رئيسان أميركيان أبديا إعجابهما به في البداية، ثم ما لبثا أن انقلبا عليه. باراك أوباما ودونالد ترمب. والآن قبل أن يصبح «سلطاناً» تدهورت الليرة تحت قدميه.
يوم الاثنين الماضي اتهم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان الولايات المتحدة بالسعي لطعن تركيا في ظهرها، بسبب الخلاف الدبلوماسي الذي أثاره احتجاز قس أميركي.
وفي مقال افتتاحي لصحيفة «نيويورك تايمز» يوم الأحد الماضي، كتب إردوغان أن الشراكة بين أميركا وتركيا في خطر. لم يكن الخلاف بين واشنطن وأنقرة نتيجة للقنبلة التي فجرها ترمب عبر تغريدة لمضاعفة العقوبات، فمع التضخم المتعثر، والعملة المحتضرة، والديون المتراكمة بالدولار الأميركي، كان الاقتصاد التركي يترنح على حافة الهاوية، كل ما فعله ترمب أنه حرك ذلك الواقع.
كان اقتصاد تركيا في حالة سيئة قبل أن تصلها عقوبات ترمب، وحتى قبل الأسبوع الماضي كانت الليرة من بين أسوأ الأسواق أداء مقابل الدولار، في المرتبة الثانية بعد البيزو الأرجنتيني. والضعف في الليرة أكثر إثارة للقلق في ظل المستويات المرتفعة للديون الخارجية التركية وكلها بالدولار.
ترمب في البداية أعطى إردوغان علامات مرتفعة جداً من الإعجاب، فهو معجب بالرجال الأقوياء. لكن الأزمة بين مؤسسات البلدين قديمة وتدهورت الأسبوع الماضي لأن ترمب اعتقد أنه توصل إلى اتفاق مع إردوغان على هامش قمة الدول السبع. طلب إردوغان أن يستغل ترمب نفوذه لدى بنيامين نتنياهو كي يