يزيد صايغ
منذ ثلاث سنوات أطاحت انتفاضاتٌ شعبيةٌ أربعة رؤساء نُصِّبوا لمدى الحياة، مُظهرةً إلى أي حدٍّ ضمرت و تكلّست الأنظمة السياسية القائمة على المحسوبية، والتي كان الرؤساء أقاموها للحفاظ على حكمهم. وقد أسفر تقلّص قدرة هذه الأنظمة على استيعاب الضغوط والتحدّيات التي ولّدها التغيير الاجتماعي والاقتصادي والتكيّف معها، عن جعلها ضعيفةً وسهلة التكسّر، ففقدت السيطرة فيما لقِّب بِ”الربيع العربي”.
والآن نشهد نوعاً مختلفاً جداً من “الربيع” فيما تقترب أربع بلدان عربية من إجراء انتخابات رئاسية في الأشهر القليلة المقبلة. واحد منها فقط – مصر – قد شهد ربيعاَ، بينما سورية غارقة بحرب أهلية بشعة و تمكّن النظام الجزائري من تفتيت و تنفيس أية معارضة شعبية قبل أن تتعاظم و تتحد. إن التعددية السياسية في لبنان تجعله مختلفاً جداً، و لكن الرفض العنيد لتغيير نظامه الطائفي بات يقوّض الأسس الدستورية ديمقراطيته و يهدد تماسك الدولة نفسها.
يزيد صايغ باحث رئيسي في مركز كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت، حيث يتركّز عمله على الأزمة السورية، والدور السياسي للجيوش العربية، وتحوّل قطاع الأمن في المراحل الانتقالية العربية، إضافة إلى إعادة إنتاج السلطوية، والصراع الإسرائيلي-الفلسطيني، وعملية السلام.
يزيد صايغ
باحث رئيسي
مركز كارنيغي للشرق الأوسط
المزيد من إصدارات الباحث
حملات الربيع في سورية وموت الدبلوماسية
إعادة مصر إلى الجمهورية الأولى
ابرز نجاحات جنيف 2
اقتراب هذه البلدان الأربعة من انتخاباتها الرئاسية في وقت متقارب هو مجرّد صدفة. و لكن تظهر البلدان الأربعة مدى القوة المستدامة للنخب الفاعلة و الأطراف المؤسسية المتمترسة و قدرتها على إدامة أنماط سياسية – سلطوية بمعظمها – تخدم مصالحها. “الربيع الرئاسي” لايشي بتدشين مرحلة أخرى طويلة شبيهة بمرحلة 1970-2010، تقوم على الحكم الاستبدادي الثابت ولكن الضعيف. و لكنه يعكس مزيجا متفاوتا من السياسات الفئوية ضمن النخب الحاكمة وبنى السلطة، ومن الهيئات التشريعية الضعيفة والمجالس الوزارية العاجزة، والجيوش المسيّسة، والنفوذ الخارجي المتنامي، و التي تشير إلى إعادة إنتاج الميول السلطوية السابقة أو بتوليد أخرى جديدة.
يتجلّى ذلك في عملية التلاعب بالقوانين والجداول الزمنية الخاصة بالانتخابات الرئاسية بأشكالٍ يمكن أن تخدم الرؤساء الحاليين أو غيرهم من اللاعبين النافذين. على سبيل المثال، يشكّل المرسوم الذي أصدره الرئيس المصري المؤقّت عدلي منصور، في 8 آذار/مارس، والذي يحظّر الطعن بالنتائج، انتهاكاً ممكناً للمادة 97 من الدستور المعدّل الجديد. هذا ولم يُحدَّد بعد موعدٌ لإجراء الانتخابات فيما لاتفصلنا عنها إلا أسابيع قليلة، الأمر الذي يجعل من الصعب على أحد أن يخوض حملة رئاسية بنجاح إلا الحاكم الفعلي الحالي، وزير الدفاع السابق المشير عبد الفتاح السيسي.
الحال نفسها تقريباً تنطبق على سورية، حيث عدّل البرلمان في 14 آذار/مارس القانون الانتخابي للسماح بتنافس مرشحين عدة، فارضاً في الوقت نفسه شرط الإقامة في سورية الذي يقصي فعلياً شخصيات المعارضة عن الترشّح. ولم يُحدَّد بعد موعدٌ للانتخابات، فيما الحرب الأهلية المتواصلة تجعل من المستحيل تماماً إجراء انتخابات ذي صدقية، ولكن تتيح للرئيس بشار الأسد إقامة الشعائر التي تجعله يدّعي امتلاك شرعية متجدّدة. فلا بد من التذكير بوصف وزير الداخلية السوري آنذاك للاستفتاء الذي أعاد الأسد إلى السلطة في العام 2007 بتصويت إيجابي مزعوم بلغ 97.62 في المئة من إجمالي عدد مقترعين ذُكِر أنه بلغ 96 في المئة، بأنه إثبات على “النضج السياسي لسورية وعلى تألّق ديمقرايتنا”.
أما في الجزائر، فلم يجرِ تغيير القانون الانتخابي، لكن قبل أن يقرّر الرئيس عبد العزيز بوتفليقة الترشّح لولاية رابعة، درس تعديل الدستور من أجل تمديد ولايته الحالية من خمس إلى سبع سنوات. هنا أيضاً أدّى غياب الوضوح حتى الأسابيع القليلة الماضية حول ما إذا كان بوتفليقة سيترشّح فعلاً أم لا، على الرغم من مرضه العضال، إلى إحباط الترشيحات الأخرى وإخلاء الساحة له.
هذه الأمثلة إنما تعكس بقاء سمة أساسية من أنظمة حسني مبارك في مصر، وزين العابدين بن علي في تونس، وعلي عبد الله صالح في اليمن، وهي أنه حتى حيث حصل انتقالٌ رسميٌّ من اختيار الرؤساء عبر الاستفتاءات إلى اختيارهم عبر الانتخابات، ومن خيارٍ يقتصر على الإجابة بـ”نعم/كلا” إلى إمكانية الاختيار بين ترشيحات متعدّدة، يُستخدَم عدم اليقين إزاء الإجراءات الانتخابية لضمان يقينٍ معقولٍ في مايختصّ بالنتيجة الانتخابية.
تقدّم مصر مثالاً مُعبِّراً بشكل خاص على كيفية استمرار الحكام الاستبداديين في التعاطي مع الأطر القانونية والدستورية على أنها طيّعة كلياً. فالانتخابات الرئاسية ستُجرى قبل الانتخابات البرلمانية، الأمر الذي يقلب “خريطة الطريق” التي أصدرتها السلطات الحاكمة نفسها بعد أن أطاحت الرئيس محمد مرسي في 3 تموز/يوليو 2013. فضلاً عن ذلك، أُعلِن قانون الانتخابات الجديد بعد أقلّ من شهرين من تعديل الدستور الجديد في كانون الثاني/يناير، الذي كان سيحدّد بسهولة قواعد واضحة ومُلزِمة للانتخابات الرئاسية. وواقع أن هذا الدستور كان الدستور المصري الثالث في غضون ثلاث سنوات – إلى جانب إعلانات دستورية عدة – وأن السلطات زعمت أنها نالت موافقة 98.1 في المئة من الناخبين، يعزّز الاستنتاج القائل بأن الإجراءات والآليات لاتزال تخضع إلى التلاعب بهدف ضمان نتائج محدّدة.
بيد أن الديمقراطية توفّر عكس كل ذلك: يقين في مايتعلّق بالإجراءات، وشكّ في مايتعلّق بالنتيجة. لهذا السبب يُعَدّ مأزق لبنان مثيراً للقلق. صحيح أنّ الدستور الذي يمنع الرئيس من الترشّح لولايتين متتاليتين لم يخضع إلى الطعن المباشر، لكنّ الولاية الرئاسية مُدّدت مرّتين منذ أن أدخل الرئيس الأسبق الياس الهراوي التعديل الدستوري الأول الذي أتاح ذلك في العام 1995. ثمّ استخدم خلفه إميل لحّود هذه الأداة القانونية في العام 2004، وقد تُستخدم مجدّداً عند انتهاء ولاية الرئيس ميشال سليمان في شهر أيار/مايو 2014. والمجلس النيابي الذي يجب أن يقرّ ذلك، كان مدّد ولايته على أسس قانونية مشكوك فيها العام الفائت، الأمر الذي قوّض السلطة الأخلاقية التي يتمتّع بها المجلس الدستوري، مصدر الشرعية الآخر المتبقّي في لبنان.
مكائد الانتخابات الرئاسية لاتُنبئ ببساطة إلى العودة إلى النظام السلطوي في لبنان – إذ أن الرئيس سليمان بالتأكيد ليس رئيساً استبداديّاً – و لا في البلدان العربية الأخرى. فعلى الرغم من الأساليب الاستبدادية التي يستخدمها بوتفليقة في الجزائر لتحقيق السيطرة السياسية، إلا أنه أرغم الجيش على الانسحاب جزئيّاً من السلطة. وبالأهمية نفسها، يتعين عليه أن يتعامل مع مشهد اجتماعي-سياسي أكثر تنوّعاً ممّا عاينه أسلافه، الأمر الذي يحدّ من خياراته ويقيّد سلوكه.
ينطبق هذا الأمر أيضاً على مصر حيث يواجه السيسي، الزعيم الجديد، ومؤيّدوه – أي الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية وعناصر متنوعة من النظام القديم وشخصيات في عالم الأعمال – صعوبةً في احتواء الأزمة الاجتماعية-الاقتصادية التي تزداد تفاقماً. وهم لم يعودوا قادرين على تفادي التحدّيات الاجتماعية التي يطرحها عمّال القطاعين الصناعي والعام، والثوار الشباب ومشجّعو كرة القدم، وحتى أفراد الشرطة. وفي سورية، حتى لو صمد نظام الأسد في الحرب الأهلية الجارية، فسوف يواجه مطالب غير مسبوقة من مكوّنات المجتمع التي حاربت من أجله، وسوف يُضطر في الوقت نفسه إلى تقديم تنازلات جديدة لقطاعات أخرى من أجل جذب رؤوس الأموال والاستثمارات الضرورية لإعادة بناء الاقتصاد.
ليس بحوزة الرؤساء الجدد، و غير الجدد كثيراً، و الدائمين، الذين سيتولّون الحكم في الأشهر القليلة المقبلة سوى خيارات سياسية قليلة وموارد أقل تتيح لهم تجاوز التحديات التي يواجهونها. ولاتستطيع التحالفات الداخلية والخارجية أن تصرف النظر عن تزايد المشاكل الاجتماعية والاقتصادية، ولا أن تعوّض التراجع المطرد لشرعية واتساق الأنظمة السياسية والأطر الدستورية التي ترتكز عليها. من هذا المنطلق، يشكّل الربيع الرئاسي إلى حدٍّ كبير جزءاً لايتجزأ من عمليات التغيير والاحتجاج المتواصلة التي أطلقها الربيع العربي “الأصلي” في العام 2011.
تم نشر هذا المقال في جريدة الحياة.