تمتلك أدبيات الفكر الإسلامي وبلاغاته المتنوعة قدرة كبيرة ومخزوناً هائلاً لتبرير وجود نمطياتها الإسلامية التاريخانية المتعددة، وهي تخوض في عملية دفاعية مستميتة؛ للذب عن وجودها وقوامتها باتجاه أفقي الطرح والتلقي، إذاً لا يمكن أن ينظر إلى أدنى محاولة رأسية تغوص في عمقها وتقوم بعملية تفكيكية لمكوناتها إلا بعين الشك والريبة، على أنها عملية تقويضية تصل في غالبها إلى التكفير.
وتكمن إشكالات هذه المدرسة (أعني المدرسة الكلاسيكية الجامدة ذات المشارب المحددة) أنها اصطفائية القراءة أحادية التوجيه انفرادية في قراراتها، وهي مدعومة بقوة السلطات الثلاث المستحكمة على مفاصل الحياة برمتها، لذلك أسفرت هذه المدرسة وعبر تجاربها المتكررة إلى فشل ذريع، وحتى لا تذهب القراءات المتعجلة ببعضهم إلى تأويلات مغرضة بعيداً عن المعنى المقصود فيجب التأكيد على أن فشل التجربة الدينية لا يعني بالضرورة فشل الدين برمته، من حيث هو عبادات وتشريعات وعقائد تتماسّ مع الروح والأخلاق، منها قطعي الثبوت والدلالة، ومنها دون ذلك، مما يدخل في حيز الاختلاف؛ فالفشل المعني هنا هو نتيجة للعطب الذي لحق بأدوات العمل الديني وآلياته غير المتوافقة مع متغيرات العصر واتساع متطلباته، لأسباب أهمها: اعتساف عملية التشغيل، حيث سلمت الشريعة -ومعها العقيدة- إلى حفاظ غير قادرين على فهم مدلولاتها، ومن ثم عجزوا عن الاجتهاد المنفتح على كل المتغيرات، من الأسباب أيضاً: إهمال إعادة التدوير المستمر لمكوناتها والقيام بصيانة حاذقة وماهرة لها واستخلاص القيم المرنة ذات البعد الإنساني، والمرتبطة بالواقع والدافعة لعجلة النمو والتطور، وبهذا سيتحقق المعنى الكلي من القيم الدينية الدافعة لقوى الإنسان الكامنة والمحررة له من كل أدوات الاستضعاف والاستبداد الموصوفين بالقرآن الكريم (الجبت والطاغوت) وما لم يحدث ذلك فسيظل الدين مرتهناً لذات الجبت والطاغوت وملتبساً ومتماهياً معه بشكل من الأشكال، فالدين الحقيقي لا يمكن أن يتضمن داخله سوى مقومات النهضة والتحرر، على اعتبار أن الغاية الحقيقية منه تجريده من تقديس ذاته، مع تنامي السلطات الممنوحة له، إلا أنه قد يغمز من قناته؛ للاستحواذ على الضعفاء المؤمنين، واستعبادهم بنصوصه وفق مفاهيم ورؤى وتصورات لا يمكن أن تتصف إلا بالتزييف الخبيث والتلبيس المقيت، الذي يسحب البسطاء ودهماء الناس، مرغمين لسلطته بطريقة أكليروسية. وقد تنامت في عالمنا الإسلامي على مر العصور هذه الأشكال الملتبسة بالدين، وتفرعت -أو بمعنى أصح تفرعنت- بما يقترب إلى التقسيمات الكهنوتية المسيحية، فما تلك الصورة النمطية للشيوخ أو العلماء المنسوبين إلى الدين المحتكرين له بدفع سلطوي إلا صورة من صور الكهنوتية التي ألحقت بها أوصافاً متعددة، واستشرت بين الناس بروح تقديسية، حتى وضعوا في مقامات تنأى بهم عن طبيعة الإنسان المحضة، وقد لا يكون ذلك عن طيب خاطر، إنما هي متطلبات سياسية لها مستندات شرعية مزوّرة، تمنحهم الحق من دون غيرهم، بغيةَ استدراج الناس وإسقاطهم لا إرادياً في دائرة السياسي، إذ أصبح التعالق بينهما على مر العصور كالارتباط الشرطي بين اللازم والملزوم، وبهذا التطبيق المفاهيمي النفعي الديماغوجي للدين تكوَّن شكل آخر للجبت والطاغوت ذي قبضة حديدية ماكنة، إذاً لا يمكن الفكاك منه هذا الثنائي، وهما محكومان بأدوات نصية قطعية الثبوت قطعية الدلالة، إلا بأدوات تفكيكية عقلانية شمولية أقوى ليس للمقاومة المسلحة فيها مكان، كما لا يمكن القيام بهذه المراجعات داخل أروقتهما، إذ إنها ستحيل العملية برمتها إلى مواجه وصراع يبدأ بالتجهيل ثم الإقصاء وأخيراً التكفير، وهذا تحديداً ما يدفعنا إلى التفكر ملياً في طبيعة تشكيلات كل المذهبيات الدينية التي قامت على أساسها الدويلات الثيوقراطية الإسلامية في قرون ماضية، وظهور جماعات دينية مناوئة لها ظلت تحارب من أجل إيجاد موقع قدم لها على خريطة العالم الإسلامي الواسع، حتى استجلبت معها أطماعاً استعمارية دشنت بهجمات المغول والحملات الصليبية وانتهت شكلياً بتقسيمات «سايكس-بيكو»، لتخلف دماراً رهيباً على كل الأصعدة نتكبد اليوم آثار متروكاتها، إذ تفتقت أمتنا عن ذهنية مرتبكة لم تستطع حتى اليوم استجماع نثارها في هوية واحدة تصفها جيداً، ومع فشل كل التجارب الدينية إلا أننا اليوم نصر بشكل قاطع على أن الإسلام هو الحل، والقصد من ذلك الإسلام الممنهج وفق إرادة سياسة، وليس الإسلام ببعديه الروحاني والأخلاقي ديناً بشرياً يتسع لكل الأمم ويتسع لكل المتغيرات ما دامت تعبر عن قيم العدالة والحرية والمساواة، لذلك فإن ما يدعو إلى السخرية أن كل أولئك الداعين إلى أسلمة الدول تقافزوا كعفاريت العلبة بشكل فاضح ومريب وراء غواية الانتخابات السياسية؛ للمشاركة في العملية السياسية وفق القوانين والدساتير الوضعية، التي جاءت بها الديموقراطيات الحديثة، كما حدث في بعض الدول العربية، وبناء عليه تتم مؤازرة كل الأحزاب ذات الانتماءات الدينية كحزب العدالة والتنمية ذي الاتجاه الإسلامي والتطبيقات العلمانية المتسنمة للسلطة في تركيا أخيراً، ومن حاول أن يحذو حذوهم كالإخوان المسلمين، فأصبحوا بذلك علمانيين وهم ومن ناصرهم من مشايخ الصحوة عملياً أكثر ممن كانوا يتهمونهم بالعلمنة الفكرية على منابرهم.
والسؤال: هل هذا الاتجاه الجديد في الحراك الإسلامي نابع من إدراك فحوى الإسلام ومقاصده الحقيقة المتضمنة الحرية والعدالة والمساواة، والخلاص من استعباد مفاهيم النصوص الجامدة للعقول؟ إن كان هذا حقاً ما يحدث فهو تحول جذري في الوعي وبداية تفكيكية للرؤية النمطية التاريخية للحكم، فلو اتحدت هذه القوى تحت لواء واحد شريطة ألا تكون مخاتلة، تتمرحل وفق مفاهيمها القديمة مع المتاح الممكن، لتنقلب عليها متى استبدت بالسلطة، أقول لو اتحدت بصدق لاستطاعت مع الزمن وإن طال اكتساح كل الهياكل الصنمية الجامدة، ودفعها إلى التحول الديموقراطي وسن الدساتير الواقعية الحية والقوانين الإنسانية المنصفة؛ حفاظاً على قيوميتها وديمومتها السياسية، وستكتشف حينها أن الدين بتطبيقاته الحالية وآلياته القديمة لا يعدو أن يكون منظراً جميلاً لعربة من دون محرك، أو جسداً محنطاً بلا روح، فإن لم تفعل فستفرخ جماعات تحسب على الدين، مزودة بالنصوص الشرعية ذاتها، تنتهك المحارم وتقطع رؤوس الناس علناً. كالجماعات الجهادية المسلحة التي تحمل النصوص الشرعية نفسها (قرآن وسنة) من أجل تكوين دولتها بقوة السلاح مثلها مثل غيرها ولسان حالهم يقول: «كلنا في الهوى سوا».