الشرق الاوسط
من الذي يفيد من القتال بين تنظيمات كردية وعربية في مدن وبلدات وقرى سورية عديدة تقع في منطقة الجزيرة؟ وما فائدة إرباك الساحة السياسية والعسكرية الأكثر من مربكة بإعلانات غامضة أثارت قدرا عظيما من البلبلة في نفوس معظم السوريات والسوريين، لن ينجم عنها غير تشويش الساحة بأكثر مما هي مشوشة، خاصة بعد أن أثيرت حولها شبهات جدية نتيجة رفضها من فصائل كردية تنضوي في المجلس الوطني الكردي؟ ومن غير النظام يمكن أن يفيد من قيام تنظيمات تريد نفسها جهادية بقتل واختطاف ضباط وكوادر من الجيش الحر وبقية فئات الشعب والمعارضة، بحجة أن هؤلاء كفرة ومن المحتم أن تفشل الحرب ضد النظام إذا لم يتم تطهير البلاد منهم؟ أخيرا، من الذي يمكن أن يفيد من نقل المعركة ضد النظام إلى صفوف الذين يحاربون ضده من قوى الشعب ومواطني البلاد؟
في أبجديات الوضع السياسي لبلادنا أن حل المشكلات التي أورثنا إياها الاستبداد يتوقف على رحيله، أي أنه رهن بتجميع طاقاتنا وقدراتنا المتنوعة وزجها في المعركة ضده، ليس فقط لأن تناقضنا معه هو التناقض الرئيس الذي يحكم مسار الثورة وحسابات المنخرطين فيها من القوى الشعبية، وإنما كذلك لأن تسريع رحيله بجهودنا الجماعية هو بوابة لا غنى عنها للبدء في حل المشكلات التي وضعنا طيلة نصف قرن في مواجهتها، ومنها المسألة الكردية التي نعي جميعا أن بقاءها دون حل يعني انتفاء الديمقراطية والمساواة والعدالة في سوريا القادمة، وإقامة أشكال جديدة من الاستبداد يعني السكوت على قيامها. فشلنا في تحقيق النقلة التاريخية المطلوبة إلى حكم المواطنة والدولة الديمقراطية وما يترتب عليهما من منجزات مفصلية، مدنية وحضارية، سيعين مصيرنا لعقود وربما لقرون قادمة.
ثمة نتيجتان لما تقدم: أولاهما أن حل المسألة الكردية في ظروف الصراع ضد النظام هو ضرب من الاستحالة، لن يكون غير مغامرة خطيرة العواقب تزيد وضع الثورة إرباكا وتهدد قواها وتعزز الميل إلى زج بعضها في مواجهة بعضها الآخر، عوض قتالها مجتمعة وموحدة ضد النظام. وثانيتهما أن الديمقراطية هي التي ستخلق الشروط الضرورية لحل أي مشكلة تطرح نفسها اليوم علينا، وستؤسس مناخا ملائما لحلها في إطار المساواة والعدالة والأخوة، أما الجري وراء المحال فهو عبث لن يترتب عليه غير الفشل، خاصة إن كانت حسابات بعضنا تقوم على فكرة غير صحيحة ترى أن السلطة والمعارضة ضعيفتان وأن ضعفهما الحالي سانحة ملائمة لتحقيق ما يريدون وجعل تحقيقه غير قابل للإلغاء، علما بأن انتصار النظام سيبطل كل ما سيكون هؤلاء قد حصلوا عليه بقوة الأمر القائم، بينما سيعني انتصار المعارضة إبطاله لصالح حل يلبي متطلبات الديمقراطية ويعبر عنها. بدل أن يضع هؤلاء أيديهم في أيدي بقية القوى الثائرة، يبدو اليوم وكأنهم تخلوا عن القضية المشتركة وشرعوا يلاحقون قضية خاصة، عادلة في جوهرها، لكن حلها على أيديهم لا يحظى بتأييد الكرد ويؤثر سلبيا على عدالة قضيتهم، رغم أنه لن يكون نهائيا في حالتي انتصار الثورة أو النظام.
ليس انخراط دولة العراق والشام الإسلامية في الصراع على سوريا بالأمر المقبول تحت أي ظرف، فكيف إذا كانت لم تجد لها عدوا تقاتله غير الجيش السوري الحر، الذي يقاتل النظام بثبات واقتدار لا يستهان به، ويعلق السوريون آمالهم عليه، لأنهم يرون فيه الأداة التي ستساعدهم على نيل حريتهم، خاصة إن تم إصلاحها وتحويلها إلى جيش وطني حقيقي: منضبط ومتماسك ومهني. والغريب أن الدولة المزعومة بدأت التحرش بالجيش الحر بعد نكسات تعرض لها في مناطق عديدة من وسط سوريا، وفي أعقاب الحصار الذي فرضه النظام على حمص، مما أثار شكوكا قوية ومبررة في حقيقة سياساتها وأظهرها بمظهر جهة ترتبط بالسلطة، التي لا يشك أحد اليوم في أنها اخترقت العديد من التنظيمات الجهادية، وأن بعض قادة هذه التنظيمات يعملون بأوامر من ضباط الأسد، الذين قاموا بتجنيدهم وتدريبهم بعد عام 2003 لإرسالهم إلى العراق.
ليس ولن يكون في قاموس الوطنية السورية التعايش مع دولة أصولية يقودها متطرفون إلى حد الجنون، تحل محل الدولة السورية وتبطل فرص تحويلها إلى دولة لكل الشعب: ديمقراطية ومدنية. ومع أنه لا يوجد وطني سوري يؤيد القتال مع أي طرف يقاوم النظام، فإنه لا يوجد بالمقابل سوري وطني يؤيد انقضاض أغراب على ثورة الحرية، واستيلاءهم على إرادة الشعب الذي قام بها تمهيدا لإقامة نظام استبدادي سيكون أشد شراسة ودموية من النظام الأسدي الذي قدموا مئات آلاف الضحايا كي يتخلصوا منه، ولا يعقل أن يستبدلوا به ما هو أكثر سوءا واستبدادا منه.
يغلط كثيرا من يتوهمون اليوم أنهم يستطيعون لي ذراع الشعب السوري. إنهم لا يغلطون فقط بحق بلادهم، بل كذلك بحق أنفسهم وبحق القضايا التي يدافعون عنها، ولن تصل إلى حلول مرضية قبل قيام النظام الديمقراطي العتيد بجهود جميع السوريين، وفي مقدمتها جهودهم هم أيضا.