خرجت بعض وسائل الإعلام المغربية بخبر جارح صادم، خبر قروسطي لا يتقادم إلا بتعديل المغرب لقوانينه المعمول بها حاليا، خبر يحيل على التخلف والانغلاق والجمود، يقول بأن رجال الدرك الملكي هاجموا منزلا بإقليم الدريوش (في منطقة الريف في الشمال الشرقي للمغرب) كان يؤوي امرأة ورجلا من أصول هولندية ومعهما امرأة مغربية ؛ اعتقلوهم (متلبسين)؛؛
نعم، متلبسين…!!
هذه هي التهمة كما جاءت في الخبر بالنص: اعتقلوهم «متلبسين بحيازة عشرات النسخ من الإنجيل والعهد الجديد، ودلائل صغيرة لتبسيط التعاليم المسيحية، ونبذات مختصرة عن يسوع، مرفقة بصور توضيحية» (انظر الصورة أسفله).
فيا للتهمة ويا لخطورتها!
بل “يا للمصيبة” ـ كما يقول إخواننا المصريون ـ!
وإذا كان الذي نشر هذا الخبر قد كتبه بأسلوب يوحي بأنه يشعر بالفخر والاعتزاز لما أقدم عليه رجال الدرك، ولما أبان عليه رجال المخابرات من يقظة واستباق لمحاصرة الجريمة قبل وقوعها،،
فلقد قرأته ونفسي تتمزق حسرة مما أقرأ.
قرأت هذا الخبر فانتابتني أحاسيس متداخلة متراكبة، أكاد أعجز عن وصفها:
شعرت أولا بأن حقوق الإنسان لا محل لها من الإعراب في دولتنا،، وأنها تُخرق جهارا نهارا ؛ إذ من بين أهم مبادئ حقوق الإنسان: حرية الاعتقاد، وحرية ممارسة المؤمن بأي عقيدة لطقوسه وشعائره، فردا أو جماعة.
وشعرت ثانيا بالاحتقار الذي تُعامِل به الدولة مواطنيها واستصغارهم، واعتبارهم قاصرين أو عاجزين.
وشعرت ثالثا بأن دولتنا تكاد تقول باللسان الفصيح (أو هي تضمر في نفسها سرا تخافه أن ينفضح)، أنها دولة مبنية على أسس واهية وقواعد هشة، قوامها الدين الإسلامي الذي تعتقد أنه السبيل للإبقاء على تحكمها في رقاب مواطنيها، بما يدعو إليه من طاعة وخنوع، واتباع أعمى، والبقاء داخل الجماعة، وما ييسره لها من استلاب فكري، وقمع لأي مروق أو رغبة في التغيير، ومحاصرة للشعب لمنع أي احتكاك لأفراده بمخالفيهم في الرأي أو في الدين أو حتى في المواقف السياسية المغالية أحيانا. وكل ذلك إنما هو رُهاب لدى الدولة لا مسوغ له، حيث أثبت علم النفس أن الخوف الذي قد تنجم عنه كوارث فظيعة، كثيرا ما يكون مبنيا على أوهام لا وجود لها. وخوف الدولة من خروج المواطنين عن طوعها وطاعتها بإطلاق حريتهم في اعتناق العقيدة التي يختارونها، هو من ذلك الرهاب التوهمي القائم على غير أساس.
ثم كان الشعور الأكثر إيلاما، والأعمق جرحا: شعوري بأن هذا التصرف اللاحقوقي الذي أقدمت عليه السلطات المغربية في الدريوش ـ وغيرها من جهات المغرب ـ إنما يعبر عن واحد من أمور ثلاثة، أو عنها جميعا:
فإما أن الدولة تعرف أن الدين الإسلامي دين هش، يمكن اختراقه وإقناع الناس بهشاشته، فهي تحارب كل من يحاول أن يتصل بهؤلاء المواطنين المسلمين حتى لا ينتبهوا إلى أنهم على غير شيء، وأن الدين الذي يعتنقونه لا يقوى على الصمود في وجه الطاعنين عليه أو مُسفهيه أو منتقديه.
أو أن الدولة مقتنعة بأن إيمان مواطنيها بالدين الإسلامي، إنما هو إيمان هش ضعيف، يمكن زعزعته بكل سهولة بالتناظر والتحاور، مما قد يؤدي إلى تشجيعهم على الانسلاخ منه واعتناق دين آخر بدله؛ يرونه أقوى حجة، وأبلغ إقناعا.
أو قد تكون الدولة تتصور أن ما يظهره المواطنون من إيمان بدين الدولة، لا يعدو أن يكون تظاهرا من باب المراءاة أو طلبا للسلامة والابتعاد عن أعين المخابرات التي تترصد حركاتهم وسكناتهم، خشية أن يتحولوا إلى دين يختارونه لأنفسهم بدل الدين الذي اختارته الدولة لهم، مما يدل على سوء ظنها بالشعب واستهانتها بعقله وتفكيره.
إن المؤمن، أي مؤمن؛ مسلما كان أو مسيحيا أو يهوديا أو بوذيا أو هندوسيا أو حتى طوطميا؛ إذا كان مقتنعا اقتناعا راسخا بما يؤمن به، غير قائم على التبعية والتقليد، ولا يتعارض مع العقل والمنطق السليم؛ فإنه لا يمكن أن يتزحزح عن عقيدته إلى غيرها، لأنه سيكون يملك من الحجج الإقناعية ما يكفيه للتمسك بدينه أو معتقده، وردِّ طعون الطاعنين؛ بل إنه قد يتحول من مسلم مستهدَف بالتبشير مثلا إلى داعية لمبشره بالدخول في الإسلام، وإقناعه بصحة رسالته، وصدق نبوة رسوله، وسماوية تشريعاته.
ولذلك فإن خوف الدولة ـ ومعها شيوخها ودعاتها، أو بوحي منهم ـ من تحول المواطنين المغاربة عن دينهم الإسلامي، إنما يدل على إيمانها بسهولة إقناع هؤلاء المواطنين بالإقدام على هذا التحول؛ وهو ما يمكن حملُه على الإقرار الضمني بهشاشة هذا الدين وخوائه، وتوخي الدولة وعلمائها الحذر من اكتشاف المغاربة لهذه الحقيقة المرعبة.
كما أن تقنين منع الدولة المغربية للتبشير بدين آخر فوق أراضيها، هو تأكيد عملي على شعورها وشعور علمائها وشيوخها بخطر حقيقي يهدد الدين الرسمي للدولة، قادر على تقويضه ونسفه، ومن ثم فقد أصبح الخوف من هذا التهديد يتحكم في وضع قوانينها، ويوجهها في تصرفاتها إزاء مواطنيها وإزاء المبشرين أو الأجانب الذين يختلطون بهم، أو يتواصلون معهم.
فهل أصبح المواطن المغربي مستلَبا من الناحية العقدية، ومحكوما عليه بالتأبد على الوضع الذي وضعته فيه الدولة؟
هل يعقل أن دولة تستغل كل الأدوات التحكمية الممكنة لترسيخ عقيدتها:
ـ بدءا بالدعايات المبثوثة حيثما ولّى المواطن وجهه في كل وسائل الإعلام السمعية والبصرية، والمساجد، والدورس الدينية، ومواقع التواصل الاجتماعي، والقنوات الخاصة بالوعظ والإرشاد والقرآن الكريم، والأشرطة الدينية التي تغرق السوق، وتعرض على الأرصفة وفي الطرقات وفي وسائل النقل بأبخس الأثمنة، والتي لا تحيد مواضيعها عن لزوم الطاعة، وفريضة الولاء، وعدم الخروج عن الجماعة، والمصير المرعب الذي ينتظر الكافر في الآخرة، وعقوبة المرتد، وعذاب القبر، وفضائل الامتناع عن طرح السؤال إلا فيما يتعلق بالفرائض والنوافل والحلال والحرام،،
ـ ومرورا بإضعاف التعليم واعتماد مناهج تقوم على شحن أدمغة التلاميذ بما هم ليسوا مؤهلين لفهمه واستيعابه، بتحفيظهم كلاما يرددونه دون فهم كالببغاوات، وتعذيبهم بحمل أسفار وخليط من الكتب والدفاتر كأنهم يحملون على ظهورهم كومة من المتلاشيات، لا تنسيق بين عناصرها، وليس لها هدف تربوي دقيق إلا الانتقال إلى المستوى الدراسي الموالي،،
ـ موازاة مع إنهاك قدرات الشعب وطاقاته ماديا واجتماعيا ليزيد من ربط علاقته بالآخرة رجاء تعويضه عن معاناته في الدنيا وحرمانه من نصيبه فيها..
