ليست سهلًة الكتابة عن العلاقات الروسية السعودية الآن٬ وضرورة تعميقها. لحظة الكتابة٬ من كاتب منحاز بالكامل لصالح الثورة السورية (أو ما بقي منها)٬ ولأهدافها المعلنة بإزاحة كابوس آل الأسد عن حكم سوريا٬ محفوفة بالمغامرة. فالمشهد الدموي في حلب٬ وهو الأعنف منذ ٬2011 وسياسة التدمير والتجويع المنظمة لمدينة كاملة بقيادة روسيا٬ لا تشجع على رهانات إيجابية على موسكو!
والخشية ليست أقل حيال إدراج المقال في سياق كتابات أو دعوات غير عاقلة٬ تدعو لتصعيد الموقف مع واشنطن في أعقاب صدور قانون «جاستا»٬ الذي شّكل أخطر منخفض في تاريخ العلاقات الأميركية السعودية.
القارئ بعدسة حلب٬ أو بعدسة المتوجس من الدفع نحو علاقات أكثر سلبية مع أميركا٬ واستبدال بها هذه العلاقة أو تلك٬ قد لا يكمل القراءة. لكن ليمهلني القارئ قليلاً.
مع دخول العملية الروسية في سوريا عامها الثاني٬ بات واضًحا أن فلاديمير بوتين نجح إلى حد بعيد في فرض بلاده كواحدة من حقائق الشرق الأوسط الجديد وقواه الرئيسية. ونجح في تبديد رهانات البيت الأبيض على أن موسكو ستسقط في فيتنام جديدة أو أفغانستان أخرى!
روسيا هنا٬ وستبقى٬ ورئيسها يظهر براعة استثنائية في إدارة تناقضات الشرق الأوسط٬ ممسًكا بخيوط العلاقات بين إسرائيل وإيران وتركيا ودول مجلس التعاون الخليجي من دون ارتباك يذكر!
من هذا الموقع٬ ينبغي الاعتراف أن لا أزمة ستحل في المنطقة من دون التفاهم مع روسيا٬ ورعاية مصالحها وتفهم هواجسها وخدمة ما يمكن خدمته من مصالحها ورهاناتها.
هذا صحيح! لكن الصحيح أيًضا أن موسكو تدرك أن لا ضمانات لديمومة مريحة لهذا الدور من دون التفاهم مع مصالح المكون السني في المنطقة٬ عربًيا وتركًيا! وبالتالي فهي محكومة بالتفاهم مع قادة الإقليم٬ وعلى رأسهم السعودية. ليس أدل على ذلك من الاتصالات الكثيفة التي أجراها بوتين مع الملك سلمان بن عبد العزيز قبل التدخل الروسي في الحرب السورية يوم 30 سبتمبر (أيلول) 2015 وبعده.
البراغماتية الروسية٬ هي مورد لا ينبغي إهمال الاستثمار فيه أو الوقوع في استنتاجات خاطئة حول ما تريده موسكو. البوتينية في العمق هي «حركة تصحيحية» ضمن النظام العالمي الذي أنتج في أعقاب سقوط الاتحاد السوفياتي٬ ومضمونها المختصر أن موسكو ترفض أن تكون دولة
إقليمية ناشطة في عالم تقوده أميركا٬ بل دولة قطبية مساوية. في ذلك٬ طبًعا٬ كثير من الادعاء الذي لا تسنده الوقائع الاقتصادية الروسية٬ كمستويات البحث العلمي والإنفاق العسكري٬ والقدرة على الانتشار٬ والرأسمال الدبلوماسي في العلاقات مع الدول والمؤسسات الدولية! لكنه ليس ادعاء فارًغا أيًضا.
لا توجد دولة قادرة على التفاهم العاقل مع روسيا ومع ما يريده فلاديمير بوتين لبلاده أكثر من السعودية. فعلاقة طهران مع موسكو تبقى محكومة بموجبات اللحظة التي أنتجت التقارب بين البلدين٬ في حين لا تملك مكونات تسمح بتحول العلاقة إلى حلف ينهض عليه الدور الروسي في الشرق الأوسط.
ويجب ألا يسقط من الحسابات أن موسكو اختارت توقيًتا لتدخلها في سوريا لا يثير حفيظة الإيرانيين٬ المنهكين والمهددين باحتمال سقوط نظام بشار الأسد خلال أسابيع تلت سقوط إدلب بيد الثوار! الحاجة لتحييد الإيرانيين في لحظة التدخل ليست حاجة دائمة على موسكو مراعاتها إلى الأبد٬ وهي لا تلغي حاجة روسيا لضم السعودية إلى جهودها لتخريج حل في سوريا يكون بمثابة الختم على دور حاسم لروسيا في الشرق الأوسط. انطلاق الدور الروسي احتاج لتفاهم مع إيران. استمراره يحتاج إلى تفاهمات مع السعودية. هذه معادلة دقيقة تحكم العلاقات بيننا وبين روسيا.
لا شك أن العلاقة بين السعودية وموسكو يجب تحويلها إلى علاقة قائمة على ثقة لا يشوبها شك. الموقف الروسي في اليمن حمال أوجه. الموقف في سوريا باٍد للعيان. كل هذا صحيح٬ لكنه حافز لتسريع مسار التفاهمات الاستراتيجية٬ وليس العزوف عنها!
واحد من الاختبارات في هذا السياق هو مدى مساهمة موسكو في إنجاح الاتفاق على تخفيض إنتاج النفط للحفاظ على سعر برميل البترول فوق الـ50 دولاًرا. الاتفاقتوصلت إليه السعودية مع عدد من دول «أوبك» ونجاح الاتفاق مرهون بمدى تعاون الدول المنتجة للنفط من خارج «أوبك»٬ وعلى رأسها روسيا٬ وهو ذو أبعاد استراتيجية للجميع٬ باعتراف روسيا نفسها التي وقعت مع السعودية على بيان مشترك على هامش قمة العشرين في الأسبوع الأول من سبتمبر يقضي باتخاذ إجراءات لتحقيق استقرارسوق النفط العالمية.
روسيا تحتاج إلى السعودية بقدر ما تحتاج السعودية إلى تنويع سلة تحالفاتها الاستراتيجية٬ في موازاة العلاقة الاستراتيجية وما يشوبها الآن مع واشنطن٬ وليس في مواجهتها.
* نقلا عن “الشرق الأوسط”