الشرق الاوسط اللندنية
تروى نادرة من نوع «المضحك المبكي» من أيام الحرب اللبنانية بطلها النائب السابق الراحل في البرلمان جورج عقل. فخلال يونيو (حزيران) 1981، أمكن التوصل إلى تفاهم لإنهاء الحصار العسكري الذي فرضه الجيش السوري على مدينة زحلة، كبرى المدن المسيحية في لبنان، لمدة سبعة أشهر وراح ضحية المعارك التي تخللها أكثر من ألف قتيل.
وأثناء لقاء لفعاليات المدينة بعد إنجاز التفاهم، وقف جورج عقل – وهو الكتائبي العتيق – أمام مستمعيه المذهولين ليقترح تشكيل وفد يتوجه إلى دمشق لتوجيه الشكر باسم زحلة وأهلها للرئيس السوري – يومذاك – حافظ الأسد. وعندما سأله بعضهم عن المبرر بعد كل ما سببه من آلام للمدينة، أجاب عقل «لأن الرئيس برهن لنا أنه يحب زحلة أكثر مما يحب حماه!»، في إشارة إلى المجزرة التي ارتكبها الأسد «الأب» في حماه عام 1982 وراح فيها ما بين 20 و40 ألف قتيل.
هذه النادرة المؤلمة تعطينا فكرة عن مقدار «حب» الأسد «الابن» – وهو الطبيب المفترض فيه أنه يعالج المريض ويداوي الجريح ويخفف عن المفجوع – لحمص وحلب ودمشق ودير الزور ودرعا وغيرها من مدن سوريا وقراها.
ولكن مع هذا، ما عاد جائزا تجاهل جملة من الحقائق المؤلمة، التي هي في غير مصلحة الشعب السوري، ولا أشقائه في الوطن العربي، ولا أدعياء الدفاع عن الإنسانية وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم على امتداد العالم.
بعد نحو 100 ألف قتيل وتجاوز العدد الرسمي الموثق عند الأمم المتحدة للاجئين أو المهجرين السوريين خارج بلادهم المليون لاجئ، خلال سنتين فقط، ما زال هناك داخل سوريا عسكريون يطيعون أوامر جلاوزة النظام، و«شبيحة» يخطفون ويعتدون ويقتلون، وإعلاميون يضللون، وساسة مأمورون يطأطئون الرؤوس وينفذون التعليمات، ومندسون مشبوهون في صفوف المعارضة السورية يؤدون – كمعارضين – كل أدوار التعطيل والإرباك التآمرية الموكلة إليهم.
بعد مآسي سنتين كاملتين، لم تقتصر على القتلى واللاجئين، بل شملت أيضا تمزيق نسيج المجتمع السوري وتدمير مقوماته، واستدعاء شراذم التطرف التكفيري من كل الأنواع والألوان ومن مختلف دول العالم، لابتزاز الرأي العام الدولي وإكساب القمع الدموي شرعية الدفاع عن النفس، صدّق كثيرون الابتزاز واستسلموا له.
كثيرون من طفوليي اليسار وتجار شعارات النضال ودجالي العروبة المغيبة ما زالوا يصدقون نظام بشار الأسد بعد كل ما حدث ويحدث من جرائم.
بعد انكشاف موقع نظام دمشق في نقطة التلاقي المحورية لمشروع الهيمنة الإيرانية والتواطؤ الإسرائيلي معه في منطقة الشرق الأوسط، ما زال هناك من يزعم أن بقاء النظام ضروري من أجل «إنقاذ المنطقة من آفة الطائفية والمذهبية». وكأن حكام طهران مدرسة في العلمانية والتسامح، أو من أجل «حماية المقاومة والتصدي لإسرائيل». وكأن خطوط التماس في الجولان تتأجج بنيران التحرير الوشيك أو أن إسرائيل تتحرق لنهاية حكم كان حليفا مستترا لها لأكثر من 40 سنة.
بالأمس دار حوار عن الوضع في سوريا بيني وبين صديق بريطاني يساري مزمن، ومستعرب متحمس لكل قضايا العدالة في العالم. وفجأة وجدت نفسي أتكلم مع شخص «دوغماتي» يعيش في عالم من الشعارات النضالية التي أجاد المتاجرة بها بعض مناضلي الصالونات العربية من الذين يرفضون نسيان مجزرة دير ياسين، لكنهم يرون إيجابيات «فرضتها الضرورات» في قتل عشرات الألوف من السوريين وتهجير مليون آخرين!
صدمت من موقف الصديق، ولا سيما بعدما قال لي إنه أولا يشكك كثيرا في أرقام الضحايا – مع أنها قريبة جدا من أرقام مفوضية حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة – وثانيا، أنه لا يود أن يرى «القاعدة» تتولى الحكم في دمشق. لكنني، مع ذلك أتفهم، من دون موافقة، لماذا يفكر شخص إنساني وطيب بطبيعته بهذه الطريقة المرتبكة، كي لا أقول الخرقاء.
لا بد من الاعتراف أن نظام بشار الأسد نجح جزئيا – والأرجح مرحليا – في استحضار «البعبع» التكفيري. لقد كانت هذه الورقة موجودة على الدوام في جعبة النظام، صاحب الخبرة الطويلة في استغلال الجماعات التكفيرية إقليميا، وكان – تماما على غرار تعامل طهران مع «القاعدة» واستغلاله إياها – يعمل على إطالة أمد المواجهة مع الثورة ودفعها دفعا نحو اليأس فالتطرف، ومن ثم استدعاء «الجهاديين» و«التكفيريين» من الخارج، لابتزاز الغرب بهم.
من هذه الزاوية، بجانب زوايا أخرى، يمكن النظر إلى المبررات الهشة لتردد واشنطن في إسقاط نظام الأسد، وفهم كلام وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ الذي قال أخيرا إن سوريا غدت المقصد الأول عالميا للجماعات الإسلامية المتطرفة. مع العلم أن هيغ قال ما قاله في سياق التنبيه إلى مخاطر استمرار هذا الوضع لفترة أطول.
والواقع أن هذه الحال تعيدنا إلى الجدال القائم منذ بدء ظهور سلبيات الأنظمة البديلة لتلك التي أطاحها «الربيع العربي». وفي اعتقادي يجب الأخذ في الاعتبار الآراء التي تقول إن أوضاع بعض بلدان «الربيع العربي» باتت اليوم أسوأ بكثير عنها في فترات حكم الأنظمة المخلوعة.
هذه الآراء تتفق معها ألوف مؤلفة من التونسيين والمصريين من رافضي التطرف والهيمنة، ومن الليبيين القلقين من تردي الأمن، واليمنيين والسوريين المتخوفين من تمزيق وحدة الوطن بفعل التناقضات المتفاقمة بدعم من أطماع إقليمية. إلا أنني، في المقابل، أعتقد أننا الآن في وضع يشبه ذلك الذي يسعى للتخلص من بساط قديم مضى على مده عقود من الزمن، لكنه ما إن يرفعه عن الأرض حتى يجد تحته ما يجده من عفونة وأوساخ.
ما نراه اليوم في دول «الربيع العربي» من انغلاق سياسي متحجر وإلغائي، وانهيار مخيف لمؤسسات الحكم ومنظمات الشأن العام والمجتمع المدني، وتراجع لمستويات الوعي والثقافة والمعرفة، وتحلل في النسيج الحافظ للتعايش، إنما هو نتاج طبيعي جدا لأربعة عقود من التسلط والفساد وتغييب المواطنة ومصادرة الحريات.
نحن، بكل أسف، نحصد ما زرعوه باسمنا على امتداد أربعة عقود. ومع هذا فإننا نتغافل عن واجب التعاطف مع معاناة الأبرياء ونتجاهل مبادئ حقوق الإنسان التي طالما تباكينا عليها واتهمنا الآخرين بدوسها بالأقدام.