عمليًا، ومجازًا، يمكن لنا أن نقول إن مصر في السنوات الخمس الماضية مرت بثورتين؛ الأولى أقصت حسني مبارك من الرئاسة وغيرت رأس النظام القديم، والثانية عزلت محمد مرسي وألغت حزب الإخوان المسلمين من كل العمل السياسي. وفشلت «الثورة» الثالثة، التي حاولت تحقيق ثورة شارع جديدة في مصر، من أجل أيضًا تغيير النظام الحالي، وإعادة «الإخوان» للحكم.
للقيام بثورة شارع ثالثة، شن التنظيم الإخواني أكبر حملة إعلامية وسياسية في تاريخه، تم توجيهها على الداخل المصري، مع ترديد صداها خارجيًا، في وسائل الإعلام العربية والدولية. دوليًا، اشتغل كثيرًا على استمالة الجمعيات الحقوقية، ومراكز الأبحاث، وكذلك مؤسسات حكومية غربية، بما فيها وزارات الخارجية في الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة. ونجحت الحملة في إيصال قضيتهم إلى نشرات الأخبار، وأكسبتهم تعاطف بعض المنظمات الدولية غير الحكومية. ومن أجل ترميم «شرعية حكم الإخوان»، عُقدت ندوات، وجربت بعض الحكومات الغربية ممارسة ضغوطها على الحكومة المصرية لإلغاء الحظر على نشاطهم السياسي لكنها لم تفلح.
أما لماذا فشل مشروع الثورة الثالثة؟ لأنه عجز عن استنهاض الشارع المصري ضد الحكومة، ولم ينجح في معاقبتها دوليًا، وأخفقت الضغوط الخارجية في وقف المحاكمات، أو العفو عن أي من القيادات المسجونة.
أيضًا، فشلت الحملة الإعلامية رغم ضخامتها، فقد أطلقت محطات تلفزيونية جديدة خصيصًا لتحريك الشارع، وتضامنت معها محطات كبيرة، وصحف ومواقع إلكترونية، وأمطرت حملات «فيسبوك» و«تويتر» الشباب، تحثهم على الخروج والتغيير، وأبرمت عقود مع شركات علاقات عامة غربية للتضامن مع «الإخوان» ضد النظام المصري، ولم تفلح أيضًا.
وفشلوا حتى في استغلال العنف، الذي نفذته الجماعات المتطرفة في سيناء وخارجها، الذي جاهر بعض «الإخوان» بتبريره، وبنوا عليه نظرية تقول إن «إيصال الإخوان للحكم هو الحل الوحيد حتى لا يجتاح الإرهاب مصر». أيضًا فشلت المحاولة.
فإذا هم أخفقوا في الضغط على النظام، دع عنك فكرة تغييره، فإن السؤال المنطقي يوجه لقياداتهم في الخارج، لماذا؟ وهي التي احترفت العمل السياسي المعارض منذ عقود!
رأيي أن «الإخوان» يعرفون استحالة قدرتهم على إحداث التغيير السريع، عبر الشارع أو الانقلابات. هم، كحركة آيديولوجية، يؤمنون بنظرية التغيير من أسفل، من الجذور، عبر التعليم والإعلام والثقافة والمساجد والنقابات والنشاط المجتمعي الخيري والدعوي وغيره. لكنهم هذه المرة قفزوا إلى ساحة المعركة انتهازًا لفرصة الخلافات الإقليمية وركوبها، رغم اختلاف الغايات.
وكلا الطرفين؛ «الإخوان» والقوى الإقليمية، ارتكبا أخطاء حسابية كبيرة. فالاعتقاد بإمكانية مواجهة المركز في مصر، الجيش والدولة، خطأ لا يقع فيه إلا هاو. ومحاولتهم قياس ما حدث للرئيس المعزول حسني مبارك في ثورة يناير (كانون الثاني) 2011. الذي اهترأت وشاخت قيادته وجهازه الإداري، على أنه قابل للتكرار لاحقًا، خطأ آخر، ويعني أنهم لم يفهموا حقيقة ما حدث في يناير. فلو لم يكن الجيش مساندًا لعملية إزاحة مبارك، الأرجح أنه ما كان ممكنًا تغييره، ولا نجحت الثورة كلها حينذاك.
قادة «الإخوان»، الذين كان دورهم في تلك الأحداث التاريخية محدودًا ومتأخرًا جدًا، هل حقًا صدقوا بأنهم قادرون على إخراج مليون مصري من بيوتهم إلى الشارع وتحقيق ثورة ثالثة؟ أم أنهم يدركون ذلك لكن المشروع لغيرهم، ومطلوب منهم، كما قال لي أحدهم؟ لا أدري عن الدوافع، المهم النتيجة. فرغم التحفيز والتشجيع والتحريض، لم تخرج المظاهرات الموعودة. قد يبررون فشلهم بأن الأمن منعهم، وهذا أمر يفترض أنه متوقع، فالأمن حاول منع المتظاهرين قبل خمس سنوات ومع هذا خرجوا وغيروا مبارك. الواضح، عدا عن رفض المؤسسة العسكرية، أن المصريين ملوا من «الإخوان»، وضاقوا ذرعًا من الفوضى التي تنتشر في المنطقة، ويريدون أن يعطوا الحكومة الحالية الفرصة، التي جعلت اهتماماتها ووعودها لهم ليست سياسية، من حريات وديمقراطية، بل معيشية.
ولا بد أن قادة «الإخوان» يعرفون استحالة النجاح في مواجهة الدولة المركزية المصرية، إنما شعروا بأنهم أمام فرصة نادرة بوجود دعم خارجي عربي وإقليمي وغربي، تولى تمويلهم في أنحاء العالم، ونقل قضيتهم إلى المحافل السياسية، وهندس نظرية تقول إن «الإخوان» في الحكم مشروع سياسي وديني وأمني ذكي في مواجهة تصاعد التطرّف وتنظيماته الإرهابية. طبعًا، النظرية ليست منطقية من مشاهدتنا لتاريخ النظام الديني الإيراني، ولا واقعية من تجربة إخفاق «الإخوان» أنفسهم في مصر. وأتصور أن فشلهم، هذه المرة، سيؤجل حظوظهم إلى ما وراء عشر سنوات لاحقة. فلا مكان لـ«الإخوان» في ساحة السياسة العربية، إلا إذا قرروا تبني أفكار جديدة، مثل إلغاء مفهوم التنظيم الأممي، الذي لا يشاركهم فيه سوى «الاشتراكية العالمية» البائدة وتنظيم داعش. فالأممية تنقض الوطنية، أن تكون أردنيًا أو كويتيًا أو يمنيًا أو سعوديًا شرط للانتماء في الدولة الحديثة. وكذلك ضرورة تمدين «الإخوان» لرؤيتهم حيال قضايا اجتماعية كثيرة، بشكل علني وتطبيقي. أخيرًا: «الإخوان» يحتاجون أولاً إلى ثورة داخل تنظيم «الإخوان».
*نقلاً عن “الشرق الأوسط”