منذ طفولتي أتطلع إلى الفضاء ، أحاول رؤية العفاريت التي أسمع أنها تختفي هناك ، وكانت عيناي، رغم نفاذهما ، لا تريان إلا النجوم بالليل والعصافير بالنهار.
لأول مرة في حياتي سمعت كلمة ” الله” ، تخرج من فم جدي ( والد أمي ) مشوبة بنكهة تسميها جدتي مشروبات روحية، تمط بوزها في وجه زوجها وتهمس في أذني: جدك لا يعرف الله ويضيع الفلوس علي النساء والخمر، ولم يكن جدي الآخر (والد أبي) يختلف عن والد أمي فيما يخص النساء والمسكرات، لكنه مات قبل أن أولد، لحسن حظي، وسمعت عمتي تقول أن جدتي أطلقت زغروتة ممدودة للسماء بعد موت جدي.
أما أبي فكان رجلا مستقيم الأخلاق ، لا يسكر ولا يخون أمي ، وسمعته يقول أن الله هو الصدق والاخلاص والعدل والحرية والحب والجمال ، وأنه كامن علي شكل “الضمير الحي” داخل كل إنسان ، رجل أو إمرأة ، دون تفرقة بينهما ، هكذا أصبح الإيمان ، في نظري ، هو العدل والصدق والحرية والحب والجمال والمساواة بين البشر.
وإتهمني المدرس في طفولتي بالإلحاد لأن إيماني يختلف عن إيمانه، وكان يؤمن أن الأولاد أفضل من البنات ، ويري الله علي شكل حروف مطبوعة في الكتاب ، ثم يطلب مني حفظها عن ظهر قلب دون فهم ، وفي يوم رآني أكتب إسم أمي علي كراستي بدلا من إسم جدي ، فطردني من الفصل ، وأصبح عندي الوقت لأقرأ الكتب خارج المقرر المدرسي لحسن حظي.
كان سيجموند فرويد يعتبر الأديان ظاهرة بشرية بدأت تاريخيا بشكل عصاب جماعي، أما إريك فروم فقد تجاوز الحدود النفسية للظواهر الدينية ، وحاول الدخول الي المجالات السياسية والاجتماعية والفلسفية ، ويستمر الأطباء والعلماء في بحوثهم ، داخل النفس البشرية وخارجها ، لمعرفة أسباب الإيمان الديني وعدم الإيمان ، أو ما يسمونه : الإلحاد.
مع تصاعد التيارات السياسية الدينية في هذا القرن الواحد والعشرين ، صدرت الكثير من الكتب عن الإلحاد ، وكأنه مرض نفسي يغزو الشباب ، وعلاجه عند الطبيب ، وأدت هذه الأفكار الي إثراء الأطباء ، وإفقار العقل المصري.
قرأت مؤخرا لطبيب مصري يؤكد أن الإلحاد مرض نفسي، يعني عدم الإيمان بالرب خالق الكون كما جاء في الكتاب، وأكد أيضا أن علم نشوء الكون ليس علما، ونظريات التطور ( التي تنكر نظرية الخلق الدينية) باطلة ونوع من الإلحاد، وأن هذا الإلحاد ينتشر بين الشباب مثل الاكتئاب وأنفلونزا الخنازير.
يروج لهذه الأفكار بعض أطباء النفس ، لا تختلف أفكارهم كثيرا عن رجال الدين التقليديين ، ورثوا دينهم عن الآباء والجدود ، لم يعرفوا إلا القليل عن العقائد والأديان المختلفة في العالم ، يتصورون أن الإلحاد هو عدم الإيمان بما آمنوا به ، وأنه نقصان في العقل أو مراهقة فكرية وإحساس بالنقص ، أو غرور أحمق و سعي وراء الشهوات.
أربعة مليار من البشر ( أكثر من نصف سكان الأرض ) لا يؤمنون بأي دين ، يعيشون في الصين والهند واليابان ، لا يسعون وراء الشهوات بل وراء العمل المنتج المتقن ، يتمتعون بكفاءة عقلية عالية ، وثقة بالنفس كبيرة ، جعلت بلادهم تتفوق علي بلاد العالم.
وأكثر من نصف الشعوب في أمريكا وأوروبا ، لم يرثوا الدين ، ولم يلقن لهم في المدارس ، لكن تربي عندهم ضمير حي ، منذ الطفولة ، وإيمان بالعدل والمساواة والحرية والكرامة ، يخرجون في مظاهرات ضد حكوماتهم ، أو ضد أي حكم ظالم مستبد في أي بلد في العالم.
وهناك ملايين ورثوا دينهم في العائلة ، وتم تلقينه لهم منذ الطفولة في المدارس ، وأصبحوا يؤمنون أنه الحقيقة المطلقة وغيره باطل ، ولم تعد لديهم القدرة علي التفكير بطريقة أخري.
تحتاج القوي السياسية الحاكمة ( شرقا وغربا) للعقائد والأديان ، من أجل السيطرة علي عقول الشعوب وتقسيمهم طائفيا ، ويحتاجها الإنسان (الفرد ) أيضا ، لتحمل مأساة موته ، وقد تطور المخ لدي الإنسان فأدرك أنه سيموت حتما ، لا فرق بينه وبين النباتات والحيوانات ، لكن مخ هذه الكائنات ، لم يتطور مثل مخ الانسان ، ولم يصل الي الوعي بحقيقة الموت أو العدم.
يحاول الإنسان عن طريق خياله إنكار العدم ، يتصور نفسه موجودا في حياة بعد الموت ، هذه المسافة بين الخيال والحقيقة ، أو بين الحلم والواقع ، مرحلة في عمر التطور أو التاريخ البشري اللانهائي ، يجتازها الإنسان بالإبداع الفني والديني أيضا.
لا ينبع الخيال من الفراغ ، بل من خلايا الفص الأمامي للمخ ، حيث تتمركز المشاعر والأحاسيس وذكريات الطفولة والمواهب الفنية والفكرية.
وتسعي البحوث العلمية الجديدة لكشف الشفرات الجينية وأسرار المخ البشري وقدراته المذهلة علي الخيال واكتشاف حقائق الطبيعة وقدرات الانسان.
من كان يحلم باستخدام الالكترونات للتواصل فوق كوكب الأرض في زمن أقل من غمضة عين ؟ ومن كان يتخيل الالكترونات في الفضاء ، الذي كان في طفولتنا ملئيا بالعفاريت ؟
وإن أنكرت الطفلة وجود العفاريت وآمنت بأن الله هو العدل والمساواة والصدق والحرية والحب والجمال فهل تكون ملحدة؟
تم نشر المقال على صفحة د. نوال السعداوي على فيسبوك .. مواضيع ذات صلة:ماذا قالت نوال السعداوي للشيخ يوسف البدري في برنامج فيصل القاسم