ـ وانتهاء باستعمال الطرق العلمية والتقنية الحديثة والمتقدمة لغسل الأدمغة وتسطيحها، أو تخديرها
فهل يعقل أن تكون دولة بكل هذه الإمكانيات والوسائل ثم تخاف أن يكون لمبشر من التأثير على مواطنيها أكثر مما تحققه لها تلك الوسائل والإمكانيات من تأثير عليهم؟
أو هل يعقل أن تكون دولة واثقة من قوة دينها الرسمي وصلابته، ومطمئنة للاقتناع الراسخ لمعتنقيه بصحته وصوابه، أن تمنع مبشرا يحمل كتابا من أن يقرأه على الناس؟
لقد برر دعاة الإصلاح في مطلع القرن العشرين محاربتهم للتبشير ودعوة الناس إلى عدم مخالطة المبشرين، باعتبار الدور الخطير الذي قام به المبشرون خلال القرن التاسع عشر وقبله، والذي مهَّـد لاستعمار الدول العربية من قِبل الدول الغربية، إذ كان المبشرون بمثابة جواسيس ينقلون أخبار تلك الدول وأحوالَ شعوبها وأوضاعَهم الاجتماعية والثقافية إلى ساستهم، وكانوا ينقبون في التراث العربي والإسلامي للبحث عن مكامن الضعف فيه والتسلل من خلاله إلى الهيمنة على شعوبها والتحكم في ثرواتها، وهو ما كان يصطلح عليه بـ”الاستلاب الفكري”، أو “الغزو الفكري والحضاري”، الذي يهدف إلى جعل شعوب تلك الدول تتشبع بأفكار الغرب فيسهل التحكم فيها وإضعاف مقاومتها لاحتلاله لأراضيها تحت شعار جلب حضارة الغرب وتقدمه ومخترعاته إلى الشرق ـ (لا ننسى أن آلة تصوير ودراجة هوائية فعلت بتاريخ المغرب ما لم تقدر على فعله أقوى الجيوش الاستعمارية التي حاولت أن تدخُله عنوة) ـ، فكان لابد من التصدي لهذا النوع من الغزو التبشيري، لأنه كان يستهدف شعوبا تطغى عليها الأمية المطلقة، ويفتقر مواطنوها إلى أبسط مقومات التفكير العقلاني والمجادلة العلمية ورد الحجة بالحجة،، بالإضافة إلى الفقر المذقع الذي كان عليه غالبية الناس في تلك الدول العربية، وما كانوا يعانونه من استبداد وتسلط الدولة على مقدراتهم وممتلكاتهم، وإنهاكهم بالضرائب والجبايات، واستعبادهم بشتى طرق الاستعباد (كـ”الكُـرْفي” في المغرب، وهو إرغام المواطنين على العمل في أراضي وضيعات القياد والباشوات وكبار الحكام والمسؤولين بدون مقابل؛ إلا قليلا من طعام رخيص يسدون به رمق جوعهم حتى لا يضعفوا عن العمل)،، مما يجعل الناس يتطلعون إلى تحسين أوضاعهم الاجتماعية ولو على حساب معتقدهم الديني..؛ لهذا لم يكن الكثير من المفكرين؛ بمن فيهم العلمانيون، يعارضون التصدي للتبشير ـ وأقول التبشير وليس الاستشراق الذي استفاد منه التراث العربي والإسلامي الشيء الكثير ـ باعتبار أن التبشير كان ذا أهداف سياسية واقتصادية استعمارية أكثرَ منها أهدافا إيديولوجية أو تنويرية أو ثقافية،، وحفاظا في نفس الوقت على الطاقة البشرية الخاملة، الكامنة في قلب المجتمعات العربية، قصد استنهاضها في الوقت المناسب لمقاومة الاستعمار وتحرير الأوطان منه، ومن سلطة المنضوين تحت لوائه من حكامها المستبدين، وتحقيق استقلالها الذاتي سياسيا واقتصاديا، وإقامة دولتها المدنية العصرية التي تكفل لها ترسيخ ديمقراطية حقيقية، تؤهلها لبلوغ التقدم والرقي المنشودين.
أما اليوم فقد انتفى هذا المبرر، بعد انسحاب الكنيسة من كل ما له علاقة بالسياسة، وتخلصها من أن تظل وسيلة في يد الحكومات الغربية لتيسير ظروف احتلالها للدول الضعيفة والسيطرة على ثرواتها وخيراتها، حيث أصبحت الدول الغربية اليوم لا تبحث عن استعمار الدول المتخلفة أو التي تعاني من استبداد حكامها وطغيانهم، واحتلال أراضيها وغزوها بالجيوش والدبابات؛؛ وإنما هي تسلك طريقا آخر أكثر ذكاء، وأقل كلفة، وأجلب لمزيد من الأرباح والفوائد الآنية بدون أدنى خسائر تذكر، وذلك بالتحكم في تلك الدول من خلال حكامها أنفسهم، وبواسطة حكوماتها نفسها، عن طريق غزوها من طرف الشركات الكبرى العابرة للقارات، وإنهاكها بالقروض، وإخضاعها لتدخل البنوك الدولية، وصندوق النقد الدولي في وضع سياستها العامة، وتوجيه اقتصادها، وإلزامها بتطبيق البرامج والمخططات التي تمليها عليها، الكفيلة بضمان مصالحها وهيمنتها على مقدرات الدولة ودورتها الاقتصادية.
وعلى هذا الأساس، وبانتفاء الغاية الاستعمارية عن التبشير في عصرنا الحاضر، فإن منعه في الدول العربية أو في غيرها من دول العالم، يعتبر خرقا سافرا لحق أساسي من حقوق الإنسان في حرية الاعتقاد وحرية التعبير، وحريته في ممارسة طقوسه وشعائره بمفرده أو مع الجماعة، طبقا لما نص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
لقد أصبح مدى احترام حكومات الدول لمبادئ حقوق الإنسان اليوم هو المقياس الذي تقاس به درجة التوتر في علاقتها بشعوبها؛ فبقدر ما تتسع مساحة الحريات الفردية والعامة فيها، وبقدر ما تتوافق قوانينها مع المواثيق والمعاهدات الدولية؛ بقدر ما تقل درجة التوتر بين الحكومات وشعوبها، وترتفع مصداقية الديمقراطية التي تتبناها، ولذلك فإننا لا يمكن أن نجد في أي دولة ديمقراطية قانونا يحظر على الناس اعتناق الدين أو المذهب الذي يرضونه لأنفسهم، أو قانونا يبيح اعتقال الشيوخ والأئمة المسلمين الذين ينشرون الدعوة فوق أراضيها، مهما كانت الوسائل المستعملة لنشر تلك الدعوة، من مساجد؛ أو منابر إعلامية، أو مواقع اجتماعية، أو توزيع كتب دينية لاستقطاب الناس، أو عقد ندوات أو إلقاء محاضرات في الجامعات أو في المرافق العمومية، أو عبر قنوات تلفزيونية ينشئونها في تلك البلدان، يبثون عبرها معتقداهم الدينية وأفكارهم الدعوية بكل حرية وبدون أدنى رقابة قَـبْـلية؛ ما لم يحوِّلوها إلى أوكار لبث روح الكراهية أو العنصرية، أو التحريض على القتل، أو تبني الفكر الإرهابي.
