تدور الأحاديث والتحليلات والأخبار في موضوع موجة الهجرة السورية على حوافها بدل أن تدور حول سياقها الطبيعي. فالأخبار تنقل ما حدث هنا وهناك، وتغرق في الكلام عن المآسي، التي تخلفها موجة الهجرة من موت للسوريين في البحر المتوسط، وما يعانونه قبلها في الوصول إلى محطات الهجرة غير الشرعية في تركيا وليبيا وغيرهما، وفي وقوعهم أسرى عصابات الاتجار بالبشر والمهربين، وكيف يسلبون الراغبين في الهجرة أموالاً، تعبوا كثيرًا حتى جمعوها، فباع البعض كل ما يملك بأبخس الأسعار، واستدان آخر من الأهل والأصدقاء، وجمع بعضهم القرش فوق آخر، ليوفر مبالغ، يمكن أن تذهب سدى، وقد تذهب روحه معها. وإذا قيض له أن يصل إلى البر الأوروبي، فإن المعاناة تتواصل في فصول، تمتد من قوانين البلد العصية على الخرق إلى ممارسات رجال البوليس وعصابات قطاع الطرق وصولاً للنزعات العنصرية، التي أطلقها معارضو موجات الهجرة في الدول الأوروبية، وكله على أمل أن يجد المهاجر بلدًا، يوفر له فرصة إقامة بالحد الأدنى من حقوق الإنسان.
ويظهر جانب آخر على حواف موجة الهجرة، يمثله المواقف من الهجرة وخاصة الدول المنقسمة ما بين مؤيد ومعارض بشروط معينة، وتراوح المواقف بما فيها موقف السوريين بين الإشادة والاستنكار، والتي غالبًا ما تذهب فيها الأقوال إلى تفاصيل صغيرة، وربما إلى مفاصل تاريخية وثقافية وسياسية، يتم استعارتها للدلالة على صحة هذا الموقف أو ذاك، والاصطفاف في ظله تأييدًا أو شجبا.
وسط كم هائل من الأخبار والتحليلات والمواقف، يضيع الأساس الذي قامت عليه موجة الهجرة، التي لا يمكن أن نراها خارج ما جرى ويجري في سوريا منذ أكثر من أربع سنوات ونصف، بدأها نظام الأسد بإطلاق النار على المتظاهرين واعتقالهم، ثم دفع سياسته للهجوم على الحواضن الاجتماعية للمتظاهرين والمحتجين، قبل أن يلجأ إلى اجتياحها وتدميرها، وتهجير من تبقى حيًا من أهلها على نحو ما حصل في بانياس الساحل والقصير وعشرات المدن والقرى في أنحاء مختلفة من البلاد، فهيا الفرصة لنزوح السوريين وتشردهم، ثم جاءت المجازر وموجات الاعتقال الواسعة، لتدفع موجات النزوح الأولى نحو الدول المحيطة وسط تشجيع النظام فاتحًا حدوده بلا ضوابط لمغادرة السوريين، بل إنه شجع عملية النزوح للخارج، وخاصة للشباب والناشطين والمعارضين السياسيين بصورة عملية، وكثيرًا ما كان المعتقلون في الفروع الأمنية، يتلقون توجيهات بالمغادرة عند إطلاق سراحهم، بأنهم إذا عادوا إلى الاعتقال ثانية، فلن يخرجوا أحياء.
لقد جرى كل ذلك تحت سمع وبصر العالم كله، دون أن يحرك ساكنًا، مما شجع نظام الأسد على الاستمرار في سياسة تطفيش السوريين وإخراجهم من بلدهم. فأمعن في تلك السياسة وشددها عبر خلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء سواء في المناطق التي يسيطر عليها أو التي خارج سيطرته. ففي الأولى طبق سياسات أمنية شديدة القسوة ضد الأغلبية من السكان، وخاصة حيال الشباب عبر الاعتقالات وعمليات القتل العشوائي، وتكريس عمليات الإذلال اليومية، بالتزامن مع الغلاء وفقدان المواد الأساسية، وتزايد الفقر والبطالة، وتوقف الأعمال وتراجع الخدمات الأساسية وصعوبة الحصول عليها.
أما في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام، فقد أخذت سياسته شكلاً آخر عبر حصار كثير من المناطق على نحو ما حصل في أحياء جنوب وشمال دمشق وفي الغوطة والقلمون، التي ما زالت مدنها وقراها محاصرة منذ نحو ثلاثة أعوام، منع فيها دخول الأغذية والأدوية والمواد الأساسية، ومنع الدخول إليها والخروج منها، وكانت كغيرها من المناطق الخارجة عن سيطرته، أهدافا يومية للبراميل التي تلقيها طائرات النظام، والصواريخ التي تطلقها المدفعية والدبابات، فيما مناطق التماس صارت مجالاً لرمايات القناصين.
وطبقًا للمعطيات الدولية، فقد كانت مناطق سورية مختلفة هدفًا للأسلحة الكيماوية لأكثر من خمس وعشرين مرة، كانت الأفظع فيها عملية ضرب غوطة دمشق بالسلاح الكيماوي في صيف العام 2013. التي تسببت وحدها بمقتل نحو ألف وخمسمائة، وإصابة نحو ثلاثة آلاف من الأشخاص.
وقد عزز ظهور وممارسات جماعات التطرف والإرهاب «داعش» وأخواته نهج النظام في القتل والتدمير، ودفع السوريين لمغادرة بلدهم، لأن تلك الجماعات، سارت في تشددها وإرهابها على ذات الخط من سياسات نظام الأسد في اضطهاد السكان ومصادرة وتدمير ممتلكاتهم، وخلق مزيد من صعوبات الحياة والبقاء أمامهم في مناطقهم، ودفعهم للمغادرة إلى دول الجوار.
لقد قوبلت تطورات سوريا الكارثية بكثير من الصمت وعدم المبالاة من المجتمع الدولي بالتزامن مع تدخلات إقليمية ودولية، عززت الصراع المسلح في سوريا، وعجزت عن إيجاد حل سياسي لقضية ممتدة منذ أكثر من أربعة أعوام ونصف، دون أن يتبين لها نهاية، وكلها عوامل في انفجار موجة الهجرة الراهنة، وكل ما يقال بعده مجرد كلام على الهامش.
نقلا عن “الشرق الأوسط”