من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ -3

الفصل الثالث

ما الهذيان؟

“الهذيان هو تشويه ذاتي للواقع، مترافق مع قناعة الهاذي العميقة به. الهذيان هو خطأ غير قابل للتصحيح، هو إحساس أو حكم أو عاطفة جميعهن مغلوط، لكن الهاذي لا يستطيع أن يجعلهن موضع تساؤل وشك، ويتمسك بهن بقوة كبديل عن الواقع الخارجي”.

(ميشل هانوس، طب نفس الطالب، ص 73).

*********

الهذيانات السريرية هن: هذيان الحدس،هذيان المخيلة،هذيان العظمة،هذيان الغيرة،هذيان التأويل وهذيان الهلاوس.شخصنا باقي الأعراض المذكورة في هذا البحث،بما هي هذيان،لتعارضها الصارخ مع الواقع.مثلاً،نسيان نبي الإسلام،قريب من هذيان الذاكرة؛والأعراض الاكتئابية والفصامية الدينية، لا تختلف عن الوهم بما هو تصور مشوه للواقع.نعرف أن فرويد أعطى لكتابه عن الدين عنوان:”مستقبل وهْم”.

نلتقي بالهذيان في كثير من الذهانات، مثل الإكتئاب الهاذي، تفاقم الذهان المزمن، البرانويا،الذهان

الهلوسي المزمن وهذيان العظمة والهذيانات الفصامية.

اهتمام البسيكوباثولوجيا المركزي اليوم، متمحور حول الذهان والهذيان. الهذيان هو مجرد عرض لمرض، لبعض الذهانات، اللواتي أفقدن الذهاني توازنه. الهذيان إذن ليس هو سبب الذهان، بل هو عرَض هام لإختلال توازن الشخصية النفسية ومحاولة من الذهاني لإعادة ربط علاقة مشوهة مع الواقع.

الذهاني يستثمر كل طاقته الوجدانية في واقعه النفسي، أي في قناعاته ومعتقداته الذاتية، التي تستأثر بكل اهتمامه، بدل الواقع الخارجي الذي لا يعود يعني بالنسبة له شيئاً. الهذيان هو انتصار الذاتي على الموضوعي، والهذيان على البرهان والخرافة على الحقيقة: الهاذي يصدق هذيانه ويكذب الواقع: معزة ولو طارت. وهكذا فكل حوار معه، في موضوع هذيانه هو حوار طرشان؛ أما خارج موضوع هذياناته فهو غالباً كالآخرين.

عنصران أساسيان في الهذيان: تشويه الواقع واللّاهتمام بالواقع الخارجي، لأن الواقع النفسي الداخلي احتل محله. تشويه مدلول الواقع الخارجي هو الإضطراب المبكر، الذي يصيب الحياة العقلية، والذي يشكل قلب البنية الذهانية. في الحالة السوية، يعي الإنسان الفرق بين واقعه النفسي والواقع الخارجي. لكن في الحالات الذهانية، يتلاشى الفارق بين الواقعين، النفسي الداخلي، والموضوعي الخارجي، بين الرغبة والحقيقة.

الذهانات بعضها غير فصامي، أي لا تنفصم ولا تنقسم فيها الشخصية النفسية إلى شطرين، سليم وسقيم، كما في معظم الذهانات وبعضها الآخر فصامي، انقسامي، أي تنقسم فيه الشخصية النفسية إلى شطرين:سقيم وسليم.

التمييز بين الذهانات ضروري، عندما يكون المطلوب هو تحديد نمط العلاج، لكنه ثانوي عندما يكون المطلوب هو تحديد الأعراض، والآثار الدينية والسلوكية التي سببتها. وهذا هو همنا الأساسي في حالة نبي الإسلام.

لنوضح الآن مدلول الهذيان الفصامي، الذي هو،إلى جانب الهذيانات الأخرى الإكتئابية وغيرها، ملحوظ في القرآن.

الهذيان هذيانات وكذلك الفصام فصامات؛الأشكال الشائعة منها هي مجموعة الفصامات الهبفرني (بكسر الهاء والباء)، التي عُممت على أشكال الفصامات الأخرى العديدة،اللواتي يبقى معها الشطر السليم من الدماغ متحكماً إلى حد كبير في مجرى الفكر.وقلما يطغى فيها الشطر السقيم على الشطر السليم في مجالات مهنية عديدة:”الفصامي له حياة فكرية ثرية،الطبيب النفسي بلُرر عرف كيف يلحظ خلف الفوضى النفسية ـ السلوكية، وجود حياة فكرية وعاطفية غنية.الفصامي قادر على الإحساس، والتفكير والحب”(1).

وحتى في أشكال الفصام الهبفرنيك،لا ضرورة لاجتماع جميع أعراض هذا الفصام،بل يكفي عرض واحد منها لتشخيص المرض.المغزى:أن الفصامي الهبفرنيك يمكن ان يحتفظ بشطره السليم في حالة اشتغال،في موضوعات عدة.مثلاً،الشاعر التونسي الصديق ،منور صمادح،كان بعد ان أصبح فصامه سريرياً،يمشي في الشوارع متحدثاً مع نفسه وأحياناً مشوراً بيديه.عندما أحييه يرد التحية برسم ابتسامة.لكن اخاه القاضي أخبرني بأنه في أول كل شهر يذهب إلى مستأجريه لتحصيل الإيجار.

“معاينة تدهور الفكر شائعة في مجموعة أشكال الفصام الهبفرنيك.أما معدلات الذكاء في أشكال الفصام السريري الأخرى فتبقى سليمة”.(2).

أشكال الفصام الهبفرنيك تتميز بظهور حالات متتالية أو متناوبة،من الحالة الإكتئابية أو النرجسية أو الإلتياث الذهني”كونفوزيونيزم”،أي الفوضى الذهنية،أو اللخبطة،تظهر بعد سن البلوغ(12 عاماً) وسرعان ما تتطور إلى ضعف نفسي وفقر ذهني يمكن أن يصل إلى الغباء الكامل.وهذا لا يحصل في أشكال الفصام الأخرى.

“ينبغي أيضاً أن نعلم بأنه،حتى ولو كان الفصام مرضاً معيقاً،ألماً فظيعاً،فمن الممكن في بعض الحالات أن يكون منقذاً.مثلاً لقد أقيم البرهان على أن المرضى الفصاميين يحققون،في مهام التدليل المنطقي الصعبة،تفوقاً عالياً جداً بالقياس إلينا نحن،وينجحون بفضل مرضهم في معاجلة المعلومة من خلال سياقها. يبدو أن ذلك يسمح لهم بقدرة كبيرة على التجريد.نعرف المثل الشهير لأحد الفصاميين، جون ناش،رياضي استثنائي حصل على جائزة نوبل في الاقتصاد 1994″(3).

على أن مصطلح الفصام مرن يغطي حقولاً باثولوجية عدة؛يؤكد المحلل النفساني، وأستاذ الأمراض النفسية في جامعة رين الفرنسية مالفال:”في نظر بلُرر،مفهوم الشيزوفرينيا يغطي بعض أشكال البارانويا، وبعض أشكال الهيستيريا مروراُ بعصابات وسواسية،وانحرافات نفسانية وحالات اهتياجية ـ إكتئابية.حتى أن بلرر يقول بأن الأعراض العصابية يمكن أن تشتمل على فصام حميد”.(4).

ويقول بلرر نفسه: “في الفصام الواضح،أي عندما تتواجد أجزاء الشخصية مُنضّدة،الجزء بجانب الجزء، بينما يبقى اتجاهها جيداً في وسط المحيط(…)في الفصام، أي انشطار الشخصية النفسية إلى شطرين سقيم وسليم،يبقى الشطر السليم سليماً.وهو ما يسمح لنا بالتمييز بين الفصام وبين ازدواج الشخصية الهستيري.في هذا الأخير،الإنشطار يكون قوياً بحيث يصبح وعي المريض،أثناء عوارض الهذيان،تحت التحكم الكامل للجزء السقيم من الشخصية النفسية(…)بينما يحتفظ الفصامي،مع هذيانه،بنوع من الجزء السليم من الأنا”(5).

معظم من كتبوا عن الفصام، أكدوا مراراً بأن الذكاء يبقى سليماً:”تقنيات التصوير الحديث مثل اسكانير والتصوير بالرنين المغناطيسي(…)تؤكد وجود تشوهات دماغية بنيوية أو وظيفية.هذه التشوهات مسؤولة عن اضطراب معالجة الدماغ للمعلومة،وعن العته المعرفي،الذي،وهذا أمر لابد من تدقيقه، لا يصيب الذكاء ولا القدرات الإبداعية،لكنه يضعف بعض أنواع الذاكرة،ويضعف كذلك القدرات الانفعالية، والوجدانية،والقدرة على التكيف مع السياق العام،مثل صعوبة قراءة حساب لما يفكر فيه الآخر وما يشعر به الآخر،هي أيضاً إحدى التشويهات الدماغية التي من شأنها أن تنطوي على أعراض فصامية شتى مثل الهذيان.”(6).

قلنا أعلاه أن عرضاً واحداً من اعراض الفصام الهبرفنيك كافية لتشخيص المرض.مثل الخروج عارياً أمام الناس؛أو الفكر السحري، الذي يلغي قوانين الطبيعة وقوانين العقل؛أو اضطرابات الذاكرة، مثل النسيان عند نبي الإسلام،أو ابتكار كلمات جديدة لا معنى لها.كهيعيص مثلاً…إلخ،كما سنرى ذلك تفصيلاً.

ينبغي أيضاً التأكيد على الحقيقة الطبية النفسية القائلة، بأن الهذيانات قد تتبادل الأدوار فتنتقل من هذيان إلى آخر.مثل تبادل الأدوار بين الهذيانات الاكتئابية والهذيانات الفصامية مثلاً:”ليست الموضوعات هي التي تحدد أنواع الهذيانات البارنواياك،التي يمكن أيضاً العثور عليها في الذهانات الهلوسية المزمنة، مثلما قد نعثر عليها في الفصامات،ويمكن،استثنائياً،أن نرى هذه الميكانيزمات تتعايش في حضن نفس اللوحة السريرية.في حالة العكس، يمكن أن نفكر في إمكانية الانتقال من هذيان إلى هذيان آخر:مثلاً البارنويا قريبة من الشكيزوفرينيا أو الفصام”كما يقول أحد الأطباء النفسانين.

مقومان أساسيان للهذيان:مِيكانيزماته وموضوعاته.مكانيزمات الهذيان هي العملية، التي ينبني بها الهذيان وينتظم ويأخذ شكله؛بمعنى آخر،المكانيزم هو الأداة التي تجسد الهذيان.مثل الحدس، المخيلة، العظمة، الغيرة ،التأويل والهلاوس…للإقتصار على بعض المكانيزمات التي لها علاقة بموضوع البحث.سواء في القرآن أو في سيرة نبي الإسلام.

موضوعات الهذيان،أي مضامينه،متعددة:الاضطهاد، توهم الهاذي أنه ُمطارد من مضطهِد وهمي له؛ نهاية العالم،أي إسقاط شعور الهاذي الخاص بأن نهايته قد اقتربت،على نهاية العالم والبشرية انتقاماً من الله منهما،هذيان العظمة.مثلاً:”أنا نبي أو أنا الله”؛الهلاوس السمعية والبصرية وغيرها؛ والتأثير، اعتقاد المريض بأنه مسيّر لا مخيّر من خارجه في كل ما يقوله او يفعله.سواء أكان فاعل التسيير الله أو الشيطان.

بنية الهذيان، البنية هي مصطلح معماري. يعني الشكل الذي يقع به تنسيق وتنضيد وترتيب الأشياء الواحد بجنب الآخر ليعطيها شكلها وتماسكها، كما في المعمار.

بنية الهذيان، هي إذن الشكل الذي يعبر به الهذيان عن نفسه، في الخطاب الهاذي. الخطاب الهاذي نوعان: الأول يكون فيه الخطاب متسقاً، منظماً، مفهوماً.المنطق الذي يستخدمه المريض متماسك، وقادر على اجتذاب الآخر إليه.موضوع الخطاب هو غالباً واحد وحيد،و في حالة تعايش موضوعات عدة، يكون تسلسلهن منطقياً مثلاً:لأني عبقري لذلك أنا مضطَهد(…)هذا الهذيان المُنسق موجه إلى هدف واحد،يخص الحياة المهنية،أو الإجتماعية،أو في هذيان البارانويا وهذيان المطالبة بحق وهمي، أو يخص الحياة العاطفية كالغيرة مثلاً(…).أما النوع الثاني، فيكون فيه الخطاب الهاذي غير متسق،غير منظم،غير مرتب وغير مفهوم،بسبب تعدد موضوعاته،أي تعدد أشكال موضوعات الهذيان وميكانيزماته، المتعايشة والمتزامنة مع بعضها بعضاً، وغياب التسلسل المنطقي بينها.عندئذ يكون الهذيان غير متماسك،غير منطقي،ضبابياً وغير مترابط: “الهذيان البارانواييد،أي الفصامي،هو مثله الجيد.(…) هذيان المهتاج وهذيان المكتئب قلما يكونان متسقين”.(7 ).

القرآن بما هو هذيان،يندرج في هذا النوع الثاني من الهذيان،غير المتسق وغير المنطقي والمتعدد الموضوعات الهاذية.من الـ 114 سورة،التي يضمها المصحف الحالي، لا توجد إلا سورتان،يوسف ونوح، ذات موضوع هاذي واحد.ربما لأنهما مترجمتان عن الكتاب المقدس العبري.نوح ترجمة عبرية،في سفر التكوين،لمقطع من ملحمة جلجامش الشعرية الشهيرة. أما الـ 112 سورة الباقية فغالبيتهنّ هذيان غير متسق، غير مترابط، غير منظم وغير منطقي؛ومتعدد الأشكال، لا ترابط بين موضوعاته. لأن موضوعاته وآياته تولدت، تحت ضغط الهذيان والهلاوس، بالتداعي الحر للكلمات الموقّعة، والمسجوعة، والأفكار ،والخواطر والفانتزمات الهاذية؛حتى لتبدو غالبية السور مؤلفة من شِقف وشظايا لا علاقة منطقية بينها.

معنى هذا أن من 6236 آية، التي تشتمل عليها نسخة المصحف الحالية، بعد حرق عثمان للنسخ الأخرى،لا توجد إلا 138 آية (=آيات يوسف ونوح)في شكل هذيان منتظم. أما الباقي، 6198 آية، فمعظمه هذيان اكتئابي وفصامي. ينطبق عليه إلى حد كبير قول السيوطي في”الإتقان في علوم القرآن”:”وقيل متشابه كله”،أي غير مفهوم كله.بالرغم من أن السيوطي استثنى من الآيات المتشابهات آيات الأحكام،أي أقل من 400 آية.

كل قراءة علمية للقرآن،مطالبة منذ اليوم،بأن تقرأ حساباً لبنيته العميقة بما هو هذيان غير منظم:لا يوجد أي رابط سردي أو منطقي بين سورة وسورة،ولا أي رابط سردي أو منطقي بين الآيات أو مجموعة الآيات يربط بعضها ببعض!.

هذيان الحدس

الحدس عملية نفسية،تجعل الفكر يتعرّف على موضوعه مباشرة، أي يكتشف معرفة جديدة، من دون المرور بالمقدمات المنهجية الضرورية عادة لذلك،مثل التجربة والإستنتاج. ولا يستطيع الحادس تقديم برهان علمي عليها كما لا يستطيع غيره تفنيدها علمياً.والحدس شائع عند الشامبانزي والطفل. طفلاً،نجوت بفضل الحدس من لدغة أفعى قاتلة:كنت أحفر جحر يربوع لصيده،لما اقتربت من نهاية الجحر هممت كالعادة بمد يدي لإخراجه منه،ارتعدت فرائصي وارتعشت يدي،فضربت ضربة أخرى بالفأس فإذا الفأس قد قطع رأس أفعى،التي يبدو أنها كانت قد افترست صغار اليربوع ثم نامت . والحدس ملحوظ لدي العلماء؛عالم الرياضيات، بوان كارري،أكد:”لا رياضيات بلا حدس”؛أزمة 2008 لم يتوقعها إلا 4 اقتصاديون.توقعوها بحدسهم لا بالمعادلات الرياضية.الحدس أدخله تشومسكي في اللسانيات بما هو ميكانيزم معرفة حدسية للنحو، تجعل المتكلم بلغة مّا،يتكلمها بسليقته بلا أخطاء.وقد عبر عن هذا الحدس أعرابي:

ولست بنحوي يلوك لسانه / ولكن سليقي أقول فأعرب

فمتى يتحول الحدس، رفيق أسلافنا البدائيين بالأمس ورفيق الشامبانزي والطفل والعالم اليوم، إلى هذيان؟ عندما يُصبح:”فكرة مغلوطة ولكنها مقبولة من دون تحقق من صحتها،ولا تقديم برهان منطقي عليها، خارج كل معطى موضوعي أو حسي يبررها،مثلاً:كيف عرفت أنك نبي أو مهدي منتظر؟أعرف ذلك، هي كِيدا “( سي كوم سا).(8 ).وهكذا فهذيان الحدس من أكثر الهذيانات الدينية انتشاراً!.

الإصرار على الحدس،حتى بعد البرهنة على خطئه، يميّز الحدس الهاذي من الحدس الصادق. “التصديق”الذي يعتبر الركن الركين للإيمان في الإسلام،إيمان العجائز الساذج طبعاً،هو نموذج الحدس الهاذي؛لأنه يقين أعمى،يتعامى عن الحقائق العلمية وشواهد الواقع،مكذباً الواقع ومصدقاً النص الحرفي.مثلاً،قل لمؤمن بـ”التصديق الأعمى”لا صحة لتأكيد القرآن لوجود 7 سماوات و7 أراضين؛وأن الشمس لا تغرب في عين حمئة،أي ماؤها ساخن، أو مخلوط بالطين الأسود، كما يقول المفسرون،في كوكبنا الصغير،الذي هو أصغر من الشمس بمليون و 300 ألف مرة ،خلافاً لآية الإسكندر ذو القرنين:”حتى إذا بلغ مغرب الشمس وجدها تغرب في عين حمئة، ووجد عندها قوماً قلنا: يا ذا القرنين إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسنا”(86 الكهف)!.

فسيكون حواركما حوار طرشان: سيبقى مصرّا، ضدّ الحقيقة العلمية، على وجود 7 سموات و7 أراضين، وعلى أن الشمس تغرب في عين حمئة أو حامية في الأرض

تصديق النص وتكذيب الواقع ثابت عند ضحايا “إيمان التصديق” الساذج والهاذي

هذيان المخيلة

المخيلة التذكرية هي القدرة على تشكيل وتنشيط الصور الذهنية؛ سواء لإستعادة ذكريات أحداث قديمة وإعادة بنائها؛أو قدرة المخيلة الإبداعية على توقع الأحداث قبل وقوعها. وهي عادة ميزة الممارسة السياسية الرشيدة. مثلما هي أيضاً زاد كبار المبدعين في جميع المجالات الفنية والفكرية. ما كان للإبداع الأدبي والفني والفكري، وحتى العلمي، أن يوجد من دون هذه المخيلة. الأهرمات قبل أن تُبنى، لا شك أنها نضجت سنين في خيال المعماري، الذي بناها والذي عُثر مؤخراً على اسمه وقبره.

فمتى تتحول المخيلة من سليمة إلى سقيمة،من مبدعة للثقافة إلى منتجة للهذيان؟

عندما تخلق عالماً خيالياً كبديل عنيد للعالم الواقعي؛عندما تستولي عليها الهذيانات.الغريبة وأحياناً الغرائبية،فانتاستيك.يُعرّف الطب النفسي خاصية هذيان المخيلة:”هذيان المخيلة يتميز بإنتاج روايات خرافية يلعب فيها المريض الدور المركزي.مثلاً:أنا ملكة الكواكب،إمبراطورية المجرات هي مملكتي، أعبر الفضاء بشراع ذهبي.( 9)”.

المثل الأبرز لهذيان المخيلة، في القرآن، هي قصة الإسراء والمعراج.

شراع النبي الذهبي، الذي عبر به الفضاء، هو البراق. السماوات الـ 7، اللواتي قطعهنّ 9 مرّات جيئة وذهابا، بين الله في الـ 7 وموسى في الـ 1، مفاوضا الله على تقليص الصلوات من 50 إلى 5، هنّ مملكته.

هذيان العظمة

يختلط هذيان المخيلة بهذيان العظمة. هذيان العظمة يجعل الهاذي، ينسب لنفسه قوة أو مواهب استثنائية لا يملكها: وهكذا يبدأ هذيان العظمة، من المبالغة في تقدير القدرات الجسدية والفكرية والجنسية، لتصل، في حالة الهذيان الديني، إلى ادعاء النبوة أو الألوهية. يقول الطبيب النفساني سوسان: “هذيان العظمة هو الانطباع لدى المرء أنه موعود بمصير عظيم: كأن يكون نبياً، أو مهدي منتظر أو صاحب ثروة عظيمة(…) يظهر هذيان العظمة (…) في حالات الإهتياج والبارانويا والباراافرينيا (…) وساندوم الجنون (…). غالباً ما تختلط موضوعات هذيان العظمة بموضوعات الإضطهاد: يكرهونني لأني عبقري”(10 ).

موضوعات هذيان العظمة، عند نبي الإسلام، جنسيّة ودينيّة. جنسيّة: “أوتيتُ قوّة 40 رجلا” في النكاح، الذي سنشرح سببه في فقرة الهذيان الإهتياجي. دينية: فقد جعل محمد طاعة الله شرطا لطاعته هو: “وما كان لمؤمن أو مؤمنة، إذا قضى الله ورسوله أمرا، أن تكون لهم الخيرة من أرهم. ومن يعصي الله ورسوله فقد ضلّ ضلالا مبينا” (56، الأحزاب)؛ وأنّ: “الله وملائكته يصلّون على النبي، يا أيها الذين آمنوا صلّوا عليه وسلّموا تسليما” (37، الأحزاب). كما خصّص سورة كاملة لنفسه: “محمّد”. إدّعاء النبوّة، هو كما أكدّ الطب النفسي في حدّ ذاته، تعبير عن هذيان العظمة.

هذيان الغيرة

هذيان الغيرة ملحوظ عند محمد. كان يخشى، رغم سكوت السيرة والسنة عن ذلك، خيانة زوجاته له. لكن القرآن كشف السر الذائع. لذلك حرم على أصحابه سؤالهن إلا من وراء حجاب، وحرم على نسائه الزواج بعد موته:” يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ، إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَىٰ طَعَامٍ، غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ؛ وَلَٰكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا، فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا؛ وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ. ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. ۖ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ. ۚ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا، فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ۚ. ذَٰلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ. ۚ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ، وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا. ۚ إِنَّ ذَٰلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا.” ﴿53 الأحزاب﴾ ،مضمون الآية: أيها المؤمنون لا تدخلوا بيوت النبي،إلا بعد أن يأذن لكم،ولا تنتظروا طبخ الطعام داخل بيته،فإذا دعيتم إليه فادخلوا.وبمجرد أن تأكلوا اخرجوا. ولا تتحدثوا مع نسائه.فذلك كان يؤذي الرسول.لكن الحياء يمنعه من قول ذلك لكم.لكن الله[=ضميره الأخلاقي]لا يستحي من قوله لكم.وإذا كنتم تريدون طلب حاجة من نسائه، فاسألوهن حاجتكم، لكن من وراء حجاب.فذلك أطهر لقلوبكم وقلوبهن.حرام عليكم ان تؤذوا الرسول،في نسائه،حياً أو ميتاً، بالزواج من زوجاته.مثل هذا الصنيع سيكون عند الله خطيئة كبرى.!

في أسباب نزولها،قيل أن يد أحد المدعوين لامست يد عائشة… وقيل في تحريم زواج زوجاته بعد موته:أن طلحة ابن عبيد الله قال:”إذا تُوفي رسول الله تزوجت عائشة”(ابن سعد الطبقات ج 8 ص 201) (11)وقيل أنه وجد ذات يوم طلحة، خارجاً من بيت عائشة،فأنبه النبي على الدخول عن عائشة في غيابه؛فرد عليه طلحة:”سأتزوج عائشة بعد موتك يا رسول الله”.وهكذا دفعت غيرة نبي الإسلام الهاذية على نسائه إلى فرض الحجاب عليهن وعلى تحريم إمكانية”خيانتهن”له في حياته وحتى بعد مماته.

لكن ذلك لم يضع حداً لحب طلحة لعائشة.فقد تزوج،كما يقول ابن سعد،أختها،أم كلثوم،وسمى ابنته منها عائشة.وبعد موت النبي كان،كما يقول ابن سعد،يرسل لها غلة العام كل سنة. وأرادت هي تنصيبه خليفة بعد مقتل عثمان،الذي شاركت فيه بقوه؛ومن الممكن أنها خرجت لقتال علي بطلب من طلحة، في ما سُمي بحرب الجمل التي قتل فيها 15 ألف مسلم،وكان بينهم طلحة، الذي قتُل وهو واقف بجنب جمل عائشة ذوداً عنها:”(…) بلغني أن مروان بن الحكم رمى طلحة يوم الجمل وهو واقف إلى جنب عائشة بسهم فأصاب ساقه(…)فمات” .( ابن سعد الطبقات ج 8 ص 223).

غيرة نبي الإسلام، كانت تعبيراً هاذياً عن امتلاكه امتلاكاً مطلقاً، لأجساد زوجاته حتى بعد مماته! برهنت الدراسات النفسية الحديثة،أن أكثر من ثلث الذهانيين المصابين باضطرابات البارانويا،أو أحياناً باضطرابات الفصام،مصابون بجنون الغيرة، وأن نصفهم مصابون باضطرابات عصابية، والباقون مصابون باضطرابات عضوية أو كحولية؛ وقد أكد المؤرخ التونسي، محمد الطالبي، أن نبي الإسلام لم ينقطع عن الخمر. وقيل أن عائشة اتهمته بشرب الخمر مع مارية، التي كان يشتري لها الخمر بما هي مسيحية. وعملاً بسنته، أمر الفقهاء المسلم المتزوج من مسيحية أن يقدم لها الخمر والخنزير، ولكن يمنعها من تقديم ذلك لأبنائه التابعين له في الدين.

يبدو من هذه الآية والآية 56 من سورة الأحزاب، أنّ الحياء، أي الإحجام خجلا عن إبداء فكرة أو إتّخاذ قرار، هو أحد طبائع نبيّ الإسلام. الحياء يظهر غالبا في كلّ ما يخصّ الجنس، كما هي في حالتي نبيّ الإسلام؛ في الأولى، استحى النبيّ من نهي مدعُوّيه عن الحديث مع زوجاته، الذي كان يؤذيه، أي يؤجّج غيرته عليهنّ؛ وفي المرة الثانية، كان الموضوع أيضا جنسيّا، إخفاء رغبته في تطليق زينب، من ابنه بالتبنّي، زيد، والتظاهر بانّه لا يريد تطليقها منه ولا الزواج منها بعد ذلك: “وإذ تقول [لزيد] امسك عليك زوجك (…) وتخفي [حياءً] ما الله مبديه”، أي رغبة محمّد العارمة في تطليقها وزواجه منها.

للحياء تفسيرات عدّة، قد يكون ترجمة لشعور الحيّي بالعار لنفسه، إذا عبّر عمّا يشعر به حقّا، وقد يكون نتيجة الشعور بالدونيّة من عيب أخلاقي أو خِلقي. ومحمّد كان، كما نعرف من السيرة، معقّدا من مشيته الفصاميّة “كأنّما يمشي في صَبَب”، أي كأنّما ينحدر في منحدر، التي يعتبرها الطب النفسي عَرضا جسديّا للفصام. مهما يكن التفسير، فحياؤه واقعة لا شكّ فيها. عسى أن تُعمِّقها الدراسات النفسية القادمة لشخصيّة محمد النفسية.

هذيان التأويل

“ما في الكون كلام لا يُتأوّل”

ابن عربي

لغة المصطلحات العلمية، الحاملة عادة لمعنى واحد، معرّف بدقة، حتى لا يمتد من حقل معرفي إلى آخر، دقيقة. أما اللغة الدينية، فتغلب فيها الرموز والمجازات الحاملة لمعاني عدة. وأحياناً مجرد ألغاز غير قابلة للفهم،كما في القرآن، المليء بالمتشابهات والمتناقضات والقراءات (14 قراءة) المختلفة، والكلمات الجديدة، والتي غالباً لا معنى لها في سياق الآية.مثل” فناداها من تحتها ألا تحزني قد جعل ربك تحتك سريا “(24 مريم) المفسرون يقولون”سري”هو جدول،والحال أن مريم لم تلد جدولاً بل طفلاً اسمه عيسى؛وحسب الآية كلمها من تحتها،بمجرد خروجه من رحمها،ليطمئنها قائلاً لها بانها ولدت سرياً!.

النصوص الدينية لا يمكن قراءتها من دون اللجوء إلى التأويل، لفك رموزها ومجازاتها وهذياناتها وهلاوسها،التي قلما تفارقها.يوجد لذلك علم خاص، الهرمنو طيقا،أي علم تأويل النصوص الفلسفية والدينية؛تلجأ الهرمنوطيقا، لتأويل النص الديني مثلاً، إلى الشروط التاريخية،التي تم فيها انتاجه،أي إلى سياقاته الظرفية والزمنية،التي أسماها المفسرون”أسباب النزول”.هذه العملية المعقدة ضرورية لإنتاج معنى مقبول للنص.

يتحول التأويل من سليم إلى سقيم،من بحث عن معنى للنص، متكيّف مع حاجات المتلقي.عندما يتسمّر في معنى متكيف فقط مع رغبات الهاذي الشخصية،المقطوعة جذرياً من الواقع، الذي تم تأويله بليّ عُنقه.

عندئذ يُصبح التأويل هذياناً،أي قناعات ذاتية متشنجة لا تقبل النقاش،واستنتاجاً مغلوطاً يعتقد الهاذي، صادقاً طبعاً،أنه الوحيد الصحيح،بالرغم من أنه قد تنجرّ عنه نتائج وخيمة، مثل قتل الهاذي للشخص الذي يتوهم أنه “يضطهده” أو” يخونه” في تأويل البارانويا.

التأويل الهاذي ينطلق عادة من واقعة صحيحة ليستنتج منها نتائج مغلوطة مثلاً: “كيف عرفت أنك المهدي المنتظر؟ لأنه بالأمس أيضاً في الشارع، زمرت سيارة” (11). لا رابط منطقي بين المبرَهن به والمبرهن عليه.

نلتقي بهذا التأويل الهاذي في البارانويا، في الذهان الإهتياجي ـ الإكتئابي وفي الفصام …

العفيف الأخضر – مفكر حر؟

مراجع الفصل الثالث

1 ـ عش وافهم الفصام ص 5 .

2 ـ طب نفس الراشد ص 259،مصدر سابق .

3 ـ أوليفييه هودي،المائة كلمة من السيكولوجيا، ص 108،دار بوف.

4 ـ بلرر، الجنونات الهستيرية والذهانات الفصامية،ص 290،دار بايو،باريس.

5 ـ بلرر:الجنون المبكر،ص 104.

6 ـ عش وافهم الاضطرابات الفصامية،ص 11،بالفرنسية،دار ايلبس،باريس 2004 .

7 ـ الطب النفسي،سوسان،ص 275 ،طبعة 2001 و 2002.

8 ـ سوسان،الطب النفسي 2001 ، 2002 ،ص 72 .

9 ـ الطب النفسي 2001 و 2002 ،ص 72.

10 ـ سوسان الطب النفسي 2001 2002 ، ص 274 .

11 ـ (سوسان ،الطب النفسي ص 272.

About العفيف الأخضر

العفيف الأخضر (1934-213 ) ولد في عائلة فلاحين فقراء في شمال شرق تونس سنة 1934. والتحق بجامعة "الزيتونة" الدينية ("أزهر تونس")، ثم بكلية الحقوق. ومارس مهنة المحاماة بين 1957 و1961، ثم تخلّى عن هذه المهنة وسافر إلى باريس في 1961، قبل أن يلتحق، مع يساريين آخرين، بنظام الرئيس أحمد بن بلا غداة إستقلال الجزائر. وانتقل إلى الشرق الأوسط في العام 1965، وتنقّل بين عمّان وبيروت حيث طبع أهم كتبه التي كان محورها "نقد الفكر الإسلامي التقليدي". غادر العفيف الأخضر بيروت محزوناً بعد اندلاع الحرب الأهلية، وبعد أن صدم أصدقاءه اليساريين بموقفه الرافض لهذه الحرب، والرافض لكل مبرّراتها "التقدمية". فقد هاله أن اليسار اللبناني لم يدرك أنه كان يسهم، بدون وعي، في تحطيم الحصن الوحيد للحرية في العالم العربي "الغبي والمستبدّ". ويعيش "العفيف" في باريس منذ 1979، ويكتب لصحيفة عربية، ويحاضر أحياناً في القاهرة أو يشارك في نقاشات تلفزيونية في محطات فضائية عربية. لماذا ننشر مقالات "العفيف الأخضر"؟ لأن التاريخ يتقدّم بمنطقه الخاص، والفكر "الخارجي" يمكن أن يصبح فكر الساعة "من حيث لا تعلمون". وليس سرّاً أن العفيف الأخضر كان أول دعاة "تجفيف منابع" الفكر الأصولي الإرهابي بعد أحداث 11 سبتمبر-أيلول 2001. كتب العفيف الأخضر: التنظيم الحديث، دار الطليعة، 1972. الموقف من الدين، دار الطليعة، 1973 (الذي تدخّل رئيس تنظيم ديني في لبنان لمنع طبعته الرابعة).
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.