ولهذا فإنني أقول مرة أخرى أنه إذا كانت الدولة المغربية تمنع اتصال المبشرين بمواطنيها خوفا من تنصيرهم، فذلك هو الدليل على هشاشة الإسلام، أو على هشاشة إيمان معتنقيه به، أو على افتقارها للديمقراطية الحقيقية وخرقها السافر لحقوق الإنسان..
وإذا كانت الدولة المغربية تصادر كتابا يدعو إلى دين آخر غير الإسلام، فهو الدليل المادي على أنها تنظر إلى ذلك الكتاب باعتباره سلاحا فتاكا قد يزعزع كيانها، أو يغير معالمها، أو يضعف تحكمها في رقاب مواطنيها.
لقد هالني توصيف خبر اعتقال أولئك الأشخاص الثلاثة من داخل منزلهم ((بحالة التلبس))، إذ من المعلوم أن إطلاق مصطلح (حالة التلبس) إنما يكون في الجرائم التي يُضبط مرتكبوها أثناء القيام بها، أو بُعَيده وعليهم آثار تلك الجريمة من دماء أو ملابس ممزقة، أو بحوزتهم أدواتها من سلاح أو مسروقات أو رهائن، مما يعني استيفاء الجريمة لكافة عناصرها، من فعل وأدوات وضحية ومكان وزمان..
فبأي شيء كان أولئك الثلاثة متلبسين داخل منزلهم؟ وماذا ضَبطت القوات العمومية عندهم مما يفيد حالة التلبس؟
ـ لقد ضبطوهم متلبسين بحيازة «عشرات من نسخ الإنجيل، والعهد الجديد، ودلائل صغيرة لتبسيط التعاليم المسيحية»!
إنها صياغة لا تختلف عن صياغة رجال المخابرات لخبر إلقائهم القبض على إرهابيين في حالة تلبس بحيازتهم لأنواع من الأسلحة الفتاكة، والمتفجرات المدمرة، والأحزمة الناسفة..
فهل أصبح الإنجيل (وهو نفسه العهد الجديد) نوعا آخر من هذه الأسلحة المدمرة الفتاكة؟..
هل أصبح من يحوز مجموعة من نسخ الإنجيل لبيعها أو إهدائها يعتبر متلبسا بجريمة؟
ألم يحمل المغرب أطنانا من نسخ القرآن الكريم لبعض الدول الإفريقية، وحتى الأوروبية والأمريكية لجعلها تحت تصرف الراغبين في قراءته؟
ألا يؤشر اعتبار حيازة أشخاص لنسخ من الإنجيل ((تلبسا بجريمة)) يبيح للقوات العمومية اعتقالهم، على تخلف فكري وحضاري يذكرنا بالقرون الوسطى وما عاناه الفكر الإنساني من مصادرة للكتب وإحراقها وإحراق مؤلفيها أو إعدامهم؟
ألا يدل هذا السلوك على تعصب ديني مقيت، ورُهاب لدى الدولة لا مبرر له؟
ألم يكن حريا بالدولة أن تستحضر أن دينها الرسمي يقر بأن (الإنجيل) كتاب سماوي كالتوراة والتلموذ وصحف إبراهيم، وأنه إن لم يكن صحيحا كله، فليس باطلا كله، وأنه لا يمكن الوقوف على المحرَّف فيه إلا بقراءته ومقارنته بالقرآن؟
ألم يَذكُر القرآن الكريم النصارى بكثير من الخير، وأثنى في سورة المائدة على مودتهم للمؤمنين وتواضعهم بقوله: ((لتجدنَّ أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهودَ والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى، ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون))
ألم يصفهم في سورة الحديد بالرأفة والرحمة في قوله: ((ثم قفينا على آثارهم برسلنا وقفينا بعيسى ابن مريم وآتيناه الإنجيل وجعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة ورحمة))
