كان محمد الفيتوري صديقي أكثر مما قد عرف. وكنت أعرف ما يخفي من آمال وآلام، أكثر مما قد أدرك. وكان في بالي، كشاعر وصديق، قربت المسافات أم بعدت، وطال الغياب أم قصر. صار صديقًا منذ أن التقيته أول مرة في بنغازي عام 1968. لا تزال مدينة باهية، كما يقول الليبيون، لم يدهمها الداهمون من كل دعوات الاستبداد والإلغاء. وقد جاء الفيتوري بدعوة من فرع القبيلة الكبيرة في ليبيا. هو يريد شيئًا من الانتساب إلى الوفرة، وهم يريدون تجميل النسب بضم شاعر أفريقيا السوداء إلى شمالها الجغرافي الأبيض.
لا يحتاج التعرف إلى الفيتوري أكثر من ذكر الاسم ومصافحة. وسوف تصبح جزءًا من عائلة الأصدقاء. وإذا ما كنت قد كتبت من قبل عن عذاب أفريقيا وشقاء البشرة السمراء، فسوف يعقد معك محمد، عقد المودة مدى العمر. أيهما ينفد أولاً.
تغنى الفيتوري «بدمامته». تغنى بفقره. تغنى أبدا بزنوجته: «فقير… فوجه كأني به/ دخان تكثف ثم التحم/ وعيناه فيه كأرجوحتين/ مثقلتين بريح الألم/ وأنف تحدر ثم ارتمى/ فبان كمقبرة لم تتم/ ومن تحتها شفة ضخمة/ بدائية قلما تبتسم/ وقامته لصقت بالتراب/ وإن هزئت روحه بالقمم».
«فقير، أجل. ودميم، أجل» يردد الفيتوري، لكنه وهو يكتب أجمل الشعر وأرق المشاعر وخمائل القوافي، ينسى أن يمر بالوصف، على ذلك القلب المصنوع من ياسمين أبيض وياسمين أزرق. بل ينسى، خائفًا، مبتعدًا، مشفقًا على نفسه، ينسى أن الياسمين سوف يتدلى أسود جميلاً من عرائش شعره. غابة من ياسمين.
اعتبر الغرب ليوبولد سنغور، رئيس السنغال، شاعر الزنوجة. شاعر الزنوجة الأكثر شاعرية كان محمد الفيتوري، عيني أفريقيا الدامعتين، وشمس أفريقيا التي فيها نور كثير، وفيها دفء كثير، وليس فيها ظلم القيظ وعشوائية اللهب.
كان هذا «الدميم» وسيم النيل والغابات. ملأ السودان شعرًا كما ملأه الطيب صالح نثرًا. بل كان يبدو في ترحُّله وصعلكته شيئًا مثل مصطفى سعيد، البطل في «موسم الهجرة إلى الشمال»، والمفارقة أن عَلَمي السودان، رفرفا في الهجرة. منذ أن بدأ الفيتوري الهجرة من بحر الغزال، ما توقف. ومذ عثر الطيب على وظيفة في «إذاعة لندن»، لم يعد. ومضى العسكريون في السودان إلى أبعد من ذلك فقرروا أن يطردوا كتبه أيضًا. فنكَّس علم السودان نفسه خجلاً. لقد أفقدوه لون النيل فيه.
هجر الفيتوري السودان لكنه غار في أعماق أفريقيا: «قلها لا تجبن… لا تجبن/ قلها في وجه البشرية/ أنا زنجي وأبي زنجي الجد/ وأمي زنجية/ أنا أسود… أسود لكني حر/ أمتلك الحرية، أرضي أفريقية عاشت/ عاشت أفريقيا». كانت القارة هي كل شيء، وطنه في بشرته، تعطيه أرضه ما يظن أنه دمامة الملامح، لكنها تمنحه تلك النفس السامية والقلب الوسيع الذي يخرج من اللون إلى عشق العالم، متظلمًا من الرجل الأبيض، متقربًا إلى المرأة البيضاء، صادة أو متباعدة أو عاشقة هي أيضًا.
ذلك كان انتصاره الكبير عندما عدت أرى محمد من جديد في مقاهي بيروت أوائل السبعينات. كان سعيدًا، وكعادته تُفرحه الأشياء الصغيرة التي حُرم منها في بداياته، وبينها الراحة المادية.
إلى اللقاء..
الشرق الاوسط
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- المجزرة الأخيرةبقلم آدم دانيال هومه
- ** بالدليل والبرهان … المعارف سر نجاح ونجاة وتقدم الشعوب وليس الاديان **بقلم سرسبيندار السندي
- رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسيةبقلم طلال عبدالله الخوري
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلامية
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :