تعتبر ملحمة (( نيوما ايليش )) إلى جانب ملحمة كلكامش من أقدم وأجمل الملاحم في العالم القديم ، فتاريخ كتابتها يعود إلى مطلع الألف الثاني ق.م أي قبل ألف وخمسمئة سنة تقريبا من كتابة الإلياذة وتدوين اسفار التورات العبرانية وقد لقيت كثيرا من الإهتمام والدراسة من قبل علماء المسماريات والانتروبولوجيا والميثولوجيا والثيولوجيا.
فإلى جانب الشكل الشعري الجميل الذي صيغت فيه الملحمة والذي يعطينا نموذجا لأدب إنساني متطور فإنها تقدم لنا وثيقة هامة عن معتقدات البابليين ونشأة آلهتها ووظائفهم وعلاقاتهم ، كما أنها تقدم لدارسي الديانات المقارنة مادة غنية للدراسة والبحث .
وعثر على هذه الملحمة موزعة على سبعة ألواح فخارية أثناء الحفريات التي كشفت عن قصر آشور بانيبال ومكتبته التي احتوت على مئات الألواح الفخارية في شتى المواضيع الأدبية والدينية والقانونية وما إليها.
جرى الكشف عن ألواح الملحمة تباعا منذ نهاية القرن التاسع عشر وحتى نهاية الربع الأول من القرن العشرين.
وإسم الملحمة مأخوذ كما هي عادة السومريين والبابليين من الكلمات الإفتتاحية في النص فاينوما ايليش تعني [[ فعندما في الأعالي لم يكن هناك سماء.. وفي الأسفل لم يكن هناك أرض .. لم يكن في الوجود سوى المياه الأولى ممثلة في ثلاثة آلهة (أبسو) و( تعامة) و (ممو) …]] .
فأبسو ,,هو الماء العذب,, وتعامة زوجته كانت,, الماء المالح ,,أما ممو فيعتقد بأنه الأمواج المتلاطمة الناشئة عن المياه الأولى ولكني أؤيد الرأي القائل بأنه ,,الضباب المنتشر فوق تلك المياه والناشئ عنها,, .
هذه الكتلة المائية الأولى كانت تملأ الكون وهي العماد الأول الذي إنبثقت منه فيما بعد بقية الآلهة والموجودات . وكانت آلهتها الثلاثة تعيش في حالة سرمدية من السكون والصمت المطلق ، ممتزجة ببعضها البعض في حالة هيولية لا تمايز فيها ولا تشكل . ثم أخذت هذه الآلهة بالتناسل فولد لآبسو وتعامة الهان جديدان هما (لخمو) و( لخامو) وهذان بدورهما أنجبا (أنشار) و (كيشار) اللذين فاقا قدرة أبويهما قوة ومنعة ، وبعد سنوات مديدة ولد لأنشار وكيشار إبن أسمياه (آنو) وهو الذي صار فيما بعد الهاً للسماء ، وآنو بدوره أنجب (أنكي) و (إيا) وهو إله الحكمة والفطنة ، والذي غدا فيما بعد إله المياه العذبة الباطنية ولقد بلغ إيا حداً من القوة والهيبة جعله يسود حتى على آبائه.
وهكذا امتلأت أعماق الآلهة تعامة بالآلهة الجديدة المليئة بالشباب والحيوية والتي كانت في فعالية دائما وحركة دائبة ، مما غير الحالة السابقة وأحدث وضعاً جديداً لم تألفه آلهة السكون البدائية التي عكرت صفوها الحركة وأقلقت سكونها الأزلي .
حاولت الآلهة البدائية السيطرة على الموقف وإستيعاب نشاط الآلهة الجديدة ولكن عبثاً ، الأمر الذي دفعها إلى اللجوء للعنف ، فقام آبسو بوضع خطة لإبادة النسل الجديد والعودة للنوم مرة أخرى وباشر بتنفيذ الخطة ، رغم معارضة تعامة التي ما زالت تكن بعض عواطف الأمومة.
لدى سماعهم بمخططات آبسو ، خاف الآلهة الشباب وإضطربوا، ولم يخلصهم من حيرتهم سوى أشدهم وأعقلهم الإله إيا الذي ضرب حلقة سحرية حول رفاقه تحميهم من بطش آبائهم ، ثم صنع تعويذة سحرية رماها على الإله آبسو الذي راح في سبات عميق ، وفيما هو نائم قام إيا بنزع العمامة الملكية عن رأس آبسو ووضعها على رأسه رمزاً لسلطانه الجديد . كمانزع عن آبسو أيضا اللقب الإلهي وأسبغه على نفسه ثم ذبحه وبنى فوقه مسكنا لنفسه . كما انقض على ممو (الضباب المنتشر فوق المياه الأولى) المعاضد لآبسو فسحقه وخرم أنفه بحبل يجره وراءه أينما ذهب ، ومنذ ذلك الوقت أصبح إيا إلهاً للماء العذب يدفع به إلى سطح الأرض بمقدار ويتحكم به بمقدار ، وهو الذي يعطي الأنهار والجداول والبحيرات ماءها العذب وهو الذي يفجر الأرض عيوناً من مسكنه الباطني . ومنذ ذلك الوقت يشاهد ممو فوق مياه الأنهار والبحيرات لأن إيا قد ربطه بحبل فهو موثق به إلى الأبد.
بعد هذه الأحداث الجسام ولد الإله مردوخ أعظم آلهة بابل ، الذي أنقذهم مرة أخرى من بطش الآلهة القديمة ، ورفع نفسه سيداً للمجتمع المقدس وكيف لا ؟؟؟ وهو إبن إنكي الذي فاق أباه قوة وحكمة وبطشاً . وكما كان الإنقاذ الأول على يد الإب أنكي كذلك كان الإنقاذ الثاني على يد الإبن الشاب مردوخ.
فتعامة التي تركت زوجها آبسو لمصيره المحزن دون أن تهرع لمساعدته وهو يذبح على يد الآلهة الصغيرة تجد نفسها الآن مقتنعة بضرورة السير على نفس الطريق ، لأن الآلهة الصغيرة لم تغير مسلكها بل زادها إنتصارها ثقة وتصميما على أسلوبها في الحياة . وهنا إجتمعت الآلهة القديمة إلى تعامة وحرضتها على حرب إولئك المتمردين على التقاليد الكونية فوافقت وشرعت بتجهيز جيش عرم قوامه 11 نوع من الكائنات الغريبة التي أنجبتها خصيصاً لساعة الصدام (أفاعي وزواحف وتنانين هائلة وحشرات عملاقة) جعلت عليها الإله (كينغو) قائداً بعد أن إختارته زوجاً لها وعلقت على صدره ألواح الأقدار.
علم الفريق الآخر بما تخطط له تعامة وصحبها فاجتمعوا خائفين قلقين ، وأرسلو إيا الذي أنقذهم في المرة الأولى، عسى ينقذهم في المرة الثانية . لكن إيا عاد مذعورا مما رأى ، فأرسلو آنو الذي مضى وعاد في حالة هلع شديد .
أسقط في يد الجميع وأطرقوا حائرين كل يفكر في مصيره الأسود القريب وهنا خطر لكبيرهم أنشار خاطر جعل أساريره تتهلل إذ تذكر مردوخ الفتى القوي العتي ، فأرسل في طلبه حالاً ، وعندما مثل بين يديه وعلم بسبب دعوته أعلن عن إستعداده للقاء تعامة وجيشها بشرط الموافقة على إعطائه إمتيازات خاصة وسلطات إستثنائية فكان له ما أراد ، وجلسوا جميعا حول مائدة الشراب وقد اطمأنت قلوبهم لقيادة الأله الشاب.
اعطى الآلهة مردوخ قوة تقرير المصائر بدلاً من أنشار وأعطوه قوة الكلمة الخالقة ولكي يمتحنوا قوة كلمته الخالقة ، أتوا بثوب وطلبوا من مردوخ أن يأمر بفناء الثوب ، فزال الثوب بكلمة آمرة من مردوخ، ثم عاد إلى الوجود بكلمة أخرى. هنا تأكد الآلهة من أن مردوخ إذا أراد شيئاً قال له ,,كن فيكون ,,. فأقاموا له عرشاً يليق بألوهيته وجعلوه سيداً عليهم جميعاً ثم أسلموه الطريق إلى تعامة ، وقبل أن يمضي صنع لنفسه قوساً وجعبة وسهاماً وهراوة كما صنع شبكة هائلة ، أمر الرياح الأربعة أن تمسك أطرافها. ملأ جسمه باللهب الحارق وأرسل البرق أمامه يشق له الطريق ، دفع أمامه الأعاصير العاتية وأطلق طوفان المياه ، وانقض طائرا بعربته الإلهية وهي العاصفة الرهيبة التي لا تصد منطلقا نحو تعامة والآلهة تدافع من حوله تشهد مشهدا عجيبا.
عندما إلتقى الجمعان طلب مردوخ قتالاً منفرداً مع تعامة فوافقت عليه ، ودخل الإثنان حالاً في صراع مميت ، وبعد فاصل قصير نشر مردوخ شبكته ورماها فوق تعامة محمولة على الرياح ، وعندما فتحت فمها لإلتهامه دفع في بطنها الرياح الشيطانية الصاخبة فانتفخت وامتنع عليها الحراك . وهنا أطلق الرب من سهامه واحداً تغلغل في حشاها وشطر قلبها . وعندما تهاوت على الأرض اجهز على حياتها، ثم التفت إلى زوجها وقائد جيشها كينغو فرماه في الأصفاد وسلبه ألواح الأقدار وعلقها على صدره وهنا تمزق جيش تعامة شر تمزيق وفر معظمه يطلب نجاة لنفسه ، ولكن مردوخ طاردهم فقتل من قتل وأسر من أسر.
بعد هذا الإنتصار المؤزر على قوة السكون والسلب والفوضى ، التفت مردوخ إلى بناء الكون وتنظيمه وإخراجه من حالة الهيولية الأولى إلى حالة النظام والترتيب ، حالة الحركة والفعالية و….الحضارة .
عاد مردوخ إلى جثة تعامة يتأملها ثم أمسك بها وشقها شقين ، رفع النصف الأول فصار سماءً وسوى النصف الثاني فصار أرضاً ، ثم إلتفت بعد ذلك إلى باقي عمليات الخلق فخلق النجوم محطات راحة للآلهة وصنع الشمس والقمر وحدّد لهما مساريهما ثم خلق الإنسان من دماء الإله السجين كينغو حيث قتله وأفرج عن بقية الأسرى بعد أن إعترفوا بأن المحرض الأول هو كنغو كما خلق الحيوان والنبات ونظم الآلهة في فريقين الأول في السماء وهم (الأنوناكي) والثاني جعله في الأرض وما تحتها وهم ( الأيجيجي ).
بعد الإنتهاء من عملية الخلق يجتمع الإله مردوخ بجميع الآلهة ويحتفلون بتتويجه سيداً للكون . بنوا مدينة بابل ، ورفعوا له في وسطها معبداً تناطح ذروته السحاب وهو معبد (الازاجيلا) وفي الإحتفال المهيب أعلنوا أسماء مردوخ الخمسين اسما.
هذه هي الخطوط العريضة للملحمة البابلية الكبيرة ، لا تغني عن النص الشعري الكامل الذي يعتبر مع ملحمة كلكامش أجمل نصين من نصوص الأدب السامي ومن أجمل نتاجات الأدب القديم…..