بقلم حسن منيمنة/
واجهت الثقافة الغربية ابتداء من القرن التاسع عشر مسألة تطال صلب الإطار المعرفي الذي شكل أساسا لحضارتها. فبعد أن كان “الكتاب المقدس” بعهديه القديم والجديد، بصفته النص الملهم من الإله الخالق، هو نقطة الانطلاق للتأمل العلمي في كافة المجالات، بدأت العلوم العقلية والاختبارية تراكم الرصيد الذي يبتعد عما قرره النص الديني، في العلوم الطبيعية طبعا، مع نظرية النشوء والارتقاء، ومع تبين عدم مركزية الأرض فلكيا، ولكن أيضا في السردية التاريخية والحضارية للإنسانية.
فالسردية الدينية “الكتابية” قائمة على تسلسل خطي، يبتدئ بخلق “آدم” (الرجل الأول على صورة الإله، و”حواء” زوجته من ضلعه)، ثم رسوبه إلى الأرض، وفساد ذريته، ثم الطوفان الذي أباد الجميع إلا “نوح” وأسرته، ثم عودة البشرية إلى الفساد، ثم بعثة “إبراهيم” وامتحان طاعته لربه واصطفاء ذريته ورحيلهم إلى أرض كنعان، ومنها إلى مصر حيث كان استرقاق أبنائهم، قبل تكليم الرب لـ”موسى” والخروج بما تلا من أجيالهم إلى أرض الميعاد، حيث كان لهم الفتح فالعز والسلطان في عهد “داود” و”سليمان”، قبل السبي إلى بابل ومن بعده عودتهم إلى يهودا وبناء “المعبد الثاني”، ثم ظهور “يسوع المسيح” في وسطهم وفداؤه الإنسانية كلها وقيام الكنيسة الجامعة للتبشير في كامل المعمورة تمهيدا لظهوره الثاني والدينونة.
فاتضاح علوم الطبيعة، واتساع الادراك المشهود لما يطال الحيوان والنبات من انقراض، ثم انكشاف سجل حياتي واسع من الكائنات المتحجرة، فرض مراجعة للفصل الأول على الأقل من السردية الكتابية. فهل إن “آدم” شخصية كان لها وجود حقيقي، كما يصرّح النص وكما يصر المتمسكون بحرفيته؟ أم هو رمز يتطلب التأويل؟ في حين أن السجال لم يحسم بالنسبة للجميع، إلا أن التصور الغالب في الحضارة الغربية هو أن الغرض من قصة آدم وحواء هو تصوير الحالة الإنسانية (ولا سيما في مسائل الطاعة والشهوة والإرادة) وليس توثيق فعل الخلق، فكان بالإمكان إخراج هذا الفصل من صلب المادة العلمية المعتبرة واستبداله بنظريات متتالية تختلف عنه بأنها لا تدعي الكمال والثبات بل تندرج في إطار البحث المتواصل والذي يجهد للاقتراب تباعا من الحقيقة.
غير أنه كان ثمة إصرار في القرنين الماضيين على تأكيد صحة (ما تبقى من) السردية “الكتابية”. وعليه كان السعي إلى إيجاد ما يبرهن عن صدق قصة طوفان نوح، وبدا لوهلة أنه ثمة ما يساند هذا السعي في الآثار التي كشف عنها التنقيب وفي القراءة الأولية للنصوص المسمارية وغيرها من المواد التي أخذت المنهجيات العلمية في تبيانها. غير أن القليل المساند، وهو ما يزال إلى اليوم مخزونا للاستدعاء السجالي لدى المتمسكين بحرفية السردية الدينية، قابله الكثير الناقض الذي ينتفي معه طرح “الطوفان” كحقيقة تاريخية إلا من باب التقرير غير المعني بالوقائع. كان التسليم إذن، في الأوساط العلمية، بوجوب وقف اعتبار فصل الطوفان كوقائع. وانتقلت المواجهة إلى خط التأكيد التالي، إبراهيم وترحاله كجزء من هجرة مفترضة لشعوب آرامية من بلاد الرافدين إلى أرض كنعان، وفق ما كان ابتدأ يتشكل في السردية التاريخية الوقائعية لتاريخ الشرق الأدنى. ولكن نظرية الهجرة هذه تبدلت، وكان لا بد كذلك من التخلي عن فصل إبراهيم وإسحاق ويعقوب كحقائق تاريخية، على الأقل بالنسبة للمؤرخين المنهجيين، وإن بقيت أشكال من هذه القصة في التداول العام. بل يمكن هنا استشفاف أصول الانفصال في الثقافة الغربية بين السردية التاريخية الوقائعية القائمة على المنهجية العلمية، والسردية التاريخية العامة والتي تركت لحالها إلى حد كبير في أقدار من الاعتماد على السردية الدينية الكتابية القديمة.
إن المحاولات الفكرية العربية القليلة التي خاضت غمار الفجوة بين السجل الوقائعي والسردية الكتابية في الثقافة الغربية حاولت أن تحصّن الاستيعاب الإسلامي للسردية الكتابية إزاء النقد
وهذا التباعد قد استمر إلى حد التناقض غير المصرح به خارج الأوساط الجامعية المتخصصة، بين استمرار اندراج فصول السردية الكتابية في الثقافة الشعبية فيما هي قد أسقطت من السردية التاريخية الوقائعية. بنو إسرائيل في مصر؟ لا دليل على ذلك البتة في السجل الوثائقي لمصر القديمة على اتساعه. خروج وتيه وفتح لأرض الميعاد؟ مجددا لا دليل، فيما المادة المتوفرة تتحدث عن واقع تاريخي مختلف تماما. ممالك لدواد وسليمان ومعبد في أورشليم؟ كذلك الحال، الدليل منعدم، رغم التأني في البحث الآثاري الذي نخل طبقات الأرض وغربلها. السبي إلى بابل؟ هنا تبتدئ إمكانية استقراء النصوص الموجودة لمحاكاة بعض المتحقق وقائعيا، إنما بصيغة القرائن لا الأدلة، مع إمكانية طرح القراءات البديلة. يبقى على أي حال أنه ليس في السجل الآثاري في الشرق الأدنى، على ثرائه وضخامته، لما قبل القرون الثلاثة السابقة للمسيح، ما يوافق السردية الكتابية إلا من باب الظن على أحسن حال.
الثقافة الغربية، تفاعلت إذن بشكل عام مع التعارض القائم بالحرص على الفصل بين مقام السردية الوقائعية في البحث المنهجي والتقرير العلمي، ومقام السردية الكتابية كمادة ثقافية تراثية ودينية مطروحة للاستدعاء والاستفادة والتقييم وفق اعتبارات لا تتمحور حول العلمية بل تتخطاها إلى الترابط الثقافي والاجتماعي والروحي. وحين سعى بعض المتحمسين للعلم في تمديد حكمه فوقيا إلى هذه المقومات الثقافية، ظهرت الدعوات الإلحادية الفجة التي تعتمد التسفيه بحجة العقلنة، وتمعن بالاستخفاف بما يشكل أرضية أخلاقية وسلوكية ووجودية بالنسبة للعديدين. وحين انتقل بعض المعترضين على تراجع الاعتماد على فصول السردية الكتابية في المشترك الثقافي من الدفاع إلى الهجوم، عبر الإصرار على استمرار مرجعية النص الكتابي إطلاقا، برزت حالات مناقضة للعلم دون اعتبار للوقائع الثابتة والأدلة البينة، كما في الدعوة إلى مساواة النشوء والارتقاء بنظرية “التصميم الذكي”، أي الخلق الإلهي بالصيغة الساترة للخلفية الدينية، في المناهج التعليمية.
أما الثقافة العربية، والثقافات التي يبرز فيها الإسلام عامة، فالغالب أنها قد نأت بنفسها عن التطرق الجدي إلى التجربة الغربية في موضوع السرديات التاريخية، إلا من باب الاستفادة الموضعية. يذكر هنا مثلا أن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات قد أشار يوما إلى حقيقة الانتفاء، من وجهة نظر وقائعية، لمعبد أورشليم الكتابي الأول. لم يكن ذلك طبعا من باب حرص عرفات على نقاء المنهجية العلمية، بل كان توظيفا وحسب في سعي للطعن بالصهيونية، بشكل خارج السياق على مستويات عدة.
والواقع أن قدامى المؤرخين العرب كانوا قد استوعبوا السردية الكتابية مع تعديلها لتتوافق مع النص القرآني، وذلك للتحضير لنسخة إسلامية مبنية عليها، تضع الرسالة المحمدية بين الفصلين الأخيرين منها (أي ظهور المسيح، مع تعديل لدوره، والملاحم والفتن). فما يطال الأصل، أي السردية الكتابية، من النقد والنقض، يصل كذلك إلى الفرع، أي السردية الإسلامية. غير أن التفاعل مع هذا التحدي لم يتحقق.
بل إن المحاولات الفكرية العربية القليلة التي خاضت غمار الفجوة بين السجل الوقائعي والسردية الكتابية في الثقافة الغربية حاولت في أكثر من موقع، ضمنا أو صراحة، أن تحصّن الاستيعاب الإسلامي للسردية الكتابية إزاء النقد. فمثلا مشروع المؤرخ الراحل كمال الصليبي في إعادة اعتبار نصوص العهد القديم ثم الجديد مع إهمال قيود السردية الكتابية، أنتج قراءة جريئة مسقطة للتصور الغربي (الديني كما العلمي)، ولكنها قابلة للتطويع، وإن ببعض التكلف، لتبقى منسجمة مع الصيغة القرآنية (أو حتى مع المقتضى السياسي العربي). فبدلا من أن يصبح المشروع ثورة على الفكر الراكد جرى استنساخه لمحاكاة مقولة تحريف الكتاب المقدس مقابل صحة النص القرآني.
التطويع العقائدي للتاريخ العربي ليس ظاهرة مقتصرة على القراءات الإسلامية، إذ سبقها إلى هذا المنحى الإصرار القومي العربي على استيعاب التاريخ السابق للإسلام بالصيغة الدامجة
ثمة من اجتهد في التماهي مع مسعى المعترضين في الثقافة الغربية على إسقاط اعتبار فصول السردية الكتابية من صلب الثقافة. هارون يحيى، على سبيل المثال، مؤلف تركي لمئات الكتب المترجمة إلى العديد من اللغات والتي تقرر صدق القصص القرآني حرفيا، مدرك للتحدي ومتصد له. أما معظم النتاج الفكري العربي فيرفض التحدي ابتداء، بل يعتمد عناصر متممة للسردية الإسلامية المشتقة من السردية الكتابية. فالقناعة المتبينة استقرائيا في الثقافة العربية، حتى خارج الأوساط المتدينة، هي أن العرب هم أحفاد إسماعيل ابن النبي إبراهيم، والإشارات، وإن رفضت السردية الكتابية (على أنها مؤسِسة للطرح الصهيوني من خلال مقولة أرض كنعان الموعودة لذرية يعقوب ابن إسحاق ابن إبراهيم)، فإنها قد تطرح بديلا معدلا عنها، يضع أصل العروبة في انتماء أكثر صحة افتراضا لإسماعيل ومنه لإبراهيم، لتمسي معه السردية الكتابية تشويها لواقع تاريخي مقرّر (منسجم مع القناعات الإسلامية)، وإن لم يجرِ تفصيله.
أما وقائعيا، فليس من دليل على أن العرب كانوا يتداولون القول بأنهم من ذرية إسماعيل بأية صيغة قبل تهود البعض في اليمن في القرون القليلة السابقة لولادة رسول الإسلام. فالنقوش “الصفاتية” المنتشرة في أصقاع الجزيرة العربية، والتي خطت على مدى قرون طويلة قبل الإسلام، وغالبها الساحق أسماء المارين حيث معالمها، والكثير من هذه الأسماء ما تزال معروفة اليوم، تكاد تخلو بالكامل من أي اسم مصدره الكتاب المقدس، أي لا إبراهيم ولا إسماعيل ولا زكريا ولا يعقوب ولا يونس، ولا أي اسم كتابي أو قرآني من أصل كتابي.
ولكن، في حين ارتضت الثقافة الغربية بالتعارض الهادئ، إذ عملت على موازنة منهجيتها العلمية، الغالبة في تشكليها للسردية التاريخية الوقائعية، وحاجات مجتمعاتها الثقافية، والمتطلبة لاستمرار اللجوء إلى فصول ولوحات من السردية الكتابية، فإن الثقافة العربية تبدي ميلا باتجاه الشمولية التأحيدية.
فالثقافة العربية، أو البعض منها، تقرر اليوم أن التاريخ هو كما عنونه الطبري بالأمس، في أوج السردية الإسلامية المتفرعة من السردية الكتابية، أي أنه تاريخ “الرسل والملوك”. وهي بذلك تدمج تلقائيا مادتين مستقاتين من مصادر ذات طبيعة مختلفة: مادة دينية منقولة لا دليل عليها في سجل الآثار ولا هي تتطلب الدليل، إذ أنها يقينية مع تحقق الإيمان، ومادة تاريخية، حكمها التصديق بعد الفرز والتدقيق، وأساس الرواية فيها النقل، فيما هي عرضة للتصحيح والتعديل وفق ما تبينه المنهجيات العلمية المعتمدة.
والمعضلة ليست في وجود المادتين، بل في السعي إلى التوفيق القسري بينهما، رغم عدم تجانسهما. إذ لا توفيق بين اليقيني والتصديقي، بل تطويع وحسب للتصديقي ليوافق اليقيني. أي أن الاعتبار المتلاصق للمادتين يفرض على المؤرخ أو الباحث أو القارئ التخلي عن المنهجية العلمية إلا في حال تأكيدها للمادة الدينية اليقينية. ومقولة صحة المنهج بناء على أنه لا خلاف ابتداء بين هذه وتلك هي مقولة إيمانية بحد ذاتها.
لا توفيق بين اليقيني والتصديقي، بل تطويع وحسب للتصديقي ليوافق اليقيني
فمقررات التاريخ الإسلامي في معظم الأحيان تتبع هذه المنهجية التطويعية سواء في إدراج قصص الأنبياء في خانة التاريخ المتوافق عليه، أو حتى في إعادة النظر بمصنفات السلف لاستخراج القراءة المتوافقة مع اليقين الديني. فهذه سيرة ابن هشام، وهي الأصل الأول المتبقي من السيرة النبوية، تخضع لـ”تهذيب” يفنّد ويسقط ما لا ينسجم مع القناعة الابتدائية بشأن مادتها. والمنهجية التطويعية لا تقتصر على القراءة التاريخية، بل هي تنتج مؤلفات ضخمة حول “علم الطب القرآني” و”علم الفلك القرآني” في فعل يراد منه تبجيل الكتاب فيما هو يقحمه بتقويله ما لم يقله ليتوافق مع تصور آني لحال العلم في المجالات المختلفة.
والواقع أن التطويع العقائدي للتاريخ العربي ليس ظاهرة مقتصرة على القراءات الإسلامية، إذ سبقها إلى هذا المنحى الإصرار القومي العربي على استيعاب التاريخ السابق للإسلام بالصيغة الدامجة، إذ جاء الحديث عن “العرب الكلدان” و”العرب الأشوريين” و”العرب الكنعانيين”. والقرابة بين هذه الشعوب واضحة للعيان، غير أن اختيار الجزء لتسمية الكل يؤسس للتوجهات التطويعية ويبررها. ليس غريبا بالتالي أن تشهد مرحلة ما بعد أفول القومية إعادة إحياء لسردية قدامى المؤرخين المتجذرة في السردية الكتابية.
والقضية المتحققة في الثقافة العربية اليوم هي كالتالي: عدم إدراج القصص الديني في السردية التاريخية يعتبره البعض التفافا على الدين وسعيا مرفوضا لإقصائه عن الثقافة والحياة، فيما الدمج بينهما يرى فيه البعض الآخر إطاحة بالمنهجية العلمية وتسطيحا للتاريخ وتسكيتا للفكر. ليس من سبيل مطلق إلى حل هذه القضية، غير أنه لا بد من الإشارة إلى تبادل أدوار في التعاطي مع المسألة المعرفية بين الثقافتين الغربية والعربية (أوليست هذه وتلك وجهان ثقافيان ضمن الحضارة الغربية العالمية الواحدة؟). ففي أمسها، كانت الثقافة العربية، أو الأصح ما سبقها من ثقافات حيث هي اليوم، تحفل بالسكوت عن التعارضات، بل ترضى جهارا بها في أكثر من موقع، فيما كانت الثقافة الغربية، والأصح كذلك سابقتها الأوروبية المسيحية، تصر على شمولية إقصائية اجتثاثية. أما اليوم، فكل إلى سابق شقيقتها أقرب.
تنتفي حاجة التوفيق المحال بين القصص الديني والتاريخ الوقائعي حين تبلغ الثقافة حال القناعة بأن المادة الأولية لكل منهما مختلفة، فالأولى ثابتة إيمانية والثانية متحولة نظرية، وأن الغاية من كل منهما كذلك مختلفة، فالثانية غرضها وهدفها الخبر، فيما الأولى تسعى إلى العِبَر. والثقافة العربية، بما يعتريها من التطفل الشمولي، ليست اليوم عند هذه القناعة. غير أن طول افتقادها لها يمعن بالأذى بها، علما ودينا.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال