رسلان عامر
*
في مقال يحمل عنوان “الوحدة الثقافية العربية إنجاز كبير يجب الحفاظ عليه”، نشرته على موقع “كوة” الثقافي المغربي
(http://couua.com)،
بتاريخ 13/01/2018، ركزت على أهمية اللغة العربية الفصحى، وضرورة الحفاظ عليها لأنها تمثل الدعامة الأساسية لحالة الوحدة الثقافية القائمة في العالم العربي، ولم أهاجم اللهجات المحلية، بل أكدت على فكرة تكاملها مع الفصحى، كما أنني لم أهاجم الحركات القومية غير العربية، واعتبرت وجودها أمرا طبيعيا وحقا أساسيا من حقوق ذوي القوميات غير العربية، وبالطبع تخلل هذا الطرح نقد موضوعي لمسألة القومية، بما فيها القومية العربية، وتناول النقد أطروحات القومية السورية والمصرية والمغاربية والأفارقية إضافة إلى العربية، ولم يكن موجها ضد حزب قومي محدد أو حركة محددة، كما توجه النقد إلى مساعي إقصاء أو إلغاء العربية الفصحى واستبدالها باللهجات العامية!
أثار المقال رودود فعل مختلفة وهذا أمر متوقع، وقابله بعض الأمازيغ القوميين بجفاء، ولكن أقصى ما ذهب إليه الرد الأمازيغي كان هو القول “أنني أتدخل في شؤون الغير التي لا أعرفها”، و مازلت حتى الآن على علاقة ودية مع صاحب هذا الرد!
قابل بعض القوميين السوريين الناضجين المقال أيضا بشكل سلبي، وهذا أمر عادي، ونعته بعضهم بأنه ليس فيه شيء من العلمانية والعلمية، وبأنه لا يعرف شيئا عن “النظرية القومية الاجتماعية”، وأنه يخلط بين القومية الاجتماعية التي يتبنونها وبين القومية العرقية والسياسية!
وقد فات هؤلاء السادة أن المقال يتكلم عن الحركات القومية غير العربية بشكلها العام، وليس عن أحزاب وتنظيمات ونظريات قومية محددة، فهو لم يتكلم عن أي حزب فرعوني أو أمازيغي، وكذلك هو الحال في ما يتعلق بالقومية السورية! فلم يكن النقد فيها موجها إلى القوميين الاجتماعيين السوريين حصريا، بل إلى فكرة القومية السورية بمفومها العام أسوة بالقومية المصرية والأمازيغية والأفارقية، لكن القوميين الاجتماعيين السوريين اعتبروا الكلام موجها إليهم حصرا، مع أنهم اليوم في حقيقة الأمر ليسوا حزبا واحدا و لا تيارا واحدا ومواقفهم مختلفة، والعلاقات بين بعض فصائلهم تصل إلى درجة القطيعة بل والعداء، وفي الأزمة السورية منهم الموالي ومنهم المعارض، وثمة أيضا من يستغل الأزمة ليمارس التشبيح الحقيقي كحال كل المستغلين الآخرين، الذين لا دين لهم ولا قومية ولا حزب سوى مصالحهم الفاسدة، وفي علاقتهم مع البعث منهم من يتحالف مع البعث، ومنهم من يعاديه عداء صارخا ويسميه تهكما حزب”البعر”، وفي نظرتهم إلى القومية نفسها منهم من يقيمها على أساس عرقي ويتحدث عن العرقية والجينات السورية المختلفة عن الجينات العربية-وهذا مخالف لنظرية “سعادة” نفسه في القومية، ومنهم من يقيم موقفه من القومية على أساس اجتماعي كما طرح “سعادة”، ومنهم من يلتزم بهذا الطرح، فيما يفرغه آخرون عمليا من محتواه!
لكن عدا عن النقد المهذب الذي أبداه أولئك القوميين الاجتماعيين السوريين، وجه آخرون منهم نفدا تهجميا عنيفا متشنجا للمقال وللعرب وللقومية العربية، لدرجة تـُشعر بأنهم لديهم حالة من “العربوفوبيا”!
فيما ذهبت عينة أخرى إلى درجة قصوى من العدوانية والغطرسة والعنجهية والاستعلاء، لدرجة يمكن نعتهم فيها بأنهم نموذج مصاب بجنون العظمة وتضخم الذات، وبأنهم لا يختلفون في شيء عن التكفيريين الإسلاميين أو عن النازيين الهتلريين! وسأورد لاحقا بعض العينات من ردودهم، لأنها تمثل نماذج من داء التعصب والتطرف وإلغاء الآخر الذي نحاول التصدي له والشفاء منه!
لقد كان أنطون سعادة شخصية عظيمة، وهو شهيد كبير، ولا أقول هذا محاباة لأحد، فهذا رأيي الموضوعي فيه، وعندي نفس الرأي مثلا بكمال جنبلاط، ولست قوميا سوريا ولا تقدميا اشتراكيا، كما عندي نفس الموقف من عبد الناصر، رغم مآسي التجربة الناصرية، كما أنني أنظر نفس النظرة التبجيلة لشهداء الحركة الشيوعية كالقادة فهد وسلام العراقيين ومحجوب السوداني، وفرج الحلو اللبناني، والمفكرين اللبنانيين حسين مروة ومهدي عامل، وغيرهم، ولا يقتضي مني هذا أن أكون عروبيا ولا شيوعيا!
نظرية سعادة في القومية هي نظرية جميلة وراقية، وهي لا تقوم على فكرة العرق بل ترفضها، ولكنها تقوم على فكرة الاجتماع، التي تعني تفاعل الأعراق المختلفة المجتمعة في منطقة جغرافية واحدة مع بعضهم ومع محيطهم الطبيعي لإنتاج حالة اجتماعية موحدة، وقد اختصر أحد القوميين الاجتماعيين نظرية سعادة بالقول أن “القومية هي حالة اجتماعية تقوم على تفاعل الإنسان مع الإنسان ومع الجغرافيا”!
لكن معضلة العظماء هي دوما في أن أقلية من أتباعهم تتمكن من وعي أفكارهم بدقة وعمق، فيما تبتعد عنها الأكثرية بدرجة أو بأخرى، فيتخبط الكثيرون ويشوهون هذه الأفكار ويمسخونها، إلى درجة يصل فيها البعض إلى مناقضتها التامة! هذا قد حصل مع الأنبياء، وقد فعلته كنيسة القرون الوسطى باسم المسيح رسول المحبة والسلام عندما كانت تحرق الناس بتهمة الهرطقة لمجرد اختلافهم معها في آراء أكثرها لا يمت إلى المسيح بصلة، وهذا ما يحصل مع الرسول محمد على أيد التكفيريين الإسلاميين الذين يقترفون باسم الإسلام أبشع الجرائم!
وفي تاريخ الحركة الشيوعية نجد الكثير الكثير من ضيق الأفق وتسطيح ومسخ فلسفة ماركس، وهلم جرى، والقوميون الاجتماعيون السوريون ليسوا استثناء!
أنطون سعادة باختصار طرح مشروع الوحدة السورية، ولكنه لم يسقط قطعا مشروع القربى العربية، ويمكن القول بأنه استبدل مشروع الوحدة العربية بمشروع الاتحاد العربي، ونظريته عن الأمم أو البيئات الأربع في العالم العربي معروفة (أمة سورية الطبيعية (الهلال الخصيب)، أمة وادي النيل، أمة المغرب (شمال إفريقيا)، وأمة الجزيرة العربية)!
وهذا المشروع بكل تأكيد يتقدم على مشروع الوحدة القومية العربية بمفوهمها العروبي التقليدي، وهناك تقدم هام آخر يتجلى في الموقف الواضح من العلمانية في القومية الاجتماعية السورية، فيما لا يستطع المشروع العروبي التخلص من توأمته مع الإسلام، وهناك غير ذلك نقاط هامة أخرى لا مجال لذكرها الآن!
لكن العديد من القوميين السوريين الآن لديه نظرة جد عدوانية للقومية العربية، بل وللعرب أنفسهم، وليس مطلوبا منهم بالطبع أن يقدموا الورد للقومين العرب، وجل هؤلاء على أية حال لا يستحقون قطعا ذلك، ولكن الموقف النقدي العقلاني شيء، والهجوم الإلغائي المقترن بأقصى درجات التهجم والحقد والعنف الفكري واللفظي شيء آخر!
فـبرأي هذه العينة:
“العروبة نعل ألصقوه عنوة بأقدامنا فأدماها”،
و” القومية العربية وتوابعها بدعة الإنكليزي لإقامة وطن قومي لليهود في أرضنا السورية فلسطين “،
و” ثقافة العرب هي التي أنتجت أجيال العنف والبطش والقتل والتعصب الديني المقيت “
و” يجب ألا نتنازل عن هوتينا السورية الضاربة في عمق التاريخ لأعراب جل ثقافتهم القتل والغزو والسبي والنكاح ! “
وإلخ…
ومع هذا يقول هؤلاء لك: “حطم قيدك وانهض لقوميتك وحقيقتك وتعال إلى نور النهضة، نهضة الأمة، نهضة الحق والخير والجمال لسوريه!
نهضة ساوت بين أبناء الوطن وقالت للكردي والآشوري والسرياني والمحمدي والمسيحي: إنكم كلكم سوريون وكلكم أولادي”!
فهل كل أولئك أبناء هذه النهضة والعربي وحده هو “ابن جارية” أو بدوي مجذوم يجب طرده وإعادته إلى الصحراء بنظر هذه العينة من القوميين السوريين؟!
وماذا يجب أن نفعل بالمؤمنين بعروبتهم وبالقوميين العرب، الذين يرفضون “القومية السورية” ولا يقبلون “القومية الاجتماعية”؟!
هل يجب علينا شنقهم أم زجهم في السجون والمعتقلات؟! ونفس السؤال نسأله عن الأكراد وقومييهم الذين ما يزالون يؤمنون يقوميتهم العرقية، وثمة آخرون ينطبق أيضا عليهم هذا الكلام؟!
وإذا ما عدنا إلى نظرية سعادة، وأسقطناها على الماضي، فسنجد بالفعل أن حالة قومية اجتماعية كانت قريبة بدرجة ما من التحقق في مرحلة من التاريخ السوري، بلغت أوجها فبل الغزو العربي الإسلامي، ولكن من العسف الكلام عن قومية سورية تعود إلى آلاف السنين، فكيف يمكن الكلام عن هذه الوحدة وحمورابي (السوري!) دمر مدينة ماري (السورية!) وحرث أرضها بالملح؟ وكيف تكون هذه الوحدة قائمة والصراع الآشوري الآرامي استمر حوالي قرنين من الزمن؟!
ثم ماذا نعني بالضبط بمصطلح سوري وسوريا؟ هل نتحدث هنا عن أمة وهي لم تكتمل بعد في لحظة ما؟ أم نتحدث عن منطقة جغرافية؟ وعلى أية حال تسمية سوريا – كما يرجح أكثر علماء التاريخ القديم- هي تسمية يونانية اشتقها اليونانيون من تسمية “آشوريا”، فيما يرى البعض منهم أنها نعود إلى تسمية مدينة “صور” الفينيقية، وهي لم تكن تسمية ذات مدلول قومي، بل جغرافي، وكانت تشمل بلاد الشام حتى جبال طوروس، لكنها لم تكن تتخطى نهر الفرات، فتلك المنطقة كانت تسمى “ميزوبوتاميا” أي “ما بين النهرين”.
بالطبع أهمية الجغرافيا لا تنكر في نشأة الأمم، ولكن البشر يمكنهم تخطي حدودهم الجغرافية، ومد تفاعلهم الاجتماعي إلى مناطق جديدة وترسيخ وجودهم فيها، ولو قبلنا فرضية وحدة الهلال الخصيب الجغرافية، وأقرينا جدلا بمفهوم “سوريا الطبيعية” فهذا لا يجعلها حكما جزيرة معزولة لا يمكن لمن هم داخلها وخارجها تخطي حدودها والتفاعل الاجتماعي، ومد هذا التفاعل إلى خارجها! كما أنه لا يجعل التفاعل الجاري في إطارها وفي زمن ما مقدسا لا يجوز تجاوزه أو تخطيه!
وإذا كنا نصر على هذا التأطر في حدود هذه المنطقة وقصر مفهوم قوميتنا عليه، أفلا يجب عندها إخراج كل التاريخ الفينيقي في شمال إفريقيا وجنوب أوروبا من التاريخ السوري؟! كونهم خارج إطار جغرافي لوحدة قومية مفترضة لا تقوم على العرق؟!!
وإذا ما عدنا إلى الحاضر وطبقنا نظرية سعادة التي ترى في التفاعل الاجتماعي أساسا لتكوين حالة قومية اجتماعية، فهل يفترض في هذا التفاعل أن يتوقف عند لحظة ما وفي منطقة محددة لينتج حالة قومية سرمدية مقدسة معصومة، أم أن التفاعل سيستمر، والتفاعل هو طبيعة المجتمعات البشرية؟
والذي حدث في لحظة ما أن العرب المسلمين جاؤوا-سواء أعجبنا هذا أم لم يعجبنا-، ومع مجيئهم تغير جذريا شكل التفاعل وأنتج حالة اجتماعية مختلفة، وفتح الحدود الجغرافية أكثر، وأنتج حضارة ذات طابع عالمي وليس قومي عربي، ثم انهارت هذه الحضارة، ولكن مفاعيل الغزو العربي الإسلامي لم تزل بتاتا، وهي غيرت جذريا “الحالة الاجتماعية” لسكان الهلال الخصيب والمناطق المجاورة، وبعد أكثر من 14 قرنا من التفاعل والتغير الاجتماعي يستحيل تغيير مفاعيل الغزو العربي الإسلامي لأنه أنتج واقعا متجذرا!
فمن نحن اليوم في هلالنا الخصيب؟
هل نحن سوريون؟
بأي معيار؟ هذا سؤال يجب الإجابة عليه بدقة متناهية!
لقد كان التوحد القومي الاجتماعي السوري الذي نتحدث صيرورة بدرجة ما في زمن ما، ولكنه رغم تقدمه الكبير لم يكتمل لينتج أمة متكاملة، وتوقف في مرحلة ما، ليمضي خط التطور الاجتماعي والصيرورة التاريخية في اتجاه آخر مختلف ويتجذر، وهو الخط العربي الإسلامي!
وعندما طرح سعادة نظريته كيف كان حالنا؟!
لقد أدرك سعادة ببساطة أننا في الهلال الخصيب لا نشكل قطعا أمة، وأننا عبارة عن مجموعة من الطوائف الإسلامية والمسيحية والقبائل والأعراق!
ونحن حتى اليوم لم نتقدم كثيرا بعد!
وقبل ذلك بوقت غير بعيد كانت الهوية العليا الغالبة بالنسبة لابن كل طائفة هي ملته، فالسني كانت هويته العليا سنية والشيعي هويته شيعية، وكذلك حال العلوي والدرزي والاسماعيلي، والكردي نفسه كانت هويته الدينية الإسلامية تتقدم كثيرا على هويته العرقية، أما أبناء القبائل والعشائر فهويتهم كانت مسقوفة بالقبيلة أوالعشيرة!
واليوم ما تزال لدينا هذه الفسيفساء قائمة إلى درجة كبيرة، وهي في الهلال الخصيب تشكل نموذجا مصغرا عما هو الحال في العالم العربي!
وبعيدا عن المزاودات السياسية يجب أن نعترف أنه في الأزمة السورية الراهنة جل الاصطفافات قامت على أساس طائفي وعرقي، وقلة منها قامت على مواقف سياسية واعية! وهذا ينطبق على البلدان العربية الأخرى التي تشهد اليوم صراعات مماثلة!
القومية السورية بشكل عام هي اليوم أطروحة سياسية، والقومية الاجتماعية السورية نفسها “نظرية سياسية وحركة سياسية” فهي تسعى لبناء قومية! وهي لا تنطلق من واقع قومي قائم، وهي في هذا مثل “القومية العربية”، أما الواقع فهو حالة من الشرذمة وغياب الهوية، وسيطرة الانتماءات الدنيا دون القومية ودون الوطنية من قبلية وعرقية وطائفية!
والكلام عن هوية سورية يطرح السؤال عن أية هوية نتحدث؟
هل هو عن هوية ماضية لم تكتمل وتوقفت قبل أكثر من 14 قرنا؟!
أم هو عن هوية غير موجودة بعد ولكنا نسعى لبنائها! وهذا يجعلها مشروعا، وواقعا مستقليا!
وبين الماضي والمستقبل نجد أن هذه الهوية غير محققة فعليا في الواقع الحاضر!
وهذا الكلام ينطبق على أيضا على القومية العربية!
نعم لدينا بدرجة ما خصوصيتنا الاجتماعية الراهنة في الهلال الخصيب، ولدينا امتدادنا التاريخي العميق وإرثنا الحضاري العريق، وهذا الثروة الحضارية يجب الحفاظ عليها وبعث ما كان فيها من قيم وتقاليد إنسانية نبيلة وجميلة، ويجب عدم إفساح المجال للمتعصبين والمتطرفين والديماغوجيين لإفسادها بضلال عقولهم وضيق نفوسهم، ويجب التركيز على بناء الدولة العصرية الحديثة كدولة وطنية ديموقراطية حقيقية، تتسع للجميع، والتخلي عن المشاريع الشمولية التي لا تؤدي إلا إلى انتاج الديكتاتوريات والفساد، ومن ثم الصراع والخراب!
وبين المتطرفين القوميين من هذا الاتجاه وذاك نجد لهجة التخوين قائمة على قدم وساق، وكل ينعت الآخر بأنه عميل واع أو غير واع لمشاريع استعمارية قديمة وحديثة! إضافة إلى مختلف أشكال العنف اللفظي والشتم!
لكن رغم أن المشروع العربي فشل ذريعا، فقابلية المشروع السوري للتحقيق ليست أكثر واعدية على المدى المنظور، وهو اليوم لا يمتلك من المقومات أكثر من الآخر، ويواجه نفس العقبات، ويثير نفس الإشكاليات تقريبا!
وما لا شك فيه أن القطيعة مع العروبة والعالم العربي لا تخدم لا السوريين ولا القضايا السورية ولا العربية!
إن الحفاظ على مساعي التقارب العربي العقلانية والواقعية، بعيدا عن أوهام الوحدة القومية العربية والأمة العربية الواحدة هو أمر جد ضروري، هو لمصلحة الجميع، والعالم المعاصر يتجه اليوم إلى التكتلات الكبرى، القائمة على وحدة المصالح، و التي تتجاوز أطر الدولة القومية التقليدية، وإن كانت لا تحل محلها، وخير مثال على ذلك الاتحاد الأوروبي!
هذا الطرح سيثير بكل تأكيد ردة فعل عنيفة عند عينة من الذين يحسبون أنفسهم على “القومية الاجتماعية السورية”، وهم عينة تتوهم فهمها لهذه النظرية!
فأنطون سعادة عندما طرح أطروحة “القومية السورية” لم يكن سلفيا يسعى لإحياء الماضي، ولم يكن منفصما عن الواقع الذي يعيش فيه، والذي لم تكن فيه هذه القومية قائمة!
“سعادة” كان رجلا واقعيا، وكان ينظر إلى المستقبل، ويسعى إلى بناء أمة مستلهما الماضي، وآخذا بعين الاعتبار خصوصية الواقع الراهن وقابليته لبناء أمة، ولكن أنظاره كانت موجهة إلى المستقبل، وهو لم يقل أنه علينا أن نقف موقف التقديس من الحالة الاجتماعية التي وصل إليها التطور الاجتماعي في الهلال الخصيب في ما قبل الإسلام، ولم يسع لجعل مفهوم “الأمة السورية” وثنا مفصولا عن الواقع والتاريخ!
لقد أدرك سعادة أن التطور الاجتماعي لهذه المنطقة كان منذ القدم منفتحا ليؤثر ويتأثر بالجوار، فقد امتد التأثير الفينيقي مثلا إلى معظم حوض المتوسط، وبالمقابل تعرض الهلال الخصيب لتأثيرات من قبل اليونان والرومان والروم والفرس وسواهم!
وقد استمر هذا بعد الإسلام، حيث أثر الهلال الخصيب وتأثر بالإسلام والعرب، ولكن هذا التأثير كان هذه المرة أقوى وأكبر، فأنتج حالة اجتماعية مختلفة، ومع أنها غيرت الشكل الاجتماعي للهلال الخصيب، فهي لم تفقده خصوصيته، ولذلك ركز سعادة على تمايز الهلال الخصيب في أطروحة “الأمة السورية”، ولكنه لم يقطعها بتاتا عن محيطها العربي الذي رأى أنها ترتبط معه أيضا بدرجة أخرى من الارتباط الاجتماعي القائم على التفاعل الاجتماعي!
هذه القضية مجهولة عند تلك العينة الصبيانية التي تحسب نفسها قومية اجتماعية سورية، وهي في حقيقتها ليست أكثر من مجموعة من المهوسين، الذين ينحدرون بمفهوم الأمة إلى دركة الوثن، ويمارسون طقوسهم القومجية بشكل هستيري مسعور، فيعيدون إلى أذهاننا صورة نازيي هتلر وفاشيي موسوليني وأمثالهم، ويمارسون بكل هوس سياسة “الفرقة الناجية” في سعيهم لفرض معتقداتهم الذهانية فرضا، وينصبون أنفسهم بكل عنجهية وغطرسة محاكم تفتيش على أفكار وضمائر الآخرين، ويصدرون ضدهم بكل وقاحة أحكامهم التخوينية والتسفيهية، فلا تكون النتيجة إلا الإساءة البالغة لصورة القوميين السوريين وتشويهها وتكريه الناس بها، وإسقاطها إلى نفس دركة التعصب والغوغائية وغياب العقل وإلغاء الآخر، الذي تسقط فيها الحركات المتأسلمة التكفيرية!
وفيما يلي أفدم نماذج من منشور نشره أحد جهابذة هذه العينة المريضة على الفيسبوك ردا على مقالي المذكور في مطلع هذا المقال، وتعاليق جماعته المهللة له، وأقدمها كما هي وبدون أي تنقيح لغوي:
(كأيسر المسيح أطل عليك بضؤ الحق لأحطم الصنم العربي داخلك ولأنشلك من بين فكي تمساح من رمل اصفر ومن براثن زيف العروبة المزيفة، واجب علي لا منة مني . بعدما امعنت اجحافا وصفاقة وانا اعلم تماما ما اكتبه واعنيه ، وتبرز تلك الصفات حين خلعت فشل العروبة لتلقيه على صدور القوميين الاجتماعيين متهما اياهم بعدم وجود آفاق مع انهم لم يحصلوا على فرصتهم بعد).
(قلتم نحن اليوم من المحيط إلى الخليج نستطيع ان نقول بالرغم من ( )…..وبالاخص على مستوى الكتابة): تناقض مفاهيم وعناوين يبدأ في نحن مفتوحة غير محددة وهذه النحن مختلفة ومتنوعة ومتعددة البنى والبيئات الاجتماعية ولكنها تمتلك وحدة ثقافية. فأي جنون وأي صرع هو هذا واي علم اقمتم عليه استنتاجكم).
(وسأقوم بعد أن يقبل صداقتي –يقصد على الفيسبوك- بالرد على ما كتبه نقطة نقطة اذ ليس من عادتنا ان الغدر وليس من شيمنا تحطيم الاصنام من بعيد. متمنيا ان يقوم بذلك على وجه السرعة ليعطيني فرصة تحطيم هذا الصنم العربي المصنوع تمر(.
(الحرب حرب ثقافة لا حرب لغة. حرب بين ثقافة الشر المشبع من الصحراء وبين ثقافة الحق والخير والجمال التي تهب من نسائم سوريه وتبرز جيدا حتى عند ابنائها التائهين، فحليب هذه الامة لا يبور).
(فلملم بقايا غبار قصرك الثقافي وجهز لي رأس الصنم العربي المتربع على اعلى خلايا دماغك فأني ورب سوريه لخالعه ولمنجيك ومعيدك الى حقيقتك).
(وتقول ايها التائه ان هذه الوحدة الثقافية التي يشترك فيها اليوم ابناء الشمال الافريقي ووادي النيل والقرن الافريقي والهلال الخصيب وشبه الجزيرة العربية هي عامل اثراء لثقافة ابناء هذه المناطق).
وهذه عينة من تعليقات جماعته:
(تحياتي القومية للاستاذ ***على ماكتب وابدع في مقاربات عقلية و ادلة منطقية ولكن كيف لعقل البدو ان يرتقي لجدل مع العقل السوري وكيف لابناء صحراء داحس والغبراء و لاحفاد ابي لهب الذين عادوا لجاهليتهم الاولى ان يتقبلوا مر هذه الحقيقة..حقيقة ان سورية لن تكون مرتعا لعروبتهم لقد تكلمت يا استاذ *** بلسان رحيم لانقاذهم من جهلهم ولكن اثبتوا لك انهم فعلا اعراااب فدعهم في صحرائهم فارض عشتار لا تريدهم .. وسيأتي يوم نخرجهم منها الى حيث ضاجع محمد بن سعود امراة يهودية فانجبت سلالتهم)
(البراغيث البعثية السوداء لا تكزكز اقدام القوميين البيضاء)
(…يبدو ان هناك ايعاز من مراجع عالية باعادة تعويم القومية العربية بعد ان سقطت سقوط نهائيا بنتائجها الكارثية التي تجلت في معركة الشام والعراق …).
هذه بعض نماذج من الطريقة التي تعاملت بها هذه العينة مع مقال يركز على أهمية الوحدة الثقافية العربية واللغة العربية الفصحى، ويتضمن نقدا لا يخل بالمعايير الأدبية لفكرة القومية، وهو منشور في موقع ثقافي نخبوي له احترامه!
أما إيلاؤنا بعض الاهتمام لهذه العينة، التي لا تمثل قطعا القوميين السوريين الاجتماعيين ككل، بل تمثل نفسها، فالغاية منه تسليط بعض الضوء على مكامن الداء والفساد، في واقعنا السوري بشكل خاص والعربي بشكل عام، ولإبراز نماذج واقعية من أشكال التطرف المستفحلة التي لا تقتصر فقط على البيئات الدينية، ولإظهار الأوجه الأخرى للداعشية، وحواضن الإرهاب، فالداء الظاهر للعيان يمكن التخلص منه!
*
23/01/2018
[1] – اقتباس مجتزأ! وهذه هي الفقرة كاملة: (نحن اليوم من المحيط إلى الخليج، نستطيع أن نقول – بالرغم من الاختلافات المتعددة والمتنوعة في البنى والبيئات الاجتماعية المتواجدة على امتداد هذه المساحة الشاسعة- أننا نمتلك حالة من الوحدة الثقافية على مستوى الأدب والفن والفكر، وبالأخص على مستوى الكتابة!).