هنا أتوقف عند محطة أخرى عن الموسيقى .
الموسيقى والشفاء بالعلاج الحسي لتوتر نفسي ، استخدام فكرة الاسترخاء وترطيب الأعصاب باللحن والترتيل كما في عهد الصوفيين والدراويش ،
فالصوفيين أصول اللحن والموسيقى ، والدراويش هي النغم والحركة والرقص وتخليص الروح من ضغط الحياة اليومية .
في أفريقيا السمراء هنالك طقوس للموسيقى ، منها تخليص الروح من الشيطان ، او الجن ، ورقصة الزيران الأفريقية التي امتزجت في فن الزيران ، الرقص والغناء بالدفوف والطبول .
وتشاهد في الخليج العربي وجنوب العراق ماهي وصفة فنية للعلاج .
حتى الأبقار في بعض مزارع العالم يوضع لها موسيقى لتهدأتها ولزيادة إنتاج كمية الحليب ، فكيف البشر .!.
استمعوا واقرأوا الآتي .؟
الهنود والإغريق والرومان ******
والعلاج بالموسيقى قديماً
يؤكد حكيم الهند القديم كونفوشيوس على مدى أهمية الموسيقى فيقول :
(إذا أرت أن تتعرف في بلد ما على إرادته ومبلغ حظه من الحضارة والمدنية، فاستمع إلى موسيقاه) .
وما نعرفه اليوم عن علم الموسيقى يعود بنا إلى أيام الإغريق في أرض اليونان القديمة، عندما نصبوا للألحان والغناء إلهاً اسمه (أزوريس) كعهدهم في تنصيب آلهتهم في كل أمر من أمور حياتهم، وأزوريس الإله هذا كانت له فرقة من سبع بنات أطلقوا عليهن اسم الآلهات السبع للفنون الجميلة، وسموا كل واحدة منهن باسم (ميوز). ومن هنا جاءت كلمة (ميوزيك) التي شاعت وتسللت لكل لغة لتغني اللحن والنغم بينه وبين الموسيقى لما بين الفنين من ترابط.
وهبت على نظرية (تأثير الموسيقى) نسمة منعشة من الحياة باتصاله بآراء الإغريق عن التأثير .
ويقول إخوان الصفا عن مذهب (موسيقى الأفلاك) : {تبين إذاً أن لحركات الأفلاك والكواكب نغمات وألحاناً} ووجدت في هذا المذهب (العلة الأولى) للموسيقى جميعها في عالم الكون والفساد وظنوا أن أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع ولكل مزاج ولكل طبيعة، نغمة تشاكلها ولحن يلائمها. ولذلك استعملت الموسيقى في المستشفيات لأنها تخفف ألم الأسقام والأمراض عن المريض .
العلاج بالموسيقى قديماً :
لقد قسم (إخوان الصفا) الألحان إلى: (ألحان روحية مؤثرة، مثل تجويد القرآن والأناشيد الدينية، وألحان حربية وحماسية، وألحان جنائزية، وألحان داعية للعمل، مثل أغاني صيادي الأسماك، والحمالين، والبنائين، أو ألحان المناسبات مثل الأفراح وغيرها، وهناك الألحان الحدائية التي تستعمل في توجيه الحيوانات، مثل غناء الحداء في قافلة الجمال) .
وفي موقع آخر يقول (إخوان الصفا): { … أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها، كل ذلك بحسب تغييرات أمزجة الأخلاق واختلاف طباع وتركيب الأبدان في الأماكن والأزمان … ولذلك فإنهم (والكلام لإخوان الصفا) استخرجوا لحناً يستعملونه في المارستانات وقت الأسحار يخفف من ألم الأسقام عن الأمراض، ويكسر سورتها، ويشفي كثيراً من الأمراض والأعلال} .
والشيخ الرئيس إبن سينا يوضح أن بعض النغمات يجب أن تخصص لفترات معينة من النهار والليل . ويقول : (من الضروري أن يعزف الموسيقار في الصبح الكاذب نغمة راهوى وفي الصبح الصادق حُسينى، وفي الشروق راست، وفي الضحى بوسليك، وفي نصف النهار زَنكولا، وفي الظهر عُشّاق، وبين الصلاتين حِجاز، وفي العصر عِراق، وفي الغروب أصفهان، وفي المغرب نَوى، وفي العشاء بُزُرك، وعند النوم مخالف { زِيرَ افْكنْد} ) .
ويعني تلميذه الحسين بن زيلة عناية كبيرة بهذا الوجه التأثيري من المسألة .
كما يقول صفي الدين عبد المؤمن: (إعلم أن كل شد من الشدود فإن لها تأثيراً في النفس ملذاً، إلا أنها مختلفة . فمنها ما يؤثر قوة وشجاعة وبسطاً، وهي ثلاثة: عشاق وبوسليك ونوى … وأما راست، ونوروز وعراق وأصفهان، فإنها تبسط النفس بسطاً لذيذاً لطيفاً، وأما بزرك وراهوى وزيرافكند وزنكولة وحسينى، فإنها تؤثر نوع حزن وفتور).
وهذا ما كان يرمي إليه إبن سينا من خلال تقسيمه الزمني لاستعمال النغمات الموسيقية، لأن الإنسان يمر بحالات نفسية مختلفة. بل ومتناقضة أحياناً في اليوم الواحد تبعاً لظروف حياته ونمط معيشته من الاستيقاظ حتى النوم. كما نقرأ في العقد الفريد عن علاقة الموسيقى بالطب قول ابن عبد ربه : (زعم أهل الطب أن الصوت الحسن يسري في الجسم ويجري في العروق، فيصفو الدم ويرتاح له القلب، وتهش له النفس، وتهتز الجوارح وتخف الحركات) .
الموسيقى والمعالجة الطبيِّة****
الرئيس إبن سينا الذي نصح بالغناء والموسيقى (وقد كان القدامى يسمون هذا السماع) على المصابين بآفات عقلية أو نفسية. وإنما يوصي بهما أيضاً في تسكين الأوجاع. إذ هما يساعدان على النوم: “من مسكنات الأوجاع المشي الدقيق، الطويل الزمان لما فيه من الإرخاء… والغناء الطيب خصوصاً إذا نوم به، والتشاغل بما يفرح، مسكن قوي للوجع” .
كما يدرج الموسيقى والغناء في عداد الأدوية التي يعالج بها الحميات. يقول مثلاً، في باب “حميات اليوم (أي العرضية)، في علاج الحمى الغضبة: “المعالجات هو تسكينهم (المصابين بها) وشغلهم بالمفرجات من الحكايات والسماع الطيب، واللعب، والمناظر العجيبة…”
وجدير بنا أن نستذكر أن الرازي مصنفاً في الموسيقى ذكره إبن أبي أصيبعة: (كتاب في جمل الموسيقى). ولإبن سينا أيضاً غير تأليف في الموسيقى.
ولم يغب عنه هذا الحس وهو يرى أن في النبض طبيعة موسيقية، وأنه ذو نسبة إيقاعية في السرعة والتواتر.
فهو الذي حدد لكل وقت من أوقات الليل والنهار نغمته الخاصة به.
ويورد “فارمز” أن مما بلغ الحضارة الأوربية، ترجمة، قدرة الموسيقى على الشفاء وهو ما أتثبته إبن سينا بمقالته التي كادت تذهب مثلا في اللغة اللاتينية .
“ Inter Omni excercitia Sanitatis cantare Melius est “
أي : خير تمارين العافية الغناء. وهذا قريب من قول (إخوان الصفا) : “أمزجة الأبدان كثيرة الفنون، وطباع الحيوانات كثيرة الأنواع، ولكل مزاج، ولكل طبيعة، نغمة تشاكلها، ولحن يلائمها”.
وقبل هؤلاء جميعاً، قسم ” الكندي” الألحان أقساماً في كتاب (المصوتات الوترية من ذات الوتر الواحد إلى ذات العشرة الأوتار) “المقالة الثانية”: (في تأليف اللحون). وقال: إن منها مايكون للطرب، أو إثارة الحماسة، أو يكون ” للبكاء والحزن والنوح والرقاد ويسمى الشجوي”.
ويتناول النغمات والأوتار والإيقاعات، فيورد تأثيرها على أعضاء الجسم:
فحركات الزير، مثلاً، تورث “أفعال النفس: الفرحية، والعزية، الغلبية، “وقساوة القلب والجرأة والإقدام والزهو والنخوة والتجبر والتكبر، وهو مناسب لطبع الماخوري. ويحصل من فعل هذا الوتر (وهذا) الإيقاع : أن يكونا مقويين للمرة الصفراء محركين لها، مع اجتماع الزمان الشتوي والنومي، وسن الموسيقا أي وطباعه، وإذا قوي هذا الطبع والمزاج أذاب البلغم وقطعه ورققه واسخنه. ومما يلزم المثنى من تلك الأفعال: السرورية والطربية والفرحية والجودية والكرمية، والتعطف والرأفة والرقة… ويحصل من قوة هذا الوتر وهذين الإيقاعين: أن يكونا مقويين للدم وطباعه ومحركاته ولطافته وسجياته، ويكسران عادية السوداء ويقمعانها ويمنعان أفعالها.
ومما يلزم المثلث من تلك الأفعال: الجنية والمراسي والحزن ومايشجي، وذكر الغابر، وأشباه التضرع… ويحصل من هذا الوتر وهذا الإيقاع: أن يكونا محركين للبلغم مطلقين له زائدين في اعتداله – إن كان معتدلاً – أو معدلين له مسكنين للصفراء مانعين لتسليطها، مطفيين لحدتها.
ومما يلزم ألم من تلك الأفعال: الفرحية تارة، السرورية تارة والتحبب والزهو… ويحصل من هذا الوتر وهذه الإيقاعات: أن تكون مقوية للسوداء زائدة في حركاتها مطفية للدم، ولها من الأغاني: النوح والشكوى وذكر حنين الإلف والطير والإبل، وبكاء الرسوم والآثار والدمن…
ومن طبع البم الحلم والزكانة والرصانة، ومن طباعه أيضاً السرور تارة، والحلم تارة، مع الأفكار الرديئة والكمد وانقطاع الطبع وانخذال النفس”.
ثم يقول:
“وقد يلزم حركات النفس وانتقالها من حال إلى حال بخواص حركات الأوتار على حسب ماقدمناه من طبعها أو مناسباتها – مايكون ظاهراً للحس، منطبعاً في النفس. فمما يظهر بحركات الزير في أفعال النفس: الأفعال الفرحية والعزية والغلبية، وقساوة القلب والجرأة وما أشبهها، وهو مناسب لطبع الماخوري وماشاكله. ويحصل من قوة هذا الوتر وهذا الإيقاع: أن يكونا مقويين للمرار الأصفر محركين له، مسكنين للبلغم مطفيين له.
ومما يلزم المثنى من ذلك الأفعال السرورية والطربية والجودية والكرمية والتعطف والرقة ما أشبه ذلك… ويحصل من قوة هذا الوتر وهذين الإيقاعين أن تكون: مقوية للدم محركة له، مسكنة للسوداء مطفية لها.
ومما يلزم المثلث من ذلك: الأفعال الجنية والمراثي والحزن وأنواع البكاء وأشكال التضرع وما أشبه ذلك ، وهو مناسب للثقيل الممتد. ويحصل من هذا الوتر وهذا الإيقاع أن يكونا: مقويين للبلغم محركين له، مسكنين للصفراء مطفيين لها.
ومما يلزم البم من ذلك: الأفعال السرورية، تارة والترحية تارة، والحنين والمحبة وما أشبه ذلك. وهو مناسب للأفراح والأرمال والخفيف وماأشبه ذلك ويحصل من هذا الوتر وهذه الإيقاعات أن تكون : (مقوية للسوداء محركة لها، مسكنة للدم مطفية له…).
ويقول طاش كبري زاده (968 هـ/1561م) في (علم الموسيقى):
“… ولذلك يستعملون النغم تارة في الأفراح والحروب، وعلاج المرضى، وتارة في المآتم وبيوت العبادة”.
فليس بغريب إذاً، أن ملكاً (الحافظ العبيدي) استنبط له طبيبه طبلاً، ذا نغمات خاصة تبرىء وتشفي.
وعند ابن جزلة(493 هـ/1100 م) في كتابه: (تقويم الأبدان) أن {….الموسيقى من الأدوات النافعة في حفظ الصحة وردها، وتختلف بحسب اختلاف طباع الأمم…}.
وقديماً وضعت هذه الصناعة لحث النفوس إلى السنن الصحيحة، ثم استعملها الأطباء في شفاء الأبدان المريضة. فموقع الألحان من النفوس موقع الأدوية في الأبدان المريضة.
وأفعاله في النفس ظاهرة من مشي الجمال عند الحداء، وشرب الخيل عند الصفير، ومرح الأطفال لسماع الغناء. وهو يحدث أريحية ولذة، ويعين على طول الصلاة والدراسة. والأطباء يستعملونه في تخفيف الآلام، على مثال مايستعمله الجمالون لتخفيف الأثقال.
ولايشذ إبن النفيس (687هـ/1288م) عن زملائه. ففي مخطوطة (كتاب الموجز في الطب)، يقول في الفصل الثالث: … في الأمراض المختصة بعضو عضو (أي عضواً): العشق وهو يعتري العزاب والبطالين والرعاع… ويعرف معشوقه بوضع اليد على نبضه وذكر أسماء وصفات. فأيها اختلف عنده النبض، وتغير لون الوجه، يعرف أنه هو. والعلاج… من المسليات: الصيد والاشتغال بالعلوم العقلية والمحاكمات … واللعب، والسماعات المقصود بها اللعب كالتي بالخيال وأما التي يذكر فيها الهجر والنوى، فكثيراً مايهلك عشقاً.
ويجمع داود الإنطاكي (1008هـ/1600 م) في (تذكرته) تفاريق أقوال الأطباء في هذا المجال. يورد، مثلاً، في كلامه على الهمك …. ومما يعين على ذلك (سلو الهم…) النظر في الحساب والتصاوير والهندسة، وإن ضاق نطاق التفكير عن ذلك، فسماع الأصوات، والآلات الحسنة، إذ لاعلاج لمن استغرق غيرهما… فهذا تلخيص التقطناه من مفرق كرمهم إذ لم نظفر بمن جمع هذا الباب.
وكذلك أشار الأنطاكي إلى استخدام الموسيقى في علاج الجنون والحميات الحارة، وفي الاختلاج والارتعاش. ويعين هنا نغمةً خاصة على العود (المنشاري).
وهذا يذكر بما نسبوه إلى الكندي. فقد روى القفطي أنه كان في جوار هذا الطبيب الفيلسوف ” رجل من كبار التجار، موسع عليه في تجارته. وكان له ابن قد كفاه أمر بيعه وشرائه، وضبط دخله وخرجه، وكان ذلك التاجر كثير الإزراء على الكندي، والطعن عليه، مدمناً لتفكيره والإغراء به. فعرض لابنه سكتة فجأة، فورد عليه من ذلك ماأذهله، فلم يدع بمدينة السلام طبيباً إلا ركب إليه واستركبه لينظر ابنه، ويشير عليه من أمره بعلاج. فلم يجبه كثير من الأطباء ؛ لكبر العلة وخطرها إلى الحضور معه.
ومن أجابه منهم فلم يجد عنده كبير غناء. فقيل له: أنت في جوار فيلسوف زمانه، وأعلم الناس بعلاج هذه العلة، فلو قصدته لوجدت عنده ماتحب. فدعته الضرورة إلى أن تحمل على الكندي بأحد إخوانه، فثقل عليه في الحضور، فأجاب، وصار إلى منـزل التاجر، فلما رأى ابنه وأخذ مجسه، أمر بأن يحضر إليه من تلاميذه في علم الموسيقى من قد أنعم الحذق بضرب العود وعرف الطرائق المحزنة، والمزعجة والمقوية للقلوب والنفوس، فحضر إليه أربعة نفر، فأمرهم أن يديموا الضرب عند رأسه، وأن يأخذوا في طريقة أوقفهم عليها، وأراهم مواقع النغم بها من أصابعهم على الرساتين ونقلها: فلم يزالون يضربون في تلك الطريقة، والكندي آخذ مجس الغلام، وهو في خلال ذلك يمتد نفسه، ويقوى نبضه، ويراجع إليه نفسه شيئاً بعد شيء، إلى أن تحرك، ثم جلس وتكلم، وأولئك يضربون في تلك الطريقة دائماً لايفترون فقال الكندي لأبيه:
سل إبنك عن علم ماتحتاج إلى علمه، مما لك وعليك وأثبته . فجعل الرجل يسأله، وهو يخبره، ويكتب شيئاً بعد شيء. فلما أتى جميع مايحتاج إليه غفل الضاربون عن تلك الطريقة التي كانوا يضربونها، وفتروا، فعاد الصبي إلى الحال الأولى، وغشيه السكات… ومهما يكن من شأن الصنعة في هذه القصة ، فالكندي قد أفاض القول، كما سقنا بالشواهد من أقواله، في أثر الموسيقى من الوجهة الطبية، وبين (أن الألحان تؤثر في الجسم فتساعد على الهضم. وتبعث في الكيموسات التلطيف والتنظيف).
ولابد أن نذكر في سياق كلامنا على ابتداع العرب طرائق في المعالجة النفسية والعقلية أنهم كانوا سباقين إلى المداواة بالوهم، وفي سير الأطباء التي حكاها ابن أبي أصيبعة مشاهدات وأنباء كثيرة من هذا القبيل.
فهو يورد، مثلاً، في سيرة أبي البركات هبة الله بن علي بن ملكا البلدي، أثر الوهم في شفاء بعض الأمراض؛ إذ يقول: (وهذا باب عظيم في المداواة . وقد جرى أمثال ذلك لجماعة من الأطباء المتقدمين في مداواتهم بالأمور الوهمية. وقد ذكرت وكثيراً من ذلك في غير هذا الباب).
. الموسيقى وما أثبتته الإختبارات حديثاً ****
يقول الفيلسوف الألماني نيتشه (1844 – 1900 م)
لولا الموسيقى لكانت الحياة ضرباً من الخطأ”…
لذلك احتلت الموسيقى في عصرنا الراهن موقعاً فعالاً ومؤثراً في العلاج، لدرجة أن بعض الدول أنشئت فيها جمعيات متخصصة لهذا الغرض، مثل الجمعية الوطنية للعلاج بالموسيقى التي تأسست منذ عام 1950 في الولايات المتحدة الأمريكية. وفي الوطن العربي بدأت تجربة لإدخال المعالجة بالموسيقى في المعهد الوطني لحماية الطفولة بتونس.
بعد أن ثبت بما لايدع مجالاً للشك مدى تأثير الموسيقى في كثير من الميادين، أنها تلهب حماسة المقاتلين في الحروب وتزيد الناس ابتهاجاً في الأعياد والمناسبات، علاوة على أنها تشفي العديد من الأمراض النفسية، وتساعد على إجراء بعض العمليات الجراحية عوضاً عن استعمال المخدر، وخاصة في ميدان طب الأسنان.
وعلماء عصرنا يؤكدون ما قاله الأقدمون عن تأثير الإنسان والحيوان، وحتى بعض النباتات بالموسيقى، فالتجارب التي أجريت في بعض البلدان الأوربية أثبتت بأن الأبقار إذا ما استمعت إلى أنماط معينة من الموسيقى أثناء حلبها، فإنها تدر الحليب بنسبة أكبر، وتصير هادئة الطبع، وإن أنواعاً من النباتات إذا مانقلت إلى مكان يشتد فيه الصخب والضجيج فإن نموها يتوقف وربما تذبل وتموت.
وفيما يخص بتأثير الموسيقى على حياة الزوجين، فقد أكد أحد الأخصائيين في العلاج النفسي أن الأزواج يجب عليهم الراحة ثلاثة أيام أسبوعياً من مشاهدة برامج التلفزيون بكل أنواعها ونصح بالاستماع إلى الموسيقى الهادئة ولو ساعة في اليوم.
أما الطبيب النمساوي البروفيسور (برامز) فقد توصل إلى طريقة حديثة لإنقاص الوزن بالاستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية لمدة ثلاث ساعات يومياً، للعلاج بشكل ملحوظ ونقص وزنهن إلى الحد المطلوب.
كما أن هناك عادة قديمة – حديثة – تمارسها الأمهات، وهي تهليل الأم لطفلها باللحن العذب والصوت الرقيق لكي تحمله على الهدوء والنوم.
والدراسات الأخيرة التي أجريت لتحديد علاقة الإنسان بالمتعة الموسيقية تثبت أن أساس المتعة الموسيقية هو مراكز المخ، حيث وصلت الدراسات إلى عدة ملاحظات منها:
1 – سلوك المستمع وتفاعله يحددان مدى تمتعه بالموسيقى، فالإنسان المهيأ لسماع الموسيقى يتأثر بها أكثر من الإنسان المشغول عنها.
2 – تأثير الموسيقى على أجهزة الجسم يعتمد إلى حد كبير على طبيعة الموسيقى، فبعض ألوان الموسيقى مثلاً يؤثر على الجهاز الدوري (القلب والأوعية) للإنسان، كما أن بعض ألوان الموسيقى الأخرى يؤثر على الجهاز العصبي ، لهذا يختلف الناس فيما بينهم بتأثرهم وتمتهم بالموسيقى.
3 – وعلى النقيض ، فإن ذات الموسيقى أو نفس النغمة قد تؤثر على الجهاز الهضمي لشخص ما، بينما هي تؤثر على الجهاز الدوري لشخص آخر، أو قد تؤثر على المخ والجهاز العصبي لشخص ثالث.
وقد أمكن قياس هذه التأثيرات والتغيرات الفيزيولوجية بأجهزة الطب الحديثة، مثل رسام القلب، ورسام المخ ، ورسام التنفس، وجهاز ضغط الدم، أو تقدير مستوى احتراق السكر في الدم.
إذاً ما أشار إليه ابن سينا وتلميذه الحسن بن زيلة وصفي الدين عبد المؤمن وابن عبد ربه… الخ. بشكل عام، تؤكد الدراسات والتجارب الطبية الحديثة تفصيلياً بالدليل العلمي.
كما ثبت أن هناك توافقاً بين الأحوال النفسية والأمراض الجسدية، وأي اختلاف في أحدهما، تنعكس صورته على الأخرى، لهذا صار من المألوف أن نسمع مثلاً عن قرحة المعدة، وارتفاع ضغط الدم، ونوبات القلب، ومرضى البول السكري أنها ترتكز على جذور نفسية وعصبية بنسبة كبيرة، ينبغي مراعاتها عند العلاج.
التفسير العلمي للعلاج بالموسيقى****
لقد أحرز العلاج بالموسيقى نجاحاً باهراً، لم يكن في الإمكان تحقيقه بإستعمال الأدوية الأخرى، التي تستعمل في مثل هذه الحالات.
وكانت أولى النتائج التي حققتها التجارب التي أجراها الباحثون على الإنسان لاكتشاف فعالية الموسيقى وأثرها في تنشيط إفراز مجموعة من المواد الطبيعية، التي تتشابه في تركيببها مع المورفين، وهي ما تسمى بالاندورفينات.
ويعتقد هؤلاء الباحثون وهم أشهر العلماء في الولايات المتحدة، أنهم أصبحوا قاب قوسين أو أدنى من تحقيق وتعميم هذا الاكتشاف الخطير، الذي سيحدث تغييراً جذرياً في الآراء المعروفة عن “كيمياء الألم” بفضل الاندورفينات التي هي أحد أنواع البيتبيد Peptid، أي الهرمونات التي تفرزها الغدة النخامية، وأبرز مراكز تجمعها في اللوزتين، وفي الجهاز اللمفاوي، حيث يحتويان على مجموعة كبيرة من الخلايا التي تفرز الاندورفينات.
ولم يعد شك في أن الألم والمتعة والانفعال، وكثيراً من الأمراض لها اتصال بعمل الأندورفينات، التي اكتشفت عام 1972، والتي اتضح أن الموسيقى تساعد مساعدة جبارة على زيادة إفرازها، وبالتالي على علاج الجسم وشفائه من الأمراض.
وبصفة عامة فإن التجارب أثبتت حتى الآن أن زيادة تلك المواد لاتمثل أية خطورة على المريض، فضلاً عما لتلك الأندورفينات من ميزة يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وهي أنها وبمقارنة مع الأدوية الأخرى، عبارة عن مادة طبيعية يفرزها الجسم، ومن المأمول ألا تكون لها أية آثار جانبية، كما هو الحال بالنسبة للأدوية الأخرى التي يتعاطاها المريض.
إذاً فالعلاج بالموسيقى علاج يسير، رخيص، سهل، ليس له أي مضاعفات على الإطلاق يمارس في كل زمان وكل مكان، سواء كانت الشمس ساطعة مشرقة أم المطر ساقطاً، صيفاً أو شتاءً، يستخدمون أدوات وآلات موسيقية في الهواء الطلق، وعلى اختلاف أنواعها.
ومنذ أن بدأ هذا العلاج الجديد والذي سيشعل في سنوات قادمة ثورة عارمة في عالم الطب. اتضح أن الذين استخدموا هذا الأسلوب أصبحوا الآن يشعرون بأنهم في وضع صحي وحياة أفضل، لايكادون يستخدمون أي دواء وكثيراً منهم أقلع عن مادة التدخين، كل ذلك بفضل الموسيقى.
إن الموسيقى بعموميتها تبدأ حيث تنتهي الكلمة، إنها عنصر جوهري في البناء الروحي للإنسان، توقظ فيه الشعور بالمعاني الكبيرة. المعاني السامية، كالحق، والخير، والجمال. وتحرك وجدانه وترهف شعوره وتساعد على تحقيق الوئام مع نفسه، والتوافق مع الحياة من حوله، وبالتالي فالموسيقى أقدر الفنون على خدمة الإنسان، كما أنها قادرة على خدمة قضايا السلام والديمقراطية والتقدم.
إن شوستا كوفيتش عندما يطرح مقولته الخالدة:
(يجب أن يتساءل المؤلف الموسيقى دائماً… كيف أخدم بفني قضايا البشرية والسلام والتقدم؟). يضيء الريق أمام كل مؤلف موسيقى، حتى لا ينحرف أو يتعثر، لأن المؤلف الموسيقي فنان يسخر أدواته الموسيقية وصنعته الفنية للتعبير عن نفسه ومجتمعه، على أن يكون هذا التعبير تعبيراً غير مباشر.. وكلما كان التعبير غير مباشر كان أقدر على البقاء.