بقلم حسين عبد الحسين/
كان الباكستاني شهاب أحمد طالبا في “الجامعة الإسلامية الدولية في ماليزيا” يوم صدرت رواية “آيات شيطانية” لمؤلفها الهندي سلمان رشدي في العام 1988، قبل أن يصدر “مرشد الثورة” الإيرانية الراحل روح الله الخميني فتوى بقتل رشدي وكل من تعاون معه في نشر الرواية أو ترجمتها.
قد يعتقد كثيرون أن عبارة “آيات شيطانية” من تأليف رشدي، لكن طلاب التاريخ الإسلامي يعرفون أنها تصف حادثة وقعت مع نبي المسلمين، وهي حادثة تعرضت لنقاش طويل على مدى القرون الأربعة عشر التي تلت ظهور الإسلام.
انكب أحمد على دراسة حادثة “آيات شيطانية”، وخصص لها أطروحته للدكتوراه، التي قدمها في جامعة برنستون الأميركية. وفي العام 1998، نشر جزءا منها كبحث في دورية “دراسات إسلامية” المتخصصة. تبوأ أحمد منصب بروفسور في جامعة هارفرد، وأصيب قبل أعوام بمرض عضال. وقبل وفاته في 2015، عن 49 عاما، قام بإعداد كل أعماله للنشر. شكلت أطروحته أحدث منشوراته بعد وفاته، إذ قامت بنشرها هارفرد، قبل أسابيع، في كتاب يبدو أن الجامعة المرموقة خشيت أن يؤدي عنوانه إلى ردود فعل، فعدلته ليصبح التالي: “قبل السُنّة: الآيات الشيطانية في بدايات الإسلام”.
قد يعتقد كثيرون أن عبارة “آيات شيطانية” من تأليف رشدي، لكن طلاب التاريخ الإسلامي يعرفون أنها تصف حادثة وقعت مع نبي المسلمين
في الروايات الإسلامية، كان الرسول وأتباعه عرضة لتنكيل واسع دفع بعضهم إلى اللجوء إلى الحبشة، وأن الرسول تمنى لو يتوصل إلى تسوية مع قريش، وأنه فيما كان يوحى إليه بسورة النجم، وصل إلى الآيتين “أفرأيتم اللات والعزى، ومناة الثالثة الأخرى”، فوسوس الشيطان للرسول، فتابع الأخير السورة بالقول “تلك هي الغرانيق الأولى، وإن شفاعتها لترتجى”.
اقرأ للكاتب أيضا: لماذا يكره العالم أميركا؟
وحسب الروايات الإسلامية، فرحت قريش لأن الرسول وصف آلهتها بالشفيعة، وسجد المسلمون وسجدت قريش، وأقفل اللاجئون المسلمون في الحبشة عائدين إلى مكة. لكن جبرائيل استعرض مع الرسول السورة، ولما وصلا إلى الآيتين الشيطانيتين، قال جبرائيل للرسول إنه لم يأت إليه بهما، فحزن نبي المسلمين، لكن الله نسخ الآيتين، وأنزل عددا من الآيات ليؤكد براءة الرسول.
أحصى أحمد كل الروايات الإسلامية حول الآيات الشيطانية، ورفع عددها من 28 في أطروحته إلى 50 في كتابه، وقدم عرضا تفصيليا ومتخصصا لعلم الحديث. وتبنى التصنيف الإسلامي المعتمد، لناحية أن الروايات الإسلامية تنقسم إلى ثلاثة: سيرة ومغازٍ، وتفسير، وحديث. والمعروف أن السيرة والتفسير أقدم تاريخيا، يليها الحديث، الذي بدأ ظهوره بعد حوالي 200 عاما على وفاة الرسول، أي أثناء خلافة المأمون العباسي.
اعتقد أحمد أن كتّاب السيرة، ابن اسحاق وأبو معشر والواقدي، أرادوا تدوين تاريخ الأمة الفتية، فقدموا، برعاية الخليفة العباسي الأول السفاح، روايات أقرب في روحيتها إلى رؤية القرآن للرسل كبشر يخطئون، ثم يتوب الله عليهم ويهدي خطاهم، وهذه صور تنطبق على يوسف وداود وسليمان ويونس في القرآن. حتى محمد، عدد أحمد أكثر من ثلاثين آية تأمره التروي في التلاوة وعدم استعجال الوحي.
أحصى أحمد كل الروايات الإسلامية حول الآيات الشيطانية، ورفع عددها من 28 في أطروحته إلى 50 في كتابه
هذه الصور دفعت أحمد للاعتقاد أن المسلمين الأوائل نظروا إلى النبوة وكأنها عمل ارتقى مع التجربة، وأنهم تبنوا النمطية السائدة التي تمتحن الرسول، وتدفعه إلى حافة اليأس، قبل أن ينصره الله ويجعله من الغالبين. على هذا الشكل كانت السيرة.
أما التفسير، فمحاولات لتقديم حياة المسلمين الأوائل لوضع الآيات في سياق يسمح بتفسيرها، إذ بدون سياق، تصبح الآيات عصية على التفسير.
ثم الحديث، وهذا مشروع تدوين تأريخي مختلف عن سابقيه، ومبني على محاولة التخفيف من الجانب البشري للرسول، ومنح العصمة للجزء الأكبر من أعمال وحياة الرسول. لكن حتى العصمة، اختلف المحدثون في مدى تغطيتها لنشاطات الرسول، فاعتبر البعض أنها تقتصر على تلاوته الآيات، واعتبر البعض الآخر أنها تشمل الكبائر فقط، فيما اعتبرت بعض الفرق، مثل الشيعة، أنها عصمة كاملة شاملة لجميع أعمال وأقوال الرسول.
اقرأ للكاتب أيضا: للبيع: سياسيون في لبنان
لم يتطرق أحمد إلى التأثيرات التاريخية في المدارس الثلاثة. مثلا تأثير المأمون الآتي من مرو شرق خرسان مع تأثير آسيا الوسطى وبلاد فارس، وهو ما يظهر جليا في هوية مؤلفي “الستة الصحاح”، وجميعهم من غير العرب ممن ينتمون إلى هذه المناطق. وفي هذه المناطق، الشخصيات التاريخية غالبا ما تكون إلهية مقدسة، مقارنة بالمشرق العربي، حيث الشخصيات التاريخية أكثر بشرية. قبل المأمون، كان التاريخ العباسي أكثر عربية، بل مشرقي الطابع، حتى أن مهد الحركة العباسية كان في الحميمة في بلاد النبط، جنوب الأردن، وهو ما قد يفسر روايات المسلمين الأوائل التي تصور الرسول كبشري يخطئ، مقارنة بالروايات العباسية والفارسية اللاحقة، التي أسبغت عليه عصمة تقارب القداسة، ما يحتم نسف قصة “الآيات الشيطانية” واعتبارها دسا قام به أعداء الإسلام من الزنادقة وغير المسلمين.
وافق ابن تيمية على حادثة “الآيات الشيطانية”، وأيده محمد بن عبد الوهاب، فيما رفضها علماء من الأزهر، الذين كفّروا ابن تيمية
واعتبر أحمد أن مهندسي السنّة بشكلها اللاحق، كانوا يدركون التباين بين المسلمين الأوائل والسنّة اللاحقة، وينقل القاضي عياض اليحسوبي (توفي في 1149) أن تقرير “الآيات الشيطانية” “لم ينقله أهل الصحاح الستة، بل إن مفسري القرآن والمؤرخين هم من أولع به وبمثله”.
الطريف أن من يتم تصنيفهم اليوم على أنهم من متشددي العقيدة، لم ينسفوا حادثة “الآيات الشيطانية”، بل قبلوا حدوثها، وإن بتعديل بعض تفاصيلها، وهذا ليس في كتاب أحمد، ولكن في بحثه المنشور قبل 20 عاما. إذ يلفت فيه إلى أن السوري ابن تيمية وافق على الحادثة، وأيده محمد بن عبد الوهاب، فيما رفضها علماء من الأزهر، الذين كفّروا ابن تيمية، واعتبروا أنه ليس من السلف الصالح. الفارق الوحيد يكمن في أن ابن عبد الوهاب اعتبر أن الرسول لم يتفوه بـ “الآيات الشيطانية”، بل إن الشيطان نفسه فعل ذلك، فاختلط الأمر على الحاضرين.
“ما تفعله الروايات عندما تتوافق بالإجماع هو تدوين رؤيتها التاريخية لموضوع ما، وهي رؤية يتبناها الكاتب أو ربما المجموعة التي يمثلها الكاتب”، كتب طوني ستيورات. هكذا، “يصبح التاريخ تاريخ مدونيه أكثر منه تاريخ المدون عنهم”.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال