سعد الله ونّوس
نحن في مقهى شعبي … ثمة عدد من الزبائن يتفرقون على المقاعد المبعثرة في أرجاء المقهى … معظمهم يدخنون النرجيلة ويشربون الشاي … وبينهم يروح الخادم ويجيء حاملا صواني الشاي والقهوة … إنه لن يتوقف عن الرواح والمجيء طوال السهرة . يسيطر على المقهى جو من التراخي والفوضى الشعبية . وتسود ضجة الكلام مختلطة بقرقرة النراجيل ، وبأغان تنبعث من راديو عتيق في المقهى . الأغاني تلعب دورا هاما في تهيئة الجو لبدء المسرحية . إنها ستتيح لنا الفرصة لتحقيق التآلف الذي يمهد للبدء بحكاية السهرة . ينبغي أن يحس المتفرجون بنوع من الاسترخاء ، وربما الطرب ، شأنهم في ذلك شأن زبائن المقهى . وكما قلت في الملاحظات السابقة ، ليست هناك ساعة معينة للبدء . فالأغاني التي تذاع يمكن أن تطول فترتها أو تقصر حسب تقدير العاملين في المسرحية . كذلك يتم اختيار هذه الأغاني في زمن تقديم العمل ، ووفقا للظروف التي يقدم فيها .
زبون 1 : ( يصفق ) يا أبو محمد .
الخادم : نعم .
زبون 1 : فنجان شاي تقيل ونارة .
الخادم : حاضر.
( تنتهي أغنية ، وتبدأ أغنية أخرى .. الضوضاء تنتشر في المقهى . كلام وأحاديث جانبية وقرقرة نراجيل وسعلات جافة … وأحيانا نسمع بعض الحوارات الجانبية التي تعلو فوق الأغنية ) .
زبون 2 : صحيح شفت اليوم أبو إبراهيم وبعث لك سلام معي .
زبون 3 : الله يسلمك ويسلمه . كيف حاله ؟.
زبون 2 : مسكين ما يزال مهموما ، ولا يعرف كيف يدبر أحواله .
زبون 3 : الله يساعده ويساعدنا ومن منا خال من الهم ؟.
زبون 2 : في هذه الأيام … والله لا أحد .
زبون 4 : يا أبو محمد .. هات اثنين شاي .
الخادم : ( مقتربا بصينية الشاي من زبون 1 ) حاضر.
زبون 1 : الشاي خفيف .
الخادم : هذا خفيف ., والله مثل الدبس على كل هل تريد أن أبدله ؟.
زبون 1 : لا ماشي الحال .
( تسود ضجة الأغنية فترة ، يبدو فيها الحاضرون ، وكأنهم يصغون باستمتاع . تظل الروؤس تتقارب في أحاديث جانبية ).
زبون 4 : تأخر مونس الحكواتي . ما القصة ؟.
الخادم : لا تخف العم مونس كالساعة لا يقدم ولا يؤخر بين لحظة ولحظة تراه يحمل كتابه.
زبون 3 : والله نعيش من قلة الموت .
زبون 2 : ماذا نفعل ؟ الأمر بيد الله والمهم سترة الآخرة .
زبون 1 : نارة ..
الخادم : حاضر .
( تنتهي أغنية وتبدأ أغنية جديدة ).
زبون 5 : ألن يأتي العم مونس اليوم ؟.
زبون 1 : لم يتخلف يوما منذ عرفناه .
الخادم ( وهو يضع جمرة على نرجيلة الزبون ) لا ريب أن العم مونس آت كعادته .
( الوصلة الغنائية مستمرة ، ومعها ضوضاء المقهى . الخادم لا يكف عن الدوران حاملا إما صينية شاي أو موقد الفحم . ).
زبون 4 : اليوم سيبدأ العم مونس حكاية جديدة .
زبون 2 : حكاية البارحة كانت قاتمة النهاية .
زبون 3 : من زمان .. ما سمعنا من العم مونس حكاية تفرح السامع .
الخادم : ( من طرف المقهى ) ها هو العم مونس . كل الزبائن ينتظرون تشريفك.
أصوات : ( تتدافع وتحدث جلبة مختلطة ).
– أهلا وسهلا .
– جاء العم مونس.
– بان القمر .
– السهرات مضجرة لولا رواياتك.
الحكواتي : ( رافعا يده للجميع ) السلام عليكم (يتقدم بحركة متباطئة حاملا بيده كتابا سميكا وعتيقا).
الزبائن : ( معا ، وبشكل متفاوت ) وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
زبون 2 : أي والله .. لولا العم مونس ما كنا نعرف كيف نقضي السهرة .
الحكواتي : من ألطافكم .
( العم مونس رجل تجاوز الخمسين . حركاته بطيئة . وجهه يشبه صفحة من الكتاب القديم الذي يتأبطه . التعابير في ملامحه ممحوة ، حتى ليحس المرء أنه بإزاء وجه من شمع أغبر . عيناه جامدتا النظرة ، ورغم اختباط لونيهما ، فإنهما توحيان بالحياد البارد . على العموم … أهم تعبير يمكن أن نلحظه في وجه مونس الحكواتي هو الحياد البارد ، الذي سيحافظ عليه تقريبا خلال السهرة كلها ) .
زبون 5 : اقفل الراديو ما دام العم مونس قد وصل .
الخادم : سنقفله .. سنقفله . ولكن دعوا العم مونس يشرب فنجانا من الشاي ، ويرتح قليلا قبل أن يبدأ .
الزبائن : والله حق .
شاي للعم مونس.
وهات لنا أيضا شاي .
( تخفت الأغنية ، ثم تتوقف بعد وقت . يأخذ العم مونس مكانه ، ويضع كتابه في حجره مواجها الزبائن الذين بدأوا يعدلون من أوضاعهم ، ويزيحون الكراسي ، كي يكونوا في مواجهة الحكواتي ، وأكثر تهيؤا للاستماع إليه . كل شيء يتم بعفوية الخادم يحضر الشاي للعم مونس ) .
زبون : هات نارة يا أبو محمد .
زبون 2 : ( وهو يخرج من جيبه ورقة ملفوفة ) وخذ هذا التنباك … حضر لي نفسا على ذوقك .
( الخادم يروح ويجىء موزعا كلمة ” حاضر ” لكل طلب جديد ).
زبون 3 : أي .. وماذا يحمل لنا العم مونس هذه الليلة ؟.
زبون 2 : هذه المرة جاء دورها .
زبون 3 : تقصد السيرة .
زبون 2 : طبعا سيرة الظاهر . نفد صبرنا ، ونحن ننتظرها .
زبون 1 : أي والله صار أوان سيرة الظاهر بيبرس .
زبون 3 : يا عيني على أيام الظاهر .
زبون 1 : أيام البطولات والانتصارات.
زبون 3 : أيام الأمان وعز الناس وازدهار أحوالها .
زبون 2 : من زمان ونحن ننتظر سيرة الظاهر .
زبون 1 : أي يا عم مونس .. هل تحمل سيرة الظاهر أم لا ؟ .
الحكواتي : ( بهدوء يشرب الشاي ) ما جاء دور الظاهر بعدا .
الزبائن : ( أصواتهم مختلطة ) – ما جاء دور الظاهر بعد.
– ننتظرها منذ نهاية الصيف الماضي.
– كل مرة نطلبها تقول ما جاء دور الظاهر بعد.
– بالله قل لنا.. متى سيأتي دور الظاهر إذن ؟.
الحكواتي : قدامنا حكايات كثيرة ، قبل أن نصل إلى سيرة الظاهر .
زبون 1 : اقلب هذه الحكايات ، وافتح كتابك على سيرته .
زبون 2 : جفت قلوبنا يا رجل ، نريد أن نسمع عن البطولات .
زبون 3 : وأخبار الانتصارات .
زبون 1 : نريد أن نسمع عن الحق الذي يغلب الباطل .
زبون 5 : والعدل الذي يغلب الظلم .
زبون 3 : يا عيني على أيام الظاهر .
زبون 1 : اقلب صفحات كتابك يا عم مونس ، وافتح على سيرته .
الحكواتي: ( الصوت الهادئ نفسه ) الحكايات مربوطة بعضها ببعض لا تأتي واحدة قبل الأخرى . سيرة الظاهر يجىء دورها عندما نفرغ من قصص الزمان الذي بدأنا حكايته .
زبون 2 : أي زمان .
الحكواتي : زمان الاضطراب والفوضى .
زبون 2 : هذا الزمان نعيشه .
زبون 1 : نذوق مرارته كل لحظة .
زبون 3 : قلا أقل من أن ننسى همنا في حكاية مفرحة .
زبون 2 : حكاية البارحة كانت كئيبة يسود لها قلب السامع .
الحكواتي : هذه الحكايات ضروية .
الزبائن : ضرورية .
الحكواتي : وينبغي أن نرويها ..
زبون 2 : لماذا ينبغي أن ترويها ؟.
الحكواتي : لأنها في تسلسل الكتاب ، هي التي تقود إلى زمن الحكايات.
المفرحة . لكل شيء أوان ، وسيرة الظاهر دورها بعد قصص هذا الزمان لا تخافوا .. ستأتي سيرة الظاهر ، وستسمعونها خلال سهرات وسهرات . لكن القصص مرهونة بتسلسلها وأوانها . لكل قصة أوان ( يفرغ من فنجان الشاي ) والآن .. نفتح الكتاب ، ونبدأ بالسلام على النبي …
الزبائن : ( في طبقات صوتية متفاوته ) – اللهم صل على النبي – ألف الصلاة والسلام على النبي .
زبون 1 : وإذن خاب الأمل بسماع حكاية الظاهر .
زبون 3 : يا سيدي ما دام العم مونس موجودا ، سنسمعها عاجلا أم آجلا .
زبون 2 : ألم ينته تحضير النفس يا أبو محمد ؟.
الخادم : حالا .
زبون 1 : إنما الرجاء الآن أن تكون الحكاية طيبة .
الحكواتي : تسمعون وتحكمون بأنفسكم .
الزبائن : يا الله يا سيدي ..
– هات واسمعنا .
الحكواتي:( يبسمل بصوت خافت ، وعندما يبدأ القراءة يتضح جيدا الحياد البارد ، الذي ينضح من صوته ومن تعابير وجهه كلها ) يا سيادة يا كرام … قال الرواي وهو الديناري رحمه الله تعالى …
الزبائن : آمين .
– والله تستحق روحه الرحمة.
– حكايات الديناري .
– حبل لا ينقطع .
الحكواتي : قل الراوي .. كان في قديم الزمان وسالف العصر والأوان خليفة في بغداد يدعى شعبان المنتصر بالله وله وزير يقال له محمد العبدلي . وكان العصر كالبحر الهائج لا يستقر على وضع . والناس فيه يبدون وكأنهم في التيه . يبيتون على حال ويستيقظون على حال . تعبوا من كثرة ما شاهدوا من تقلبات ، وما تعاقب عليهم من أحداث . تنفجر من حولهم الأوضاع فلا يعرفون لماذا انفجرت ثم تهدأ حينا من الزمن فلا يعرفون لماذا هدأت . يتفرجون ، ثم تهدأ حينا من الزمن فلا يعرفون لماذا هدأت . يتفرجون على ما يجري ، لكنهم لايتدخلون فيما يجري . ومع الأيام اعتقدوا أنهم اكتشفوا سر الأمان في مثل هذا الزمان ، فقنعوا بما اكتشفوا ، ورتبوا حياتهم على أساس ما اعتقدوه أسلم الطرق إلى الأمان .
( يدخل خمسة ممثلين .. ثلاثة رجال وامرأتان .. يمثلون جميعا أهالي بغداد في ذلك الزمان ، يتقدمون من الزبائن ، ويتورعون أمامهم… ).
الرجل الأول : وعندما يسمى الخليفة لا أحد يطلب من عامة بغداد رأيا أو نصيحة .
الرجل الثاني : وعندما يسمى الخليفة وزيره يأمرنا بطاعته .
المجموعة : فنطيعه .
الرجل الثالث : وإن غضب الخليفة من وزيره ، وأفلح في عزله .
المجموعة : أيدنا الخليفة ، وأعرضنا عن وزيره .
الرجل الثاني : وكذلك الحال بالنسبة لقاضي القضاة .
الرجل الثالث : وكذلك الحال بالنسبة للقواد والولاة .
المجموعة : لا يطلبون من عامة بغداد رأيا أو نصيحة .
الرجل الأول : ويأمروننا بالبيعة .
المجموعة : فنبايع .
الرجل الثاني : ويأمروننا بالطاعة .
المجموعة : فنطيع .
المرأة الأولى : ذلك هو سر الأمان في هذا الزمان .
الرجل الثالث : تعلمناه من الجلادين وسياطهم المرصعة بالمسامير .
الرجل الأول : ومن حراب الحراس وعيونهم الزجاجية .
المرأة الثانية : ومن السجون التي لا تنفتح أبوابها إلا إلى الداخل .
المرأة الأولى : من أين نطعم أولادنا ، إن اهترأ رجالنا تحت السياط ووخز الحراب .
المرأة الثانية : وماذا نفعل إن انطبقت أبواب السجون على أحبتنا ؟.
الرجل الثالث : وتعودنا تغير الأوضاع .
الرجل الثاني : وتعاقب الخلفاء الوزراء .
المرأة الثانية : وقتل الرجال لأتفه الأسباب .
المرأة الأولى : وغياب رجال لكذبة أو وشاية .
الرجل الثالث : مالنا نحن وشؤون السادة .
الرجل الأول : يأمروننا أن نبايع .
المجموعة : فنبايع .
الرجل الثاني : يأمروننا أن نطيع .
المجموعة : فنطيع .
الرجل الثالث : وفي هذا العصر المضطرب من يعرف اليقين ؟.
المجموعة : ونحن عامة بغداد آثرنا السلامة والأمان ننزف دماءنا الليل والنهار بحثا عن لقمة العيش .
ومحظوظ من تتوفر له في بغداد لقمة العيش .
( بحركات بطيئة ينسحب الممثلون خارجين من المكان ).
زبون 2 : إي والله كأن الأحوال لا راحت ولا جاءت .
زبون 3 : يا سيدي من زمان هذا هو طريق الأمان .
زبون 4 : هات واحد شاي كمان .
الخادم : حاضر .
الحكواتي : هكذا حال الناس في بغداد في سالف العصر والأوان حين كان الخليفة شعبان المنتصر بالله ووزيره محمد العبدلي على وفاق . وكذلك كان حالهم حين بدأ بينهم الخلاف والشقاق . وفي البداية كان الخلاف سرا ، ثم انفجر ، وبدأ يشيع في ردهات القصور ، وينتقل منها إلى المدينة وأسماع الناس . وكان عند الوزير محمد العبدلي مملوك يقال له جابر . ولد ذكي .. وذكاؤه وقاد . أينما حل يحل معه اللهو والمجون . وكان كأهل بغداد آخر من يعينه ما يجري بين الخليفة وسيده الوزير .