجلة التايم اختارت “كاسرات الصمت” شخصية هذا العام (2017). إنهن النسوة اللاتي خلقن حركة عالمية لفضح تحرش الرجال وتجاوزاتهم احتماءً بسلطتهم أو نفوذهم أو شهرتهم. المجلة تقول إن الحركة بدأت – كما هو حال أي تغيير اجتماعي ضخم- بأفعال من الشجاعة الفردية: نساء قررن أن يكسرن جدار الصمت والخزي الذي يلف ما تعرضن له من انتهاكات وإهانات وتهجم. التايم تضيف أن الحركة تعكس واحداً من “أسرع التحولات في ثقافتنا منذ الستينيات”. وسائط التواصل الاجتماعي لعبت دوراً محورياً في تحويلها إلى حركة عالمية شملت كل أركان المعمورة تقريباً.
“حركة كسر الصمت” تعكس نوعاً من تحدي الهيمنة الذكورية المُستندة إلى واقع اجتماعي/ثقافي عميق الجذور، في كافة الثقافات والحضارات تقريباً. هي تطرح سؤالاً أعمق حول دور النساء في المجتمعات الإنسانية عبر التاريخ. كيف تشكل هذا الدور؟ هل له أصل بيولوجي أو اقتصادي ..ربما؟ أم أن جذور الهيمنة الذكورية ثقافية في الأساس؟ هل الأدوار التي انحصرت فيها المرأة لها أصول قديمة وغائرة في رحلة التطور الإنساني؟ كيف تتغير هذه الأدوار؟
الإجابة القصيرة هي أننا لا نعرف بالضبط كيف بدأ التمييز بين أدوار الرجال والنساء في المجتمعات. هناك نظريات كثيرة، ولكن لا يقين كاملاً بشأن أي منها. انعدام اليقين يفتح الباب –ولو قليلاً- للتأمل الحُر في المسألة.
المؤكد أن المجتمعات التي سبقت الزراعة، والتي عاشت على الجمع والالتقاط لعشرات الآلاف من السنين كانت أكثر مساواة بكثير. خلص العلماء إلى هذه النتيجة من خلال دراسة المجتمعات البدائية التي استمر بعضها قائماً حتى وقت قريب، وكذلك من دراسة مدافن الرجال والنساء من العصور السابقة على الزراعة. الصورة العامة تشير إلى قدر كبير من المساواة، بل إن بعض المجتمعات البدائية كانت تقوم على العلاقات المتعددة (للمرأة وليس للرجل!). وهناك آثار باقية لمجتمعات كانت تعبد المرأة باعتبار أن الحياة تخرج من جسدها.
ثمة تفسير – شائع وأقرب للحس العام- يقوم على أن القوة الجسدية هي أصل هيمنة الذكور. أصل هذه الفكرة أن السلطة ظاهرة تعتمد أساساً على القوة. وحيث أن الرجل أقوى جسدياً من المرأة، فقد تمكن من الاستئثار بالسلطة منذ وقت مبكر في رحلة البشرية. ترسخ هذا الاحتكار بالتدريج عبر الأجيال حتى صار من المسلّمات في مختلف المجتمعات.
هذا التفسير لا يقدم حجة مقنعة. لا ارتباط حتمياً بين السلطة والقوة الجسدية. كبار السن، وهم الأضعف جسدياً، حازوا سلطات كبيرة في المجتمعات عبر التاريخ. القوة الجسدية في حد ذاتها لا تضمن الحصول على السلطة التي تعد ظاهرة أعقد كثيراً تتطلب مهارات مختلفة على رأسها صناعة التوافق. ليس هناك سبب موضوعي يمنع تمتع النساء بمثل هذه المهارات الاجتماعية في جوهرها.
هناك تفسير أكثر إقناعاً يتعلق بالانتقال من الجمع والالتقاط إلى الزراعة. هذا الانتقال ضرب فكرة المساواة في مقتل، وحكم على النساء بدورهن الأبدي خارج المجال العام. بعض النظريات يشير إلى أن هذا الانتقال نفسه جاء بدافع من النساء بسبب مشقة حياة الجمع والالتقاط. إنها حياة تقوم على الترحال الدائم الذي يتعارض مع الحمل المتكرر ورعاية الأبناء.
الزراعة حتمت توزيعاً واضحاً للمهام، ونوعاً من التراتبية (الهيراركية) في المجتمع. المرأة تقوم بالأعمال التي تستطيع خلالها، وأثناء مباشرتها، رعاية الأطفال، في حين يتكفل الرجل ببقية الأعمال. المرأة في المنزل –أو في محيطه القريب- والرجل في الخارج. هذا هو التفسير الأقرب للمنطق. إنه يتعلق –كما ترى- بالمهمة الإنجابية للمرأة.
مع الزراعة ولدت ظاهرة السلطة. توزيع الفائض من الحبوب، وحسم الخلافات في المجتمعات كبيرة العدد احتاج إلى قادة. أغلب التفاعلات الخاصة بظاهرة السلطة تحدث خارج المنزل. هذا ما نسميه اليوم بالمجال العام الذي ينصب أساساً على تنظيم ممارسة السلطة وفرز القيادات. النساء كُن معزولات بصورة شبه كلية عن هذا المجال. كان طبيعياً ألا تصل أي منهن إلى موقع القيادة في المجتمعات الزراعية إلا في ما ندر. هكذا ولد أصل التمييز في الأدوار.
التمييز بين الرجال والنساء يرتبط إذا بظاهرة السلطة. السلطة –في أبسط معانيها- هي حالة من التنظيم الهيراركي للمجتمع تمنح قلة قليلة القدرة على التحكم في الأغلبية. منذ اللحظة الأولى، وجدت المرأة نفسها في مكانة دنيا في هذا التنظيم الهيراركي. وبرغم جمود هذا التنظيم في المجتمعات الزراعية (التي عاش الغالبية الساحقة من البشر في كنفها حتى 200 عام مضت)، إلا أن بعض الفئات والأفراد تمكنوا في لحظات معينة من كسره. ينطبق ذلك مثلاً على ثورات العبيد المختلفة، أو على تحدي فكرة أرستقراطية المولد كأساس للسلطة أو الثروة، أو على الأديان الإبراهيمية التي رسخت مفهوم المساواة الشاملة بين البشر. على أن المرأة صادفت صعوبة هائلة في تحدي هذه الهيراركية لسبب بسيط: العبد قد يتخلص من عبوديته بالتحرر، أما المرأة فلا مجال أمامها لتغيير حقيقة كونها المرأة. ربما يفسر ذلك أن دعاوى تحرير العبيد سبقت أفكار تحرر النساء أو مشاركتهن في السلطة أو الحياة العامة.
خروج المرأة للمجال العام ظاهرة جديدة تماماً على المجتمعات الإنسانية. ربما تمثل هذه الظاهرة الفرق الجوهري الذي يميز القرن العشرين عن جميع القرون السابقة عليه. أهم معركة خاضتها المرأة لم تكن الحصول على حق الاقتراع، وإنما الإقرار بفكرة تنظيم النسل عن طريق حبوب منع الحمل. “الحبة” –كما صارت تدعى- كانت ثورة كاملة لأنها مكّنت المرأة، للمرة الأولى في التاريخ، من التحكم في عملية الإنجاب. ترافق ذلك مع التحول للصناعة وخروج المرأة للعمل بعكس دورها المحصور في البيت في المجتمعات الزراعية. النتيجة الطبيعية كانت كسر احتكار الذكور للسلطة، وتغيير الهيراركية الثابتة في المجتمعات الإنسانية بصورة جذرية وغير مسبوقة.
“حركة كسر الصمت” –بهذا المعنى- تمثل في هذا التحول المستمر منذ عصر الثورة الصناعية. لن تكون الحلقة الأخيرة!
شبكة الشرق الأوسط للإرسال