’’نفق الذل‘‘ رواية تلخص عقود المأساة السورية في ظل الدولة البوليسية

تغوص الكاتبة السورية سميرة المسالمة، في روايتها الأولى “نفق الذّل”، الصادرة حديثاً عن “منشورات ضفاف- بيروت، nafaqelthel2014″ في متاهات ودهاليز الفساد الأمني والاقتصادي والأخلاقي للنظام الاستبدادي الحاكم في سورية، وتفضح عبر حكايات، يبدو أنها مقاربات مع واقع شهدته وربما عاشته الكاتبة، جوقة النظام المنخورة بالفساد والموبقات حتى النخاع، قبل أن تتم إقالتها من منصبها كرئيسة تحرير صحيفة تشرين، إثر مقابلة تلفزيونية مع قناة الجزيرة في بداية الانتفاضة السورية، قالت فيها أن القوى الأمنية تتحمل جزء من المسؤولية على ما حدث من جرائم في درعا، حيث أبلغت بإقالتها من أحد قادة الفروع الأمنية

رامي زين الدين: أخبار الأن

مقاربات رمزية

تنطلق المسالمة في الأحداث من العلاقة الغرامية التي تجمع عماد، الشاب السنّي الفقير، الحاقد على السلطة، ومنى الفتاة العلوية، ابنة أبو حيدر المسؤول الأمني الكبير، وبين علاقة عماد ومنى المليئة بالحب والشبق الجنسي، تمتزج مغامراتهما العاطفية في غرفة عماد الرثّة والفوضوية، بكراهيته للتفاوت الطبقي من جهة، ولوالدها رجل السلطة الحديدي من جهة أخرى.

تختصر القصص المنسوجة بإحكام، تاريخ من الظلم والاستبداد، يمارسه النظام السوري المتمثّل في عائلة الأسد، ضد الشعب المقهور منذ عقود، وعلى الرغم من أن الإيحاءات للشخصيات وانتماءاتها، والجهات على اختلافها أوضح من أن يشار إليها بذلك، إلا أن الكاتبة ابتعدت عن استخدام الأسماء الحقيقية لأولائك جميعاً، مع الترميز إلى انتماءات طائفية وأمنية عبر بعض الألقاب والأسماء المتعارف عليها في المجتمع السوري مثل المسؤول الأمني “أبو حيدر” وهو لقب شائع لدى الطائفة العلوية.

مشاهد مفجعة

تفاصيل كثيرة في حياة الإنسان السوري تستحضرها المسالمة، تتعلق بالجوانب السياسية والاقتصادية والأمنية في الدولة البوليسية، وكيف تدار الأمور والصفقات والعمليات المشبوهة بين مجموعة من الشبكات الأمنية والمالية القائمة على الجشع وحب الثروة، والمجتمعة على الرغبة في إبقاء البسطار العسكري صلة الوصل مع الناس. وعند الانتقال من فصل إلى آخر، يتعرف القارئ على مشاهد مفجعة وصادمة، تعرفها الكاتبة بشكل دقيق جداً بحكم عملها الصحفي وقربها من النظام لسنوات،. أسئلة عديدة مهمّة وجوهرية عن خبايا وخفايا النظام الأمني في سورية، تجيب عنها شخوص تنتمي لطبقات ومستويات مختلفة، من مثل: كيف تلفّق التهم للناس؟، كيف يتحول المظلوم إلى جلاد؟، كيف تنتزع الرحمة من قلوب الناس؟ كيف تصبح المغتصبة ابنة سلطة؟.. ومناحي كثيرة عن أساليب ومناهج إفساد المجتمع وقهره وإذلاله، ودوس كرامته.

شريعة الانتقام

وتقدم الكاتبة رسماً توضيحياً للنفق الذي على كل من يريد الوصول إلى السلطة أن يسلكه، بتشعباته اللاأخلاقية، وطرائقه الملتوية، فهذا عماد طالب الطب والشاب الاشتراكي الناقم على الاستبداد ورموزه، يتحول، بعد الاعتقال وتذوق كل أنواع الذل والمهانة التي تفقده رجولته، إلى خليل ليالي مسؤول أمني كبير ينقذه من عذاباته، ليصير فيما بعد اللواء عماد، الفاعل بالناس كل أنواع القمع وانتهاك الحقوق الإنسانية، بعد أن كان المفعول به في أقبية الظلام، ويجسد عماد حالة الشيزوفرينيا والسادية التي يتّصف بها رجل الأمن السوري، عندما يتفنّن في تحقير الناس، وسحق كل من يقول “لا” في وجه السلطة الحاكمة، المتعالي على الآخرين، الفاقد للشعور الإنساني في أدنى صوره، فحتى غيث الابن غير الشرعي لعماد، لم يسلم من الأذى على يد أبيه الذي لم يعرفه.

فضائح أخلاقية

شخوص رواية “نفق الذّل” كثيرة ومتداخلة مع بعضها، في الفساد والظلم والمظلومية، ولكل منها قصة وطن نخره العهر والفجور، تبدأ من نفق الذل وتنتهي في قاع مظلم، لتبدأ من جديد في نفق آخر أكثر سؤداً وبشاعةً، وتمزج الرواية بين المشاعر الإنسانية في تناقضاتها والتواءاتها، فتحضر مثلاً في علاقة عماد بمنى التي أسفرت عن ابن غير شرعي، لم يعلم به عماد، ونسبته منى لرجل آخر تزوجته في بداية حملها، حيث سافرت مع والدتها- التي تهرب لاحقا مع سائقها الخاص- إلى فرنسا لتقوم بعملية تقطيب المهبل، حيث تتزوج من ابن اقتصادي نافذ في الدولة، هرباً من الفضيحة، وتنطلي على الزوج طبعاً حكاية ترميم بكارة منى.

خيانة

الجانب الإنساني طاغي بشدّة في الأحداث والسياقات الممتدّة والمترابطة، وإن كانت في معظمها تثير التشاؤم والإحباط، لكنها صادقة، أو على الأقل ليست بعيدة عن عالمنا المثقل بهمومه وبشاعته، وتجسّد منى صورة المرأة المعتدة بنفسها، الصادقة في مشاعرها، فحتى في خياناتها الكثيرة كانت تبحث دائماً عن حبيبها عماد الذي غيبته عنها سنّة العيش في ظل نظام سياسي اجتماعي يقوم على الظلم والطبقية والطائفية، نظام يتمثّل في وجود عقليات مريضة مثل والدها أبو حيدر. ليس سهلا إحصاء الأسرّة التي وطأها جسد منى المشبع بالشهوة والخيانة، أحياناً تراها مشروعة بسبب ما ذاقته من قهر بحكم قدرها في العيش بكنف أرباب السلطة والاستغلال، وأحياناً أخرى بسبب قساوة الصدمات التي رسمها لها القدر، فتارة تكون الضحية، وتارة تكون السبب في شقاء الآخرين، كسلام التي وثقت بها، فكافأتها منى بخطف جسد زوجها.

التعذيب النفسي

لا تنتهي الرواية عند مستوى معيّن من الفساد، بل تترك أمام القارئ الأبواب مشرّعةً لاستحضار كل أشكال وأساليب انتهاك كرامة الإنسان، عندما يقوم المحقق في إحدى جلسات التعذيب بالطلب من المعتقل أن يقوم بالتحرش بشقيقته، متجاوزاً مع مجموعته كل المعايير الأخلاقية والإنسانية، وفي مشاهد أخرى لا تقل اشمئزازاً وحقداً يؤمر السجناء بالتحرش ببعضهم، إرضاءً للنزوات المريضة لضباط الأمن والمحققين.

مذبح الحرية

يمكن القول أن سميرة المسالمة تمنظر في روايتها صورةً أكثر وضوحاً ودقّةً في وصف الظلاميّة التي يتبعها النظام السوري سياسةً ومنهجاً من أجل تحويل الإنسان من كائن مفعم بالحياة والحيوية، إلى كائن ميّت، جسداً بلا روح، عقلاً بلا تفكير، معدوم الطموح، مسلوب الكرامة، متقوقع في إطار من الخوف والرعب، ويحيطه الموت والظلام من كل جانب، ولا تكتفي بذلك، بل تعرّج إلى توصيف أساليب تحجيم طاقة الشباب وقتل الروح المعنوية العالية، في اعتماد السلطة على نسف أي محاولة لترميم الواقع البائس، وملئ المعتقلات بفتية رفعوا شعار “الموت ولا المذلّة” في وجه الظلام، فدفعوا الثمن غالياً وسفكت دماءهم على مذبح الحرية، لتكون عبرةً لمن اعتبر، وهو ما يحدث مع غيث وصديقه أحمد الذي يغيّبه الموت تحت التعذيب، تحت وطأة الألم، عندما كان يتلذذ السجانون في تعذيبهم وإهانتهم، “انتزعوا حزامه ولكمه آخر على وجهه، نفر منه الدم ولم يصرخ، وبدأت رحلة السوط بين المدى وجسد”، ص97. “في الزنزانة ثمّة ما يطمئنك أن الطريق إلى الموت ليست بعيدة كما يتوهّم بعضهم..” ص96.

شراء الذمم

تقدم مسالمة عبر شخصية سلام، نموذج الصحفية الجريئة التي تطرق أبواباً مغلقة، وتتنقل عبر كتاباتها في أماكن محظورة، متجاوزةً الخطوط الحمراء الممنوع تجاوزها لأي كان، وكيف يمكن عبر سياسة شراء الذمم والضمائر، المعهودة لدى النظام السوري، أن تتحوّل من منتقدة للاستبداد والفساد إلى ربيبة الفاسدين والمستبدين، في هيكلية تنظيمية ممنهجة لخلق طابور خامس، يبيع مبادئه في سبيل المصلحة الشخصية وخدمة الأسياد.

إجهاض الثورة

للربيع العربي الحصّة الأكبر في إسقاطات رواية “نفق الذّل” على واقع موجعٍ يعيشه السوريون بمرّه ومراره منذ عقود، وكيف قامت سلطات الأمر الواقع بالتجهيز والتحضير والاستعداد لإجهاض أي حراك، شعبي أو نخبوي، عبر خطط مرسومة لمحاصرة الناشطين والضرب بيد من حديد على كل محاولات إشعال ثورة شعبية حقيقية، والسيطرة على جميع المنابر الإعلامية، التي تخضع أساساً لرقابة أمنية شديدة، ومسالمة التي كانت في عمق الأجهزة الإعلامية للنظام، ربما تكون أكثر من يفهم ويدرك سياساته وتدابيره في هذا المجال، ومنها شراء الأقلام وتحويلها من لسان حال الشعب إلى لسان حال السلطة، وتغيير مهمتها من فضح الأخطاء، إلى تسخيف وتسطيح الأشياء، ولعلّ مهمة الإعلام الأولى في كنف النظام هي تمجيد الأب القائد وتعظيم خطواته الإصلاحية الواهية، ومواجهة المؤامرة الكونية المزعومة.

نهاية النفق

كل فصل في الرواية يشكّل حالة شاملة يمكن سردها في كتاب أو سلسلة متتابعة من الكتب لتشريح حالة العهر السلطوي في سورية، وفي آخر الفصول الذي تعنونه الكاتبة بـ اسم “نفق آخر”، توحي مسالمة بأن نهاية النفق تلوّح أنوارها من بعيد، فنتبع ذلك النور مثقلين بآلامنا، متعثرين بخطىً متباعدة مشتّتة، على أمل الخلاص من ظلام سوّد ماضينا وحاضرنا، ثم تصدمنا بالإشارة إلى أن نفق آخر ينتظرنا، بعد الانتهاء من ذلّ خمسين سنةً مظلمة، “فأي ملامح لذلك النفق القادم؟” ص167.

This entry was posted in فكر حر. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.