من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ -4

الفصل الرابع

ما هذيان الهلاوس؟

“الهلوسة: إدراك أو احساس بلا وجود موضوع يُدرك أو يُحس؛ حالات الهلاوس تشكل إحدى المناطق الأكثر أهمية للفكر السقيم”

الطبيب النفسي ييي في كتابه “الهلاوس والهذيان” ص 167.

*******

من بين جميع ميكانيزمات الهذيان، أي الآليات الحاملة له، الهلوسة هي أهمّهن جميعا، للوصول إلى فهم عقلاني لظواهر الخارج عن المألوف. مثل المعجزات وكلّ ما يخرق قوانين الطبيعة او قوانين العقل. عندما يعرف المرؤ أن هذه المعجزات والخوارق، هنّ موجودات فقط في عالم الهلاوس، في عالم الفكر السّقيم، في عالم الدماغ المعطوب، ولا وجود لهنّ في عالم الأعيان المحسوس والملموس.

المهلوس لا يكذب، وهو ليس مُهلوِسا إلاّ لأنّه يعتقد، كلّ الإعتقاد، بأن هلاوسه حقيقة مطلقة، عاشها لحظة بلحظة، رأى صورتها بعينيه وسمع صوتها بأذنيه. وذلك هو مصدر عناده.

عندما يقول نبيّ الإسلام، في سورة النجم، أنّه رأى جبريل بـ: “الأفق الأعلى، ثم دنا فتدنّى، فكان قاب قوسين أو أدنى، فأوحى إلى عبده ما أوحى (7، 8، 9، 10، النجم)، فما رآه هو عنده حقيقة مطلقة: “ما كذّب الفؤاد ما رأى”. وهو صادق تماما. لكنّه كما يقول التعريف الطبي النفسي للهلوسة: كانت رؤية لجبريل بلا جبريل يُرى، وكانت سماعا لصوته، من دون وجود صوت يُسمع. المثال التالي يوضح بما فيه الكفاية هلوسة نبيّ الإسلام: “زكريا لطفي إمام، 30 سنة، قتل والده بطلب من هاتف الجنّ. يقول أنّه كان يحب والده (…) وذات ليلة كان جالسا وحده، فسمع هاتف الجنّ يطلب منه قتل والده فارتاع. ذات ليلة قرّر أن ينام في حضن والده، كما كان يفعل ذلك وهو طفل، عسى أن يسمع والدُه صوت هاتف الجنّ الذي يأمره بقتله عسى أن يساعده على التخلص من صوت الهاتف: “ذهبت ذات مرة لأنام في حضن والدي (…) لكنّ الهاتف لم يتركني لعدّة أيام. وكنت أسأل والدي في كل مرّة هل تسمع أحد يتحدّث؟ فينفي. فألتزم الصمت وجاهدت نفسي لعلّ الهاتف يتركني وشأني، لكنّ الصوت ملأ مسامعي (…) فقمت بذبح والدي وفصل رأسه عن جسده”. (القدس العربي، 30/31 مارس 2013).

زكريا كان في حالة نبيّ الإسلام، يسمع صوت هاتف الجنّ، الذي لم يكن موجودا، لذلك لم يسمعه والده وهو في حضنه. لقد كان مثله ضحيّة هلوسة سمعيّة: “بما هي خطأ، يضفي كذبا على عمليّات نفسية ذاتيّة، حقيقة موضوعية”. (نفس المصدر، 172).

لو كان عند نبي الإسلام مصوِّرة أو مسجّلة، لما صوّرت جبريل أو سجّلت صوته. لأنّهما لا وجود موضوعي لهما. بالمثل، لو فتح زكريا مسجّلة، لما سجّلت صوت هاتف الجنّ.

صورة جبريل وصوته وصوت هاتف الجنّ، لم يكن لهم وجود إلاّ في الواقع النفسي لنبيّ الإسلام وزكريا، هذا الواقع الذي تم اسقاطه خارج الذات بسبب تدمير الوعي.

سيتأكّد القارئ من ذلك، عند الإطلاع خلال هذا العرض، على الحالات السريريّة لمهلوسين مرّوا بمستشفيات الأمراض العقلية.

تفكيك ميكانيزم الهلوسة وفهمه، كفيل بتحرير العقل، في أرض الإسلام، من سيطرة الخرافي والإعجازي والخارق للمألوف، المُسترقَّة له حتّى اليوم.

تقول موسوعة طبية نفسية: “الهلوسة أنواع: قد تكون احساسيّة، ذوقيّة وشمّية، سمعية، بصرية، وهما الأكثر أهمية وانتشاراً. الهلاوس البصرية نادرة عند المجانين، الذين تكثر لديهم، في المقابل، الهلاوس السمعية، النادرة عند سليمي العقول. الهلاوس السمعية، يمكن ان تكون بسيطة: ضجيج، أصوات غامضة، أزيز صائت متواصل. الأونيريزم، أو الحلم الهاذي، بين النوم واليقظة، يمثل الشكل الأكثر اكتمالا للهلوسة البصريّة.

(…) الغالب على الهاذي هو الشكوى من هلوسة الكلمات السمعية ـ اللفظية. المقصود هو أصوات تقلق عادة من يكابدون هذيان الإضطهاد. أصوات تُحدّث المريض في الأذن، خلف المهلوس، فوقه (…) في الجو (…)أحياناً أصوات غنائية (…) الإيقاع [= ريتم] متواتر جداً في الهلاوس السمعية المنغمة والمسجوعة؛ تكون الهلاوس أحياناً محادثات مباشرة مع المهلوس.

موضوع المحادثات: يمكن أن يكون ترهات، ألحاناً متكررة شعارات، كما يمكن أن يكون بالعكس خطاباً طويلاً في شكل حوار بين المهلوس وهلاوسه. غالباً ما يكون صدى للفكر والقراءة ونادراً ما يكون للكتابة (…) أو صدى للتعليق على المواقف، وأحياناً صعب الفهم أو غامضاً، أو في لغة غير معروفة، وقد يكون تقديم أخبار ومعلومات للمهلوس. الكلمات قد تكون شتائم أو مدائح أو نصائح. هذه المحادثات تقع في فترات نادرة،في بعض المواقف ليلاً أو نهاراً(…)ويمكن أحياناً أن يبحث عنها المريض بنفسه لتحقيق رغباته.

(…) الهلاوس النفسية، أو الهلاوس الزائفة هن هلاوس بلا صوت مسموع، وشوشات، همسات، مناجاة، إلهامات، أي حديث داخلي، مثل قلبي يحدثني. [الأحاديث القدسية هي من هذا النوع. جميع ما هو بين معكوفين هو من المؤلِّف]

مضمون الهلاوس النفسية اللفظية، لا يختلف عن مضمون الهلاوس السمعية. هن مثلهن مفهومات أحياناً ومتشابهات، أي مغلقات عن الفهم، أحياناً؛ أخبار هاذية.

(…) مجموع هذه الهلاوس السمعية، البصرية والنفسية تشكل الأساسي من ساندروم [= مجموع اعراض مرض] هذيان التأثير أي تسلل الأفكار [= من الله أو الشيطان] للإنسان من خارجه. هذيان التأثير متواتر في هذيانات مستحضري الأرواح، أو هذيانات المس أو الهذيانات الدينية. وقد تكون الهلوسة تلبية لرغبة مكبوتة (…).

الهلوسة ليست ميكانيزم الهذيان الوحيد، فالحدس والتأويل يلعبان فيها أيضاً دوراً كبيراً، فهي المرافق المألوف للهذيان،وحتى الغالب في هذيان الذهان الهلوسي المزمن.

الإشتراكات المتعددة للظواهر الهلوسية: “هذه الظواهر تظهر في أمراض ذهنية عديدة، من النوبة الهذيانية العابرة، إلى الذهان المزمن، ولا يمكن تفسيرها بسبب واحد. أسبابها عديدة: تدمير الوعي وانخفاض درجة اليقظة الذهنية، أي درجة النعاس، وهي اللحظة المناسبة للهلوسة وخاصة للحلم الهاذي [الذي يأتي كفلق الصبح]، هذه اللحظة يمكن أن تستدعي الهلاوس. بالمثل، قد تستدعيها رغبة مكبوتة، أو تسببها إصابة بنيوية عميقة للشخصية النفسية كما في الفصام، ويمكن أيضاً أن تتسبب فيها الخلوة الكاملة [في المغاور والجوامع].

قال طه حسين في الأيام: “وكنت أسمع صوتاً للصمت”. فمن الثابت أن العزل المطلق للفرد، في الظلام، عن سماع أي صوت يستثير عنده الهلاوس (…) يبدو أن غياب الحافز الصوتي ينجر عنه انخفاض في اليقظة،ويفتر نشاط الدماغ فيثير نوعاً من النشاط العصبي المستقل والهلاوس. وقد عُثر في بعض أمراض الفصام على انخفاض النشاط الوظيفي الدماغي.”(1).

ارتباط الهلاوس بالخلوة يفسر حالات المتصوفة،الذين يسكنون وحيدين في زواياهم،وحالات بعض المساجين المعزولين في زنزناتهم،فقد اعترف الصادق المهدي، عندما سجنه الترابي في زنزانة مغطاة بالصفيح في عز الصيف،أنه نجا بفضل الإلهامات الروحية أي الهلاوس الروحية؛كما تفسر حالات ظهور الأشباح في هدأة الليل أو القيلولة،خاصة إذا كان الفرد وحيداً ويعتقد في وجودها.

لنستعرض الآن عيّنات من هلاووس الأنبياء، وحالات سريرية تساعد القارئ على فهم أعمق لتأثير الهلوسة على المهلوس،إلى درجة لا تكاد تُصدق،ممن يجهلون قوة تأثير الهلاوس على الدماغ البشري.

كتب ماكس فبير، يصف هلاوس أنبياء إسرائيل: “يصفون هلاوس بصرية وسمعية،بل وأيضاً إحساسات مختلفة ذوقية شاذة[=الهلاوس الذوقية والشمية]يُخيل إلى النبي أنه يحلق في الجو(…)ويسمعون ضجيجاً وأصواتاً،وكلمات معزولة أو حوارات، غالباً كلمات وتوصيات موجهة إليهم.في هلوساتهم،يرون بروقاً(…)”(2).

أليست هذه هن الهلاوس التي شخصها الطب النفسي في المرضى الذهانيين المهلوسين المعاصرين؟

اشتكى أنبياء إسرائيل من آلام الهلاوس، أو من “بُرحاء الوحي” أي آلامه المبّرحة. وقد رأينا في فقرة “كيف نفهم أنبياء إسرائيل”أن النبي إرميا وصف برحاء الوحي وصفاً دقيقاً: “يهواه نار تأكل قلبي”. إكتوى أنبياء إسرائيل، منذ حوالي 28 قرناً، بهذيانات الوحي وهلاوسه، من دون فهم مدلولهن، بما هن إحساس أو إدراك لما لا يُحس أو لا يُدرك. الهلوسة تختلف عن الوهم؛ الهلوسة إدراك لموجود غير موجود. أما الوهم فتأويل مغلوط لواقع حقيقي. مثلاً الإسراء والمعراج ليس وهماً، كما ظن البعض، بل هن هلاوس وهذيانات المخيلة، التي إبتدعت رحلة خرافية، لعب فيها نبي الإسلام الدور المركزي. فوصل، بقيادة مرشده السياحي جبريل، إلى سدرة المنتهى التي أنكر الشيخ حسن الترابي وجودها. عندئذ تراجع جبريل إلى الوراء مفسحاً الطريق لنبي الإسلام كي يقترب من الله.

كيف حدثت هلوسة الإسراء والمعراج؟

عن ابن هشام : قال النبي بينما كنت في حالة بين النوم واليقظة: “قدم لي جبريل البراق” وهذه هي اللحظة التي تأتي فيها الهذيانات والهلاوس.

فماذا عن هلاوس نبي الإسلام وصلتها الوثيقة بإنتاج القرآن، وبعض الحديث واتخاذ قراراته السياسية خاصة في المدينة؟

الهلاوس السمعية:

*الطب النفسي: قد يكون موضوع المحادثات مع المهلوس: “تقديم أخبار ومعلومات هاذية” للمهلوس.

السيرة والقرآن:حروب نبي الإسلام على اليهود،كانت”أخباراً ومعلومات”هاذية قدمها جبريل لنبي الإسلام!

* الطب النفسي: (…) الهلاوس السمعية، يمكن أن تكون بسيطة مثل ضجيج، أصوات غامضة،أزيز صائت متواصل”.

ـ السيرة:”يقول اين هشام سُئل رسول الله(ص) كيف يأتيك الوحي؟ فقال(ص) يأتيني في مثل صلصلة الجرس “( سيرة ابن هشام الصفحة؟ ).للتذكير مثل صلصلة الجرس = رنين صائت متواصل.

* الطب النفسي:”(…)أصوات تحدث الهاذي في الأذن،خلف المهلوس،فوقه(…)في الجو”، السيرة:”فَقَالَ النَّبِيُّ(ص): ” فَخَرَجْتُ[من غار حراء] ، حَتَّى إِذَا كُنْتُ فِي وَسَطِ الْجَبَلِ فَسَمِعْتُ صَوْتًا مِنَ السَّمَاءِ يَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، أَنْتَ رَسُولُ اللَّهِ ، وَأَنَا جِبْرِيلُ ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي إِلَى السَّمَاءِ لأَنْظُرَ ، فَإِذَا جِبْرِيلُ فِي صُورَةِ رَجُلٍ صَافٍ قَدَمَيْهِ فِي أفق السماء”.” في أفق السماء”= في الجو”.

* الطب النفسي:”(…)الهلاوس تكون أصوات منغمة(…) .

السيرة:كان رسول الله (ص) يطلب من بلال أن يقرأ عليه القرآن، فيقول له بلال كيف أقرأه لك وقد نزل عليك؟ فيقول له: انك تقرأه رطباً كما نزل”،أي مرتلاً،والترتيل غناء مقدس.

* الطب النفسي:”(…) الإيقاع [ريتم]، هو كما يعرفه معجم روبير:”ما يميز الشعر عن النثر”، متواتر جداً في الهلاوس السمعية البصرية المّوقعة والمسجوعة”أسفار الكتاب المقدس العبري في معظمها شعر موقع وموزون؛ والقرآن المكي وجزء من القرآن المدني، آياته منغمة ومسجوعة. إليكم هذه العينات الـ 4 الدّلالة؛

ـ القرآن: سورة التكوير:”إذا الشمس ُكوّرت،وإذا النجوم انكدرت [=اندثرت]،وإذا الجبال ُسّيرت[=بدأت تمشي]، وإذا العِشار عُطّلت[=أي عندما يترك المالكون نياقهم الحبلى في شهرها العاشر مهملة]، وإذا الوحوش ُحشرت،وإذا البحار سُجرت[=احترقت](…)”(الآيات من 1ـ6)؛

ـ القرآن الإنفطار:”إذا السماء انفطرت [= تصدعت] ،وإذا الكواكب أنتثرت[=تبعثرت]،وإذا البحار فُجرّت [= اي عندما تجعل البحار مياهها تتدفق]،وإذا القبور بعثرت(…)،(الأيات من 1 ـ 4)؛

نلاحظ أن البحار سُجرت أي احترقت، في هول نهاية العالم،ولكنها،في الهول ذاته،فجرّت،أي فاضت مياهها في جميع الاتجاهات!فكيف تحترق البحار في آية وتتدفق مياهها في أخرى؟.

ـ القرآن: الزلزلة:”إذا ُزلزلت الأرض زلزالها،وأخرجت الأرض اثقالها،وقال الإنسان ما لها،يومئذ تحدث أخبارها بأن ربك أوحى لها(…)”(الآيات من 1 ـ 5)

؛

ـ القرآن: المسد:”تبّت يدى أبي لهب وتب،ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى ناراً ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب،في جيدها جبل من مسد”(الآيات من 1 ـ 5).

* الطب النفسي: تكون الهلاوس:”أحياناً محادثة مباشرة مع المهلوس”.

ـ القرآن كله حديث مباشر بين جبريل، ونبي الإسلام نفسه. و إليكم عينات من السيرة:” كان النبي في غار حراء، فجاءه الملك فيه فقال: اقرأ (…) أن يكون ابن اسحاق هو الذي لفق حادثة الغار احتمال ضئيل؛ الاحتمالية العالية، هي أن يكون محمد نفسه قد قرأ ذلك اليوم أمثولة الكتاب المفتوح والكتاب ا لمغلق لإشعيا،التي سبق الإستشهاد بها، ثم حلم بها حلماً هاذياً تحول إلى كابوس. مما يرجح ذلك أن محمد كان في الغار يقضي خلوته الشهرية كل عام؛والخلوة،كما رأينا، مولدة للهلاوس؛

اتهم هشام جعيط ابن اسحاق باختلاق أسطورة غار حراء .اتهام مجاني لم يقدم عنه فرضية مقنعة.

(3).

مثال ثاني عن المحادثة المباشرة مع المهلوس:

قتْلُ جميع رجال يهود بني قريظة، كان أيضاً بناء على لقاء مباشر مع جبريل:” يقول الطبري حديث رقم 657:” فَلَمَّا كَانَتِ الظُّهْرُ أَتَى جِبْرِيلُ رَسُولَ اللَّهِ (ص) (…)، مُعْتَجِرًا بِعِمَامَةٍ مِنْ إِسْتَبْرَقٍ، عَلَى بَغْلَةٍ عَلَيْهَا رِحَالَةٌ ، عَلَيْهَا قَطِيفَةٌ مِنْ دِيبَاجٍ ، فَقَالَ : أَقَدْ وَضَعْتَ السِّلاحَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ: نَعَمْ . قَالَ جِبْرِيلُ: مَا وَضَعَتِ الْمَلائِكَةُ السِّلاحَ ، وَمَا رَجَعَتِ الآنَ إِلا عَنْ طَلَبِ الْقَوْمِ ، إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكَ يَا مُحَمَّدُ ، بِالسَّيْرِ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ . وَأَنَا عَامِدٌ إِلَى بَنِي قُرَيْظَةَ. فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ (ص) مُنَادِيًا، فَأَذَّنَ فِي النَّاسِ: إِنَّ مَنْ كَانَ سَامِعًا مُطِيعًا فَلا يُصَلِّيَنَّ الْعَصْرَ إِلا فِي بَنِي قُرَيْظَةَ “(4).

ـ الطب النفسي أو مدائح القرآن: أنظر الفقرة السابقة عن هذيان العظمة.

ـ الطب النفسي نصائح: المزمل: “يا أيها المزمل قم فأنذر، وثيابك فطهر، والرجز [= الأصنام] فاهجر” (الآيات من 1 ـ 3) فقد نصح الله، أي الهلوسة السمعية، نبيه بهجر عبادة الأصنام التي يبدو أنه كان مازال يعبدها حتى نزول الآية، وآيات النصائح للنبي والمؤمنين لا تكاد تُحصى.

*الطب النفسي: “وقد يكون موضوع الهلاوس أحياناً صعب الفهم، أو غامضاً أو في لغة غير معروفة”.

ـ القرآن، بسبب الآيات المتشابهات التي سنحللها بعد قليل، “صعب الفهم وغامض” وأحياناً في لغة غير معروفة حتى قال السيوطي في “الإتقان”: “وقيل متشابه كله” عدا آيات الأحكام، أي صعب الفهم وغامض، وأحياناً في لغة غير معروفة.

* الطب النفسي:”(…)”وقد تكون الهلاوس للتعليق على المواقف”؛

ـ القرآن في معظمه تعليق على مواقف النبي أو المؤمنين أو المشركين أو أهل الكتاب.

* الطب النفسي:”(…)” ويمكن أحياناً أن يبحث المريض بنفسه عن الهلاوس لتحقيق رغباته (…)” ـ القرآن: شرّع نبي الإسلام، عبر هلاوسه، لرغباته الحقيقية المكبوتة والواعية في القرآن: مثل الرغبة في تعديد الزوجات إلى ما لا نهاية. والحال أنه أباح لأمته 4، وفضلاً عن ذلك بشرط العدل المستحيل: “وإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة (…) ولن تعدلوا مع النساء ولو حرصتم”، أي أنه في النهاية فرض عليهم الزواج بواحدة كما فعل هو في مكة. لم يكتف بتعديد الزوجات، لأن انفجار شهوته الجنسية القهرية في المدينة، بسبب هذيان الإهتياج، جعلته يرغب في نكاح كل امرأة ترغب فيه في الواقع يرغب هو فيها. تحقيقاً لهذه الرغبة استنزل، بواسطة هلاوسه التي هي في خدمته، آية هبة النساء أنفسهن له وحرّم ذلك على أصحابه وأمته: “يا أيها النبي إنا أحللن لك أزواجك (…) وامرأة مؤمنة، إن وهبت نفسها للنبي، إذا أراد النبي أن يستنكحها، خالصة لك من دون المؤمنين” (الأحزاب، الآية 50).

أدركت عائشة، بحدسها النسائي النافذ، أن الآية لم تنزل عفواً بل أُستنزلت تلبية لرغبة نبي الإسلام النَّكوح؛ فقالت له بدعابة سوداء: “إن ربك يسبقك في هواك”! ما كان بإمكان أم المؤمنين أن تعلم، قبل 14 قرناً من الآن، أن من وظائف الهلوسة، فضلاً عن تطمين مخاوف المهلوس، تلبية رغباته الصريحة أو المكبوتة، الطيبة أو الشريرة. سارع بعض المفسّرين، الذين استشهدوا بعائشة، إلى التأكيذ، وكأنّهم حدسوا بما كانت تريده أمّ المؤمنين، فأكّدوا: قالتها (…) غيرة منها لا تشكيكا في الوحي

بعد نزول الآية، بدأ الواهبات أنفسَهن يتقاطرن على النبي.

لا نعرف كم نكح منهن، لكنه توفي عن 9 أرامل و5 نساء ممنّ وهبن أنفسهن إليه، كما لا نعرف عدد جواري ملك اليمين، التي أباحت له هذياناته وهلاوسه الإستمتاع بهن: “وما ملكت يمينك”. لكن نعرف أن السيرة هي دائماً شحيحة لكل ما يُشتم منه شبهة نقد للنبي!

*الطبّ النفسي: “وقد تكون الهلاوس تحقيقا لرغبة مكبوتة”: الإسلام المدني تحقيق لرغباته التي كبتها في مكّة، من العنف إلى تعديد الزوجات والخليلات إلى ما لا نهاية، إلى التهالك على الغنائم ونسخ جميع الديانات… وباختصار، نسخُ الإسلام المكي كان تحقيقا لرغباته المكبوتة.

حرّم على نفسه العنف ضد الآخر في مكة، مكتفياً بالعنف الفعلي والرمزي ضد الذات؛ فقد كان كلما أراد أصحابه الانتقام من بعض المكيين ردعهم عن ذلك: “ما أُمرت بذلك”. أما في المدينة فحقق رغبته المكبوتة في الانتقام، محللا لنفسه العنف ضد الآخر، التعذيب والقتل. فقد أصبحت الظروف الموضوعية ملائمة لتحقيقها.قتل من؟ قتل الشعراء والأسرى: “ما كان لنبي أن يكون له أسرى (…)” وهكذا قتل بعض أسرى قريش ويهود بني قريظة، بين 700 إلى 900 أسير، كما قتل الشعراء (انظر كتاب: التعذيب في الإسلام، هادي علوي)، وانظر خاصة كتاب ابن تيميه، الذي أحصى فيه، عديد حلات القتل والتعذيب والتمثيل بمن شتموا محمد: “الصارم المسلول على شاتم الرسول”.

إليكم حالات سريرية لمرضى مهلوسين، تساعد القارئ على فهم عمق تأثير الهلاوس على تفكير وسلوك المهلوس:

1 ـ الحالة السريرية الأولى: “حالة هذيان ديني فصامي؛ الإدخال الثاني إلى المستشفى في 1993،كان بعد أن حاول المريض كسر تابوت ممياء في متحف اللوفر.قائلاً أن الله هو الذي أمره بذلك.ذهابه إلى اللوفر كان تنفيذاً وطاعة لأمر إلله المنصوص عليه في القرآن:”إذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولاً لينا”.كما تظهر عليه أيضاً أفكار المس الشيطاني. ولوحظ عليه أنه يؤدي الصلوات بانتظام، لمكافحة “الشيطان الرجيم”؛

“الإدخال الثالث إلى المستشفى كان في 1995، بسبب أفكار هاذية سببها البارانوييد [= هذيان فصامي متهافت] موضوعه ديني،وأيضاً هذيان العظمة او المس. ميكانيزمات الهذيان هن الحدس، التأويل والهلاوس.(…)كما توجد هلاووس سمعية ـ لفظية(أصوت شريرة)،أفكار اضطهاد (…)مع تهديد بالعقاب الداهم.(…)المريض يؤمن كلياً بهذيانه.(…)شخصنا حالته بأنها اضطراب اسكيزو عاطفي. (5).

2 ـ الحالة السريرية الثانية:” هلاوس سمعية دينية؛ فحصنا مريضة تنتمي إلى حركة البانتكوتيسم [حركة بروتستانتية تؤمن بأن الروح القدس، الذي تقول الأناجيل أنه نزل على الحواريين وعلمهم جميع لغات العالم مازال فعلاً حتى اليوم]وتزعم بأنها تتحدث جميع اللغات تحت تأثير الروح القدس.

(…) كانت تبدو عليها هلاوس سمعية موضوعها ديني.(…)وتشعر أنها في حالة اكستاز،كانت تركع وتسمع الروح القدس يتحدث إليها،وكانت تصلي مرددة جارغونوفازي،لغة لا تُفهم.رغم أعراضها المرضية الواضحة، نجحت في التأثير بقوة في جاراتها”(6).

معروف في الطب النفسي أن أمراض الذهانيين الهذاة تَعدي أفراد محيطهم،الذين يتأثرون بهم غالباً تأثراً أعمى.وهذه حالة جميع الأنبياء تقريباً. بهذيان التأثير استطاعت الحركة الإنجيلية أن تدخل فيها في وقت قصير،من المسلمين أكثر مما أدخلت منهم الكنيسة الكاثوليكية في قرنين،كما كتب اوليفي روا!.

نجد كثيراً من الهذاة،وخاصة هُذاة البارانويا،يؤثرون في محيطهم كحالة صدام حسين، الذي أثر في حاشيته، فلم يفكر أحد منهم في التنكر له أمام المحكمة ، بل أشادوا به.تماماً كجارات المريضة المذكورة وكذلك كانت حالة حاشية هتلر وستالين وماو وبول بوط!:”هذيان البارانويا، هو هذيان منطقي، لأنه ينطلق دائماً من الواقع،التأويلات فيه تمتلك طابعاً قابلاً للتصديق،إلى درجة ان هذيان البارانويا،تشاطره غالباً حاشية المريض.وهذا ما يُسمَى الهذيان بين إثنين أو أكثر” (طب نفس الطالب ص 141).

عدوى المجنون لمحيطه، يسميها الطب النفسي “الجنون بين إثنين”، تصديق الحاشية السريع لجنون المجنون متواتر، خاصة إذا كان نبيّا كاريزمائي أو طاغية يرمز للأب القاسي والخاصي، المرغوب والمرهوب في الوقت ذاته. مثل هؤلاء الأشخاص، هم عادة سريعوا التصديق، يعتقدون أكثر مما يفكرون. لأنهم في حاجة نفسية ماسة لكل ما يطمئنهم ويسكّن قلقهم ويكونون منذ الطفولة قد تعوّدوا على تصديق الابوين الأعمى. لذلك يصدقون كل تأكيد أو واقعة دونما حاجة للبرهنة الموضوعية المقبولة على صحتها. حسب رواية السيرة أبو بكر لُقب بالصديق لسرعة تصديقة لكل ما يسمعه من النبي؛ والحال أن عمر، كما قدمته السيرة، كان كثيراً ما يعارض النبي عندما لا يجده مقنعاً.

3 ـ الحالة السريرية الثالثة،نبيه فصامية:”الآنسة أ…،20 عاماً مصابة بفصام مع هلاوس سمعية، وأفكار هاذية،توقفت عن العمل وحاولت الانتحار مراراً.لم تكن أبداً عملياً متدينة ولا مؤمنة بشكل خاص.خلال حالتها المرضية، تسمع إبراهيم الخليل يتحدث إليها،ثم تسمع الله يكلمها.ليقول لها انها “المهدي الجديد”،وأنها “المظهر البشري لله”.وتصرح بصوت رتيب:”كل ما أفعله أو أقوله،الله هو الذي يفعله أو يقوله…”. إبراهيم أسرّ إليها بأنها خادمته،موسى أعلمها بأنها”تعلمه التواضع”.صرح لها الله بأنه: “جعلها تتألم لغسل المظالم البشرية”ويُظهر لها”أشياء مخجلة”ليجعلها ترى الحياة الخاطئة…”.

ما إن شُفيت من هذا العارض المرضي،حتى استعادت المريضة كل فكرها النقدي،وتبتسم كلما تذكرت تصريحاتها السابقة،قائلة: كل هذا لم يكن له أي معنى،معتبرة نفسها ملحدة منذ زمن بعيد”.

(7).

4 ـ الحالة السريرية الرابعة،هذيان ديني:”الآنسة ب…،قُبلت في المستشفى إثر حادث في كنيسة حيث زعمت أنها كانت موضوع معجزة إلاهية.تحدثت بذلك إلى القس الذي أرسلها فوراً إلى الطوائ المختصة.فقد شاهدت هالة من النور فوق رأس تمثال العذراء،وتعتقد أن العذراء المقدسة قد ظهرت لها.وتعتقد بأن الله شفاها بمعجزة.وفضلاً عن ذلك،فهي تعتقد بأنها كانت قديماً حبلى بجنين خلصها الله منه،عند تعميدها في حوض اللورد [= ماء مقدس يقصده الحجيج في فرنسا].كل محاولاتنا لإقناعها بعكس معتقداتها ذهبت أدراج الرياح، واصطدمت بجدار قناعتها الهاذية،المريضة مُصرة بأنها شُفيت بمعجزة.إذا لم نؤمن بذلك (…) فنحن ضحايا وهم (…) واقع أنها مرت بأفكار هاذية، وبحالة انهيارية عصبية أثارت عندها هذيان اهتياجي مفرط .ُعولجت بالأدوية،مع تدّخل مرشد المستشفى، الذي أرادت لقاءه سمح بتهدئة قناعتها.” (8).

جدير بالملاحظة، أن القس أرسلها فوراً إلى الطوارئ المختصة بالأمراض النفسية؛ولم يفكر في تدخل الشيطان أو الله في مرضها،كما هو الحال غالباً في ارض الإسلام!.

5 ـ الحالة السريرية الخامسة، هلوسة بصرية ـ سمعية فصامية هاذية: “بعد الموت المفاجئ لطفلها أثناء حادث مرور،واصلت مريضة فصامية حياتها وكأن شيئاً لم يكن.لم تشعر بأي ألم (…).واصلت التحدث إلى ابنها وتقديم وجبات طعامه اليومية له كالمعتاد (…) وهكذا أنكرت الحادث (حادث الطريق وموت ابنها).

إنه إنكار جزء من الواقع لا يحتمل،وثانياً أنكرت الألم الذي يمكن أن تشعر به أم لفقد ابنها…إنه رفض للمشاعر الإكتئابية والحزن (…) المريضة،بعد انكارها للواقع الواقعي، خلقت واقعاً جديداً أكثر احتمالاً :هو ان ابنها هو هنا وقريباً منها،حياً يرزق.هذا الواقع الجديد مؤلف من هذيان ومن هلاوس [= أنها تراه وتسمعه قريباً منها]”(9).

ما هو الدرس الذي ينبغي استخلاصه من الهذيان والهلاوس؟

أن عالم الهذيان والهلاوس، يجعل الأنبياء والمتصوفة وغيرهم من المرضى نفسياً،ينكرون الواقع الماثل أمامهم، من أجل واقع تخييلي أستدعته غالباً رغباتهم.واقع لا وجود له في عالم الأعيان،لكنه موجود بقوة في عالم الأذهان: عالم الهذيان والهلاوس. يفعلون كل ذلك دونما أدنى نية احتيال، أو تضليل.المهلوسون مرضى وليسوا محتالين أو مضللين إلا نادراً. وعندئذ يكون مجرد مدعي للهلوسة والهذيان وتنكشف غالباً بسرعة.

غداة عودة خميني من فرنسا إلى إيران، اعترت الإيرانيين حالة هستيرية جماعية، وصفها مراسل اليومية الفرنسية لوموند: شاهد 36 مليون إيراني صورة خميني على وجه القمر، فقط نحن المراسلين الأجانب لم نشاهدها!طبعاً الهلاوس لا يشاهدها إلا المهلوس.

عندما يكتب الغزالي في”الإحياء”أنه توضأ للظهر في بغداد، وصلى العصر في مكة،وهو ما يسميه المتصوفة”طي المسافات”؛فأول ما ينبغي أن يتبادر للذهن ليس تكذيبه؛بالمثل،عندما يؤكد ابن عربي في”فتوحاته”بأنه:”رابع أربعة يحملون عرش الله”على أكتافهم،فمن الجهل بتأثير الهذيان و الهلاووس تكذبيه.

بالمناسبة “الفتوحات المكية”، التي ُتقرأ عادة كما لو كانت كتاباً مألوفاً، هي وحي، أي هلاوس سمعية وبصرية هاذية كتبها ابن عربي، وهو في حالة وجد صوفي مكثف، عندما كان يطوف بالكعبة مسجلاً بكل أمانة، كل ما كانت تمليه عليه هلاوسه. أنبياء الفتوحات، لم يكن يتحدث عنهم ،بل كان يتحدث معهم، ومن بينهم جميعاً تماهى مع هود وأحبه .لقد أعاد ابن عربي في مكة كتابة القرآن المكي الذي، هو أيضا، أملته الهلاوس والهذيانات على نبي الإسلام؛ عندما يؤكد بولص الرسول بأنه التقى بالمسيح، الذي لم يلتق به في حياته، فآخر ما يمكن أن يفكر فيه ملحد مستنير، بعلوم النفس، هو تكذيبه؛ وعندما يتحدث نبي الإسلام، حسب السيرة،عن لقاءاته مع جبريل،فهو كان يروي بصدق هلوسة بصرية،أرته الموجود الوهمي:جبريل؛عندما نقرأ عن الظواهر الخارجة عن المألوف،كالمعجزات وكرامات الأولياء والمتصوفة، وحكايات المحتضرين، الذين أعادهم الطب إلى الحياة ،وكانت روحهم جاثمة في سقف غرفة الإنعاش تراقب عملية”إعادتهم إلى الحياة”! ،فأول ما ينبغي التفكير فيه هو أنها هلوسات فصامية هاذية، وليس التكذيب الفج؛ في سن 4 أو 5 ،كلفتني أمي كالعادة بحمل خبز غداء أبي، الذي كان يحرث على بعد كيلومتر تقريباً،عندما وصلت إلى صخرة،مازلت أذكر حجمها وموقعها جيدا، حملتني “عجاجة”[=هبة ريح قوية] رفعتني فوق الصخرة ثم أنزلتني برفق؛عندما حكيتها لأمي،المسكونة بالخرافي من أم رأسها إلى أخمص قدميها،سارعت إلى القول:أعمامك الصالحين[عمُايا وعمتي كانوا فصاميين، عمي عباس كان يتجول عارياً] انتزعوك من يد عبيثة [= روح شريرة لقتيل، تعود لتقتل الأبرياء انتقاماً لقتلها]؛ فماذا عسى كانت العجاجة؟قد تكون حلماً،فالطفل في هذه السن، لا يميز بين أضغاث الأحلام و الواقع، أو تكون هلوسة بصرية، خاصة وأني قبل ذلك بشهور نجوت بأعجوبة من إلتهاب الأذن، الذي تحول إلى التهاب السحايا، وهو غالباً ما يتسبب في ظهور الهلاوس، مثلما قد يتسبب فيه ارتجاج الجمجمة.

ملائكة بدر وحنين مثلاً، الذين قاتلوا مع المسلمين بـ “جنود لم يروهم”، هم هلوسة بصرية عاشها محمد، في واقعه النفسي، لكن لم يوجدوا في واقع المعركة.

تماماً مثل هلاوس الأم، التي كانت تحادث ابنها الميت، وتطعمه وتسقيه يومياً! هلوستا بدر وحنين، عن تدخل الله لنصرة المسلمين بجنود لم يروها، أسستا بقوة لا تقاوم، كما هي دائماً قوة الهذيان والهلاوس، لهذيان التدخل الرباني في التاريخ، الذي مازال المسلمون يكابدون عواقبه حتى الساعة! في حرب 73 عادت خرافة مشاركة ملائكة بدر مع الجيش المصري!

القراءة الحرفية الهاذية والهذيان الديني دفعا، منذ عقود قليلة، مهندسين مسلمين في الولايات المتحدة، إلى تأسيس جمعية مرصودة لإحصاء ملائكة بدر بالكمبيوتر، فوجدوا أن عددهم 120 مليون ملاكاً وطالبوا الدول العربية بتجنيدهم لمحاربة إسرائيل!

لقاء جبريل، أو لقاء الله، الذي طالما تحدث عنه الأنبياء والمتصوفة، منذ عشرات القرون إلى اليوم، هو هلاوس سمعية أو بصرية لا وجود لها في الواقع المعيش، ولكنها موجودة بقوة في عالم الهذيانات والهلاوس،المؤثرة بقوة على الفكر والسلوك. المغزى: أن المطلوب علمياً هو فهم الهاذي وتحليل هذياناته وهلاوسه وليس تكذيبه.

ليس في القرآن وصف لكيفية استيلاء الهلاوس على نبي الإسلام. لكن السيرة والأحاديث تقدم حشداً منها؛ أول الهلاوس،لم تظهر في غار حراء، بل قبل إعلان النبوة:”أول النبوة عند رسول الله(ص) هي الرؤيا الصادقة،لا يرى(…)رؤيا في نومة إلا جاءت كفلق الصبح(…)ولم يكن شيء أحب إليه من أن يخلو وحده(…)وكان(ص)لا يمر بحجر أو شجر إلا وقال:السلام عليك يا رسول الله (…) فيلتفت حوله، وعن يمينه وشماله، وخلفه، فلا يرى إلا الشجر والحجر(…)”(10).

رواية السيرة ليست هذه المرّة ميتاتاريخ بل تاريخ؛الطب النفسي عاين سريرياً هذه الهلوسة السمعية،حالة سريرية مشابهة لحالة نبي الإسلام: “يسمع المريض أصواتاً تناديه،فيلتفت خلفه فلا يرى شيئاً” وإليكم هذه الحالة السريرية:”مارينات،لم يعاودها طائف هذيان المرض ثنائي القطب:الإهتياجي ـ الإكتئابي منذ 3 سنوات.لكنها تشعر باستمرار باسمها يُنطق خلفها، حتى وهي وحيدة في غرفتها.هي نسبت هذا الأمر إلى حضور الملاك الذي سمعته يناديها عندما كان عمرها 17 عاماً.لم تنسحب من الحياة الاجتماعية ولم تفشل في دراستها.شُخصت حالتها بأنها سكيزو ـ عاطفية [=اضطرابات هي مزيج من هذيان الإكتئاب وهذيان الفصام]”(11).

تقدم لنا السيرة رواية أخرى عن الهلاوس المحمدية، مرجحة الوقوع: جاء في تفسير السيوطي للآية الأولى والثانية من سورة الفتح: “إن فتحنا لك فتحاُ مبيناً، ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر” (…) أخرج البخاري(…)عن عمر ابن الخطاب قال: كنا مع رسول الله(ص)في سفره، فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد.(…) فحركت بعيري ثم تقدمت أمام الناس (…) فسمعت صارخا يصرخ بي، فرجعت (…) فقال النبي(ص): “لقد نزلت علي سورة أحب إليّ من الدنيا وما فيها”.(السيوطي تفسير الآيتين 2،1 من سورة الفتح، جزء 6 ص 57).

ما حدث لمحمد وعمر،حدث أيضاً لعبد الوهاب وشوقي.يروي عبد الوهاب في سيرته الذاتية ـ سمعته يرويها بنفسه في إذاعة الشرق في السنوات 1980 :أول مرة تعرفت فيها على أمير الشعراء،كنت أغني في الأوبيرا فجاءني الحاجب وقال لي:البيه عايزك.دخلت اللوج وسلمت عليه فلم يرد ،خرجت حزيناً وقلت للحاجب:ليه البيه ماكلمنيش.فقال:”ابقى،ابقى البيه جاءته قصيدة”.لحظة نزول الوحي النبوي على محمد والوحي الشعري على شوقي،دخل كل منهما في هلوسة سمعية:دخل نبي الإسلام في مناجاه هامسة مع حبيبه جبريل؛ودخل أمير الشعراء في نجوى هامسة مع حبيبه شيطان الشعر.وهي إحدى الحالات التي عاشها الأنبياء والشعراء على مر العصور؛وكابدها الشعراء الحقيقيون،”أي المجانين”منذ شعراء العصور الغابرة إلى السوريالي ارطو، الذي مات في مستشفى المجانين،والرومانسي الشابي.بالمناسبة، قال في الستينات شقيق الشابي،الأمين الشابي،واصفاً حالة الوحي الشعري خلال النوم عند الشابي:”طلب الأطباء من الشابي التوقف عن كتابة الشعر في مرضه الأخير،ذات يوم كان نائماً وكان جبينه يتفصد عرقاً،فتح عينيه وطلب مني احضار قلم وكراس،قلت له: لكن الأطباء نصحوك بعدم الكتابة،فرد:”هي مكتوبة في رأسي”والقصيدة هي “إرادة الحياة”وهي نيتشويه،من أجمل وأعمق قصائدديوانه الوحيد:”أغاني الحياة”.

وهكذا فالوحي القرآني والشعري ينزل أيضاً خلال الأحلام؛الطب النفسي يدقق خلال:”أحلام اليقظة” أو”الأحلام الهاذية”، عندما يكون النائم في حالة وسط بين النوم واليقظة.

مراجع الفصل الرابع

1 ـ موسوعة لاروس النفسية:مادة هلوسة ص ص 418،419 .

2 ـ ماكس فبير،اليهودية العتيقة،ص ص 362ـ363 .

3 ـ هشام جعيط”السيرة النبوية”.اتهام هشام جعيط ابن اسحاق باختلاق غار حراء،لا يستند إلى أي فرضية تاريخية فضلاً عن أن تكون مقبولة.والحال أن القرائن النفسية والتاريخية تتضافر معاً على احتماليتها العالية.ميل الفصامي”إلى الإنطواء والخلوة ثابت في حالات الفصام”(هانوس،طب نفس الطالب،ص 126).لا لوم على جعيط إذا لم يشخص نفسية محمد،فليس من أهل الإختصاص في ذلك.لكن كيف ينسى هشام جعيط المؤرخ،أن كثيراً من أنبياء إسرائيل كانوا ينامون في المغاور كما تقول التوراة؟وكيف نسي أن النبي يوحنا المعمدان، الذي عمّد المسيح في نهر الأردن وتنبأ له، حسب الرواية المسيحية، بأنه سيكون المهدي المنتظر،كان يعيش في غار؟وكيف نسي أن الفيلسوف الفصامي والرياضي والمنطقي الكبير،فيتجينشتاين،الذي رفض حصته من تركة أبيه،ووزع ثروته على عابري السبيل، كما يفعل كثير من الفصاميين “الكرماء”،قضى حياته في كوخ ريفي معزول بناه بنفسه في إحدى الغابات؟،وكيف نسي اعتكاف الكهنة في الأديرة،في قلب الصحراء احياناً،أو اعتكاف المتصوفة والأولياء في مقاماتهم النائية والمعزولة غالباً مدى الحياة؟هذه الشخصيات العصابية أو الذهانية، ذات شخصية نفسية قلقة ومكتئبة،تحدوها إلى الإعتزال، بعيداً عن ضوضاء الحياة اليومية، لركوب قاطرة أحلام اليقظة في الخلوات، المساعدة على انتاج الهلاوس الضرورية لتطمينهم في خلواتهم.اليوم أيضاً كثير من الروائيين في أوربا يلجأون،عند كتابات رواياتهم طلباً للخلوة،إلى بيوتهم الريفية.

4 ـ تاريخ الطبري ص 101 .

5 ـ انظر أيضاً مختصر سيرة ابن هشام ص 179 .

6 ـ إدوارد ماهيو، هذيانات دينية ص 7 انترنت.

7 ـ الطبيب النفسي مارشِ،في كتابه السحر والأسطورة في الطب النفسي ص 189 (دار نشر ماسون)1977،باريس .

8 ـ نفس المصدر ص 185 .

9 ـ نفس المصدر ص 184 .

10 ـ ج.ل.بيدينيللى وجى جمنار،ذهانات الراشد ص 36 ،دار نشر يونيفرسيتي.

11 ـ مختصر سيرة ابن هشام ص 37 .

12 ـ عش وافهم الإضطرابات الفصامية ص 56 ،دار الليبس باريس 2004.

About العفيف الأخضر

العفيف الأخضر (1934-213 ) ولد في عائلة فلاحين فقراء في شمال شرق تونس سنة 1934. والتحق بجامعة "الزيتونة" الدينية ("أزهر تونس")، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و1961، ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في 1961، قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة إستقلال الجزائر. وانتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها "نقد الفكر الإسلامي التقليدي". غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعد أن صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض لهذه الحرب، والرافض لكل مبرّراتها "التقدمية". فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي "الغبي والمستبدّ". ويعيش "العفيف" في باريس منذ 1979، ويكتب لصحيفة عربية، ويحاضر أحياناً في القاهرة أو يشارك في نقاشات تلفزيونية في محطات فضائية عربية. لماذا ننشر مقالات "العفيف الأخضر"؟ لأن التاريخ يتقدّم بمنطقه الخاص، والفكر "الخارجي" يمكن أن يصبح فكر الساعة "من حيث لا تعلمون". وليس سرّاً أن العفيف الأخضر كان أول دعاة "تجفيف منابع" الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. كتب العفيف الأخضر: التنظيم الحديث، دار الطليعة، 1972. الموقف من الدين، دار الطليعة، 1973 (الذي تدخّل رئيس تنظيم ديني في لبنان لمنع طبعته الرابعة).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.