بل إن القرآن الكريم يشهد لأهل الكتاب بما لا يضاهيهم فيه أحد من صفات الصلاح والإيمان والمعروف وعبادة الله حيث قال في آل عمران: ((ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون، ويؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين))؟
فكيف نجيز لأنفسنا أن نعاملهم بغير ما هم أهله من المودة والرأفة والإحسان؟
إن مغرب اليوم ليس هو مغرب ثلاثينيات القرن الماضي، حين تصدى علماء القرويين للظهير البربري ولحملات التنصير التي كانت تستهدف بعض القبائل في ربوع الوطن للتقليل من حدة المقاومة التي كان الاستعمار الفرنسي يتوقعها، ولترسيخ دعائمه فوق ترابه بخلق التفرقة بين أبنائه ومناطقه ذات الثقافات المتنوعة والأعراف والتقاليد المتعددة، والهيمنة عليهم عن طريق الغزو الفكري لتهييئهم النفسي للقبول بالوجود الفرنسي فوق أراضيهم..
مغرب اليوم أصبح دولة مستقلة، موقعة على الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، وعلى كل المواثيق الدولية التي تحمي تلك الحقوق وتـؤمِّـن ممارستها بكل حرية، سرا وعلانية، أفرادا أو جماعات، في أماكن عامة أو خاصة، مفتوحة أو مغلقة.
ومغاربة اليوم أصبحوا واعين ومدركين، وقادرين على التمييز بين الطيب والخبيث، وقادرين على إعمال عقولهم لاختيار الأصلح لهم، والأوفق لما يناسبهم في حياتهم ؛ فلا مجال إذن للإبقاء على معاملتهم معاملة القاصرين وغير القادرين على التمييز، وستكون إهانةً لهم، وسبةً في حق دولتهم إن هي حالت بينهم وبين حقهم في الاختيار، سواء على مستوى العقيدة أو السياسة أو اختيار أسماء أبنائهم، أو اختيار المرأة لزوجها بغض النظر عن دينه أو جنسيته أو لون بشرته أو انتمائه السياسي، دون أن تكرهه الدولة على تغيير شيء منها..
وإذا كنت أدافع عن حق المبشرين في التبشير، وحق أي مواطن في اعتناق أي عقيدة يرتاح إليها، أو حقه في عدم التقيد بأي معتقد ديني؛ فليس لأنني أتعاطف مع هؤلاء أو أولئك، أو لأنني من أتباع هذا الدين أو ذاك،، ولكنني أدافع عن ذلك من منطلق المبادئ العامة التي تدخل في نطاق حريات الأشخاص وحقوقهم المدنية والسياسية التي هي فوق كل اعتبار، دون تجزيء أو انتقاء، والتي هي الدين الأمثل الذي أومن به حتى النخاع، ومقتنع به كل الاقتناع، ومستعد لأن أتحاجج انطلاقا منه مع كل من يخالفني فيه أو يدعوني إلى اعتناق دينِ غيره.
فمتى سنصبح أحرارا في وطننا، نتمتع بكافة حقوقنا؟
١: لهم عذرهم ، لأنه عندما يتحرر عقل المواطن من عقدة الدين الفرضي سيعقبه تحرر من كل حاكم طاغي بشكل مباشر أو عرضي ؟
٢: أثبتت الدلائل والواقع أن لا سبيل للسيطرة على شعوبنا إلا بعباءة الدين ، والتي ليس فقط تعمي البصر والبصيرة بل تحولهم إلى قطيع من السذج والحمقى والمتخلفين وقد رأينا مافعلته ثورات الربيع العربي بهم قبل غيره ، لأن من يزرع الشوك لابد وأن تدمى مقلتاه وقدماه ، سلام. ؟