تأثر الخليجيون بالغرب مثل غيرهم، غير أن الوفرة المالية جعلتهم أكثر احتكاكاً بالمنتج الغربي والمنجز التقني، وربما تزايدت خلال العقود الماضية، حال التعلق بالأزياء والصرعات الغربية بسبب السفر، والتأثر بالأفلام السينمائية.
نموذج الغرب ساحر وآسر، وله مبرراته، ليكون النموذج المحتذى بالعالم، غير أن ذلك كله خيار شخصي متاح، والإعجاب بالحضارة الغربية ليس شتيمة، بل العجب أن ترى ما يبهرك ثم ما لا يبهرك، كما يعبر المفكر السعودي إبراهيم البليهي.
المتأمل للنجاحات التي حققها أولئك، يراها لا تنفصل عن العلم والفلسفة، ودور العلوم البحتة، مثل الرياضيات والفيزياء، بالنجاحات الأممية الغربية، التي بدأت بواكير نهضتها منذ القرن السادس عشر الميلادي، على يد الفيلسوف الفرنسي رينيه ديكارت، الذي تمرّ ذكرى ولادته هذه الأيام، وذلك من خلال عبارته الفلسفية الشهيرة: «أنا أفكر إذاً أنا موجود»… مفهوم غيّر مجرى التاريخ، فهو يضم كلاً من (الذات- الفكر- الوجود)، ثلاثة مفاهيم سيطرت على جميع تاريخ السجالات الفكرية الغربية حتى الآن.
برغم الصراعات، والحروب الأهلية، والحربين العالميتين، إلا أن دولاً نهضت من كبوتها، وذلك لأسباب علمية خالصة، ويمكن اعتبار اليابان ضمن فلك المجتمع الغربي حالياً، لأنها واكبت كل النهوض الغربي.
أما ألمانيا، التي سوّيت مدنها بالأرض، فاستطاعت القيام من كبوتها خلال نصف قرنٍ فقط، ولذلك أسباب علمية واجتماعية، يشرح محمد عابد الجابري في كتابه: (التراث والحداثة)، شيئاً من أسرار ألمانيا، منذ بواكيرها وفتوّتها، وكيف ترى النمو الحضاري، فيقول: «بالجملة، لقد كانت فلسفة التاريخ في ألمانيا إطاراً أيديولوجياً تنعكس فيه بقوة رغبة الألمان بالوحدة والتقدم، وحدة الشعب الألماني المفكك، والتقدم للحاق بركب الدول الأوروبية المتقدمة، وهكذا كانت ألمانيا الإقطاعية تعيش آنذاك على صعيد الحلم.
لقد كانت نظرة فلاسفتها إلى التاريخ مستوحاة، بل موجهة من مشاكلهم في الحاضر، وآمالهم بالمستقبل، لقد نظروا إلى تطور التاريخ بالشكل الذي يمكنهم من تبرير حضارة ألمانية في الماضي، وغياب ألمانيا عن الثورة الصناعية بالحاضر.
لقد جعلوا من الحضارات القديمة طفولة الإنسانية، ومن الحضارة الإغريقية والرومانية شباب الإنسانية، ومن الحضارة الجرمانية كهولة الإنسانية ونضجها، لقد عرّف أحد المفكرين الألمان، التاريخ بأنه (حاصل الممكنات التي تحققت)، وهذا يعني أن هناك ممكنات أخرى بطريق التحقيق، وعلى رأسها ألمانيا المستقبل».
الحضارة الغربية، وإن قيلت هذه الكلمة بالعموم، عن نهوض بريطانيا وفرنسا وألمانيا والولايات المتحدة، غير أن لكل دولة طريقة تغذٍ خاصة على المنجز العلمي، لهذا نعثر على تمايزات بين الدول بكل مجال، إذ تتفوق دولة على أخرى بمجال علمي، أو حقل فني، وهذا شائع بسبب تنوع اهتمامات المجتمعات، لكن البذرة والنواة الغربية فيها اشتراك كبير بالخصائص والصيغ والأساليب، التي دفعتها نحو التفوق الحضاري النوعي.
أن التأثر بالحضارة الغربية أمر حيوي، ودليل تفاعل مع الأمم الأخرى، غير أن الأكثر فاعليةً، اكتشاف القيم التي قامت عليها، والفلسفات التي دفعتها، والعلوم الكبرى الرافعة للحضارة الغربية، وبذلك يكون التأثر أكثر فائدة للإنسان ومجتمعه، فالحضارة أعمق من القشرة اللامعة الساحرة بالشريط السينمائي، ومنجزات الموضة، وسحر المدن، تلك أمور يراها الجميع، لكن البحث عن أسرار التقدم، والمقولات التي ساهمت به الشخصيات الأدبية والفكرية والعلمية المؤثرة بصياغة طرق الانعتاق من القرون الوسطى وعصور الظلام، هو ما يغيّر التركيبة الذهنية، ويعزز من الشغف المعرفي، ويفيد المجتمعات العربية والإسلامية المحتاجة فعلاً لاستلهام نماذج النجاح لدى أي أمة، وهي عند الغرب أوضح وأنجح.
نحن غارقون بالتأثير الغربي حتى النخاع، لكن الأهم أن نُغْرق بفهم أسئلته التي أيقظته.
*نقلاً عن “البيان”