بمناسبة يوم المرأة العالمي, هذا النص مهدى إلى كل الأمهات الصابرات, المعذبات, إلى اللواتي ينظرن إلى غد جميل في عيون أطفالهن, إلى كل امرأة تفتح كوّة في هذا الشرق الذكوري المريض, إلى امرأة الثورة السورية وكل ثورة..
نون النسوة السورية- أحمد عيساوي
إلى حميدة النطراوي الفياض, ابنة مدينة تلبيسة -أول شهيدات الثورة السورية- التي صفيّت هي وابنها وهي عائدة من العمل في مزارع البيوت البلاستيكية بمدينة بانياس,
إلى عبير الحمادي (أم خالد), المعلمة والأم لثلاثة أطفال, التي رأت الدبابات تجتاح حمص, فخرجت الى شارع تل أبيض في مركز الرقة التجاري وهتفت للمدن المحاصرة, فأحاط بها رجال الأمن وضربوها واعتقلوها لأشهر عديدة,
إلى زينب الحصني, شهيدة في الميدان و في اعلام الطاغية,
إلى هاجر الخطيب,حيث ولدت تاء التأنيث ولم تكمل ضحكتها,
إلى معتقلات سوريات وفلسطينيات ينتظرن فجر الحرية,
إلى سعاد نوفل, التي تعلمنا يوميا دروسا في حب الحياة ورفض كل شكل للإستبداد,
إلى سمر, ورزان ولينا, وهالا وكفاح ولبنى..ناشطات كاتبات, مسعفات, طبيبات, معلمات, فلاحات..
إلى من لا نعرف أسماءهن, الا بعد مقالة, او مظاهرة, او اعتقال او شهادة ..
إليهنّ أهدي هذا النص:
تستحيل سردية الثورة السورية دون المرأة, ولا يستقيم حدث هنا او هناك دون مشاركتها بشكل فعّال في رسم ملامحه, حتى أصبح الإطار النسويّ حاجة عضوية لثورة تأكل نفسها بأخطاء أبنائها.
شكّلت الثورة السورية في فرادتها حقلا دلاليا, لا وجود فيه لجمع واحد موحّد ولا قدرة للرائي على حصر أطر معينة (جغرافيا-طائفيا-طبقيا..) في أرض الثورة. وقد أتاح, هذا التنوع في حضور الذات السورية المقهورة في زمن الثورة, للمرأة أن تخوض تجربتها لتحدّد مسارها الحاضر وتجابه سنوات من القمع أثقلت كاهلها, ذلك لأن المرأة أثبتت خلال الثورات الأخيرة على الأقل أنها ليست طرفاً اجتماعياً ضعيفاً، يحتاج إلى حماية الرجل، كما ليست كائناً معيباً، دائم الحاجة إلى ستر خطاياه وتلقف فضائحه.
باشرت النساء السوريات في البحث عن وسائل غير كلاسيكية للتخلص من وطأة العادات وقيودها, وكان المنحى الأكثر بروزا في وسط الطبقة المثقفة من شاعرات, وفنانات ورائدات في مجالات إبداعية شتى.
تحوّلت معركة المرأة السورية من مطالبة بالحرية الى محاولة انتزاعها بالقوة وكان العمل على الإطاحة بالذكورية في مسعى التخلص من كل محاولة للسيطرة والهيمنة, يأخذ مسارا تراجيديا في كثير من الأحيان نتيجة تصدّع البنيان النسوي المعزول والمقموع والمهمّش ونتيجة فائض القوة الذي كرّسته السلطة الذكورية في كل المؤسسات الإجتماعية والنشاطات الميدانية.
كان المدّ الثوري النسوي يواجه خط السلطة الأساسية والخط الداخلي في الثورة الخارج من منشأ الهيمنة المستند الى عصبية ايديو-جنسية مقولبة بإطار ديني واضح. وفي توصيف العلاقة بين الدفع الإيجابي للحراك من جهة ونشاط المرأة من جهة أخرى, شكّل التفويض الذكوري لأطر الإستبداد رادعا أساسيا, ما لبث أن صار مكنونا عبثيا توزّع في المكان-الميدان حدث الثورة (في المشافي, المدارس, حلقات النقاش,..).
حقّقت النساء السوريات خلال فترة قصيرة نجاحات كبيرة في نقل صورة الواقع السوري المعاش الى الخارج, فلا يمكن الحديث عن الداخل السوري دون العودة إلى الصوت الحقوقي للرائعة رزان زيتونة وهي تتحدى شبيحة النظام الأسدي (والداعشي مؤخرا) في تصميمها على البقاء في الداخل, محاصرة برجالات العسكر وقذائف الدبابات وصواريخ السكود, تأبى الا ان ترفع تحقيقها الميداني عن الغوطة الشرقية وأهلها المحاصرين, عن حجم المساعدات التي يحتاجها أهالي المناطق المنكوبة وعن مشاهدات يندى لها الجبين. ورغم ذلك لا يشعر هذا الصوت الجريء بالخوف, فقط المرارة تتوالد من خذلان مستمر وغدر لا يقل خباثة عن فعل القتل النظامي.
الثورة حاضرة على باب دمشقي, سيدة فلسطينية اسمها أم العبد, بائعة اللبن التي يعرفها جيدا أهالي حي القدم, غادر زوجها المنزل ورفضت الا أن تمارس عملها اليومي فتخرج من الصباح الباكر لتبيع اللبن في شوارع دمشق وتعود مساء لتطعم اولادها عبد وعبد الرحمن وتالا. أم العبد كانت تزاول عملها بنشاط الى ان سقطت قذيفة قربها منذ حوالي الشهر فبترت ساقيها ولا تزال في العناية المركزة.
الثورة تتجذّر يوميا في سيدة رقاوية اسمها سعاد نوفل, من اللحظة الأول شاركت في المظاهرات المطالبة برحيل نظام الطاغية ولم تتوان اليوم عن الخروج الى شوارع المدينة لتقف وحيدة في كثير من الأحيان امام مقر “داعش” ترفع شعارات تدعو فيها الى الوحدة الوطنية والتفكير لا التكفير وآخرها كان “عصابة داعش الأسدية, ألا لعنة الله على الظالمين”. تقول سعاد في فيلم مصوّر “بصلّي المغرب وبطلع بتظاهر”, أي أنها تنطلق من طقس ديني تتحدى به من يدّعون احتكار هذا الطقس ومن يفرضون سلطتهم استنادا الى خلفيات تعيد ربط الطقس بمشروع الهيمنة والتسلط. سعاد هنا ليست المرأة الضعيفة الغير قادرة على المواجهة مثل الرجل, فعلها البطولي يطيح بذكورية المجتمع ويؤسس لمرحلة من الوعي الجمعي لقيمة المرأة في المجتمعات الخاضعة لسلطة الإستبداد.
هي الثورة السورية بطابعها النسوي الواسع, بصباياها السافرات والمحجبات جنبا الى جنب في داريا, ينثرن الأرز والورود على نعش غياث مطر.
هي الثورة النسوية بخط رزان وصوتها الذي يلهج بالعنفوان والكرامة, بلافتات سعاد وهتافها اليومي أمام مقر الأصولية الدينية, بالصور الموثقة للشمال المحرر بعدسة لبنى الجميلة, بالنص الأدبي لهالا وسمر يقطر وجعا, بأكياس الخبز والطحين تحملها شام أو غيفارا الى أطفال اليرموك المحاصرين.
هي التاء المربوطة وقد لاحت في حقل للتبغ في درعا, ثابتة لا تتزحزح, هائمة في مشافي اللغة تبحث عن أول نص خطّه طفل على جدار.
يطيب لنا أن نتغنّى بطينة من نسوة يختزلن الحرية بأسمائهن الحسنى, ويطيب لنا أن ننشد الحلم في عيونهنّ ونحن العابرون دون سلالات الى صفاء الحقيقة, عاجزون عن التأويل في تماثل اللغة. وحده الطلق صوابنا الحقيقي على عتبة المنفيين من ورثة المعنى في صورته الأنقى.
كتف امرأة يحوّل حلم النهار إلى ظل الروائح حيث الحالم يتمدد برغبة في تعلّم الطيران. كتأوج طقس مقدّس, كعذراء النار في ممرات الجحيم, كملاك بين سحب السماء, تطلّ علينا امرأة كل الفصول, امرأة الثورة..
سلام لها وعليها أينما حلت.
حنطة، العدد 11 – تشرين الثاني 2013