بقلم : عضيد جواد الخميسي
أن انتشار المسيحية في إيران كان مرتبطاً بواقعة أن حكم الساسانيين لم يتوقف على الاستيلاء على الأراضي الواقعة ضمن حدود الإمبراطورية . فالمعروف أن شابور الأول وغيره من حكام إيران لاحقوا ومن ثم هجروا مجموعات سكانية كبيرة خارج حدود إمبراطوريتهم وقد ساعد ذلك الإجراء على تسرب هذه الديانة الجديدة إلى إيران والتي كانت قد وطدت دعائمها على سواحل سورية وشمالي بلاد ما بين النهرين .
والمعروف تاريخيا أن الإمبراطور الروماني فالريانس ، الذي وقع أسيراً بأيدي الملك الفارسي شابور سنة 260 م مات في جنديشابور (جنديسابور) حيث يعتقد أن سد (باندي) الذي بني على نهر كارون كان بلا شك من تصميم المهندسين الرومان ومن المحتمل أن الإمبراطور الأسير عمل في بناء هذا السد .
عاش السريان سابقاً على أراضي إيران ولكن أعدادهم تزايدت وتأثيرهم تعاظم أكثر فأكثر في حماية دولة الساسانيين وقد حلت مسألة تنظيم العناصر الاثنية (العرقية) غير الفارسية في عدة أطر واتجاهات .
احتل السريان الحرفيون والتجار مكانة هامة في حياة المدن الإيرانية . شكلوا تعاونيات جماعية موحدة كنوع من النظام الصناعي ويترأس كل تعاونية (شركة موحدة) شيخ أو معلم رئيس لهذه الحرفة أو تلك (شيخ الكار حسب المصطلح العربي الدارج في القرون الوسطى) وكان الانتماء العرقي (الآني) في العصور القديمة وفي القرون الوسطى لا ينفصل مطلقا عن اتفاق هذا الدين أو ذاك ، كان السريان مسيحيين وكان الفرس زرادشتيين وكان على السريان أن ينظموا أنفسهم ضمن جماعات تضمن لأفرادها الحماية والبقاء واستمرارية النشاط في مختلف الظروف . ثم ظهرت الجماعات المسيحية ممن تنتمي للمذهب ذاته لتلتف حول كنائسها ولتصبح أعضاء في جمعيات (نقابات) الحرفيين التي تقدم الدعم الاقتصادي للكنيسة مقابل الرعاية الأدبية والدينية والمعنوية والاجتماعية ومما يؤكد أهمية هذه الوحدات الإنتاجية الدينية ما أشرنا إليه سابقا من حيث أن شيوخ الحرف ورؤساء الورش الصناعية الكبيرة وتجار المدن ، الداخلة في الجمعيات التعاونية الموحدة كانوا يضعون توقيعهم وأختامهم في نهاية (ذيل) مضابط الاجتماعات الكنسية مؤكدين في ذلك على إلزامية قراراتها بالنسبة للأفراد المنضوين في تلك الجمعيات والشركات والورش الموحدة .
ومن حيث اللغة فقد كانت السريانية هي لغة مسيحيي بلاد فارس وبها كانوا يقرأون الكتاب المقدس ويؤدون شعائرهم الدينية ، وعندما اعتنق عدد كبير من الفرس هذه الديانة الجديدة امتزجوا في نظامها العام ثم أصبحوا أعضاء في الجمعيات المسيحية (الأخويات) القائمة في البلاد ..
وقد بقيت الكنيسة السريانية لمدة زمنية معينة بعيدة عن التطورات التي حدثت ضمن العقيدة المسيحية ففي مذهب الحكيم الفارسي أفرهاط ، الذي صاغه في كتاب البينات أو البراهين قبل عام 345 م (حسب أغلب الدلائل التاريخية) لا يعثر على آثار لقرارات الإيمان والعقيدة المتخذة في المجمع النيقي سنة 325 م فمقالاته الثلاث والعشرون ليس هلينية المنطلقات أو المضمون وتحمل طابع البساطة والنظرة الشرقية غير المتأثرة بعد بالمفاهيم والمقولات المسيحية الغربية ، أما الهرطقات المعروفة لافرهاط فتتمثل في الآراء الغنوصية لفالانتينس (فالانتينيوس) ومرقيون وكذلك في عقائد المانويين التي لا يعرف شيء آخر غيرها في هذا المجال.
فالقياصرة المسيحيون الرومان الذين حاولوا إقامة علاقات ودية مع إيران أو على الأقل علاقات مقبولة سعوا قبل كل شيء إلى الدخول باتصالات مع السريان أي مع أبناء دينهم (المسيحيين) يساعدهم في ذلك ” الآباء الغربيون ” ممثلو كنائس الساحل السوري وإنطاكية والقسطنطينية
وقد لعب دوراً متميزاً في هذا المجال ماروثا أسقف ميافارقين ، الذي تحدث عنه المؤرخون والكتاب السريان ، والعرب والإغريق أيضا مع أن معلوماتهم لا تتطابق تماما في بعض المواضع ، واستنادا إلى أحد أقدم المصادر فقد سافر ماروثا الميافارقيني مرتين إلى إيران كموفد للإمبراطورية الرومانية حيث جرت إحداهما في عهد شابور الثاني (حتى عام 379 م) ويؤكد ذلك المؤرخ سقراط الذي يذكر أن ماروثا كان طبيباً ماهراً بالإضافة إلى انه كان مطرانا لمدينة ميافارقين (ميفرقط قديماً) . ونظرا لاشتهاره في مجال الطب ، طلب منه الملك الفارسي (عبر الإمبراطور الروماني) أن يعالج ابنه ، فشفي العليل على يديه الأمر الذي جعل الملك الفارسي يحدد مكافأته ، فكان طلبه : ” السلام والصلح ” فوقع ماروثا معاهدة صلح بين الإمبراطور الروماني والفارسي دامت طيلة حياتهما وإضافة إلى تلك المعاهدة الهامة استطاع ماروثا أن يقنع الملك الفارسي بالموافقة على تسليمه بقايا عظام الرهبان والمسيحيين المقتولين على يد الجنود الفرس فوافق الملك على رغبته هذه ونقل ماروثا تلك العظام إلى مدينة ميافارقين . صحيح أن أخبار المؤرخين البيزنطيين تحمل بعض المبالغات لكنها من حيث الجوهر والأساس صحيحة تماما ، أما زيارته الثانية فقد تزامنت مع بدء عهد الملك (الشاه) يزدجرد الذي تسلم مقاليد العرش في عام 399 م واستمر حكمه حتى سنة 420 م
وفي تاريخ الجاثليق الرابع عشر مار اسحق قصة تدور أحداثها حول إرسال الإمبراطور الروماني أرقاديوس (أركادي) رسالة إلى الملك الفارسي يزدجرد يناشده فيها تلطيف الموقف تجاه المسيحيين ويأمل منه منع ملاحقتهم والاستيلاء على ممتلكاتهم . كان الملك يزدجرد مريضا في أثناء ذلك فاستقبل الأسقف ماروثا ” بسرور كبير ” حيث تلقى بوساطته رسالة الإمبراطور الروماني من جهة وأشفاه من أوجاع الرأس الصعبة من جهة ثانية ..
وكان جواب يزدجرد أنه أرسل للإمبراطور الروماني هدايا ملكية نفيسة وأوقف ملاحقة المسيحيين وأكرم الجاثليق اسحق وطيب خاطره واستغل الجاثليق اسحق وجود ماروثا فعقد مجمعاً كنسياً تقرر فيه تطبيق قوانين تسيير الكنيسة الفارسية كما هو الحال في الكنائس الغربية . أما يزدجرد الملك فقد وافق على مضمون الرسالة التي سطرها الآباء الغربيون كما قدمها ماروثا في البلاط الفارسي وطبقا لأمر الشاه (الملك) في السنة الحادية عشرة من جلوسه على عرش (410 م) اجتمع في سلوقية قطيسفون أربعون أسقفا حيث تليت على مسامعهم الرسالة المذكورة (رسالة الآباء الغربيين) فاتخذ المجمع اثنين وعشرين قانونا كنسيا تضمنت كيفية تنظيم إدارة الابرشيات ونظام انتخاب الأساقفة…. الخ
من المعروف أن المصادر الفارسية تعطي وصفاً سلبياً للملك يزدجرد ويشير المؤرخون إلى طبعه القاسي وشكوكه الكثيرة ورغبته في الثأر والانتقام لكن المسألة تنحصر في رأينا أنه خلافا لرأي الكهنة الزرادشتيين وجد مجالات معقولة للحصول على تأييد مسيحي دولته وحاول في الوقت ذاته إقامة علاقات جديدة مع الإمبراطور الروماني .
وطبيعي ألا يلقى هذا التوجه في سياسته القبول أو الاستحسان في أوساط الطبقة الكهنوتية الزرادشتية في حين أن الكتّاب والمؤرخين المسيحيين يجمعون على الإشادة به ووصف عهده بعبارات الود والاحترام.
فما أن نمت فعالية المسيحيين وعظم نشاطهم حتى تغير موقف الملك يزدجرد الودي تجاههم ، إلا أن هذه المرحلة شهدت انتشارا واسعا للديانة الجديدة (المسيحية) في الأوساط الإيرانية الخاصة ولا سيما في شريحة الوجهاء والشيوخ فدخل رجال الدين المسيحيون بصراع مكشوف مع الكهنة الزرادشتيين.
حيث قتل ( أبدا) و(نرساي) يعود إلى تحطيمهما بعض المعابد الزرادشتية وإطفائهما ” للنار المقدسة “. وكان أن أثار عملهما هذا المقاومة والعقوبة القاسية وعندما تحدث تيودوريطس السيري عن تدمير المعابد الزرادشتية أشار إلى أن هذا التصرف لم يكن في وقته وللتدليل على رأيه ينقل بعض مواعظ بولس الرسول في أثينا الذي كان يرشد الناس بالكلمة ولم يقم بتحطيم معابد الوثنيين وأصنامهم وبعد ذلك يخبرنا التاريخ الكنسي عن الملاحقات الفظيعة في عهدي يزدجرد وبهرم الخامس ، وهو أمر تؤكده الآثار التاريخية والجغرافية السريانية .
هناك أهمية تاريخية كبرى بالنسبة للكنيسة النسطورية للزيارة الشخصية التي قام بها مار آبا الثاني إلى الكوفة751م لمقابلة الأمير يوسف بن عمر الثقفي والذي كان يعتنق الديانة المانوية سرّا، والتي تمكن فيها من توثيق عرى الصداقة مع هذا القائد العربي ..
وقد لعبت هذه الصداقة والتفاهم دورا إيجابيا هاما في السياسة الدينية التي كان ينفذها يوسف الثقفي ، كما زار آبا الثاني الحيرة مركز العرب اللخميين حيث استقبل فيها بحفاوة بالغة من أسقفها (حبرها) يوحنا أزرق ورعيته ..
والواقع أن السريان نجحوا على مدى قرون عدة في نشر المسيحية في أقاصي الشرق منطلقين من بلاد الرافدين وقد تجلت نتائج جهودهم وأنشطتهم التنويرية والتبشيرية في أواسط القرن الثامن وبدايات القرن التاسع للميلاد . ويشهد على ذلك أنه في عهد بطريركية حنانيشوع الثاني بوشر بإعداد نصب منقوش باللغتين السريانية والصينية تخليداً لذكرى هذا البطريرك وقد أقيم هذا النصب عمليا بعد موته في ” سي ــ نفن ـــ فو ” ، حيث تتحدث كتابته التذكارية بالسريانية ـــ الصينية عن نشأة المسيحية ودخولها بلاد الصين وقد أقيم هذا النصب التذكاري سنة 781 م ، أي بعد موت البطريرك حنانيشوع الثاني ويقال أنه مات في سنة 779 – 780 م مسموما بيد الجراح الشخصي (الحجام) للخليفة أبي العباس ودفن في المدائن والسبب في ذلك كما يذكر المؤرخون أن حنانيشوع الذي حاول استرجاع منطقة دوكراه (دوقراخ) التي سلمها سلفه إلى أبي العباس …
مواضيع ذات صلة: الشيعة المسيحية … حقيقة وليست خيال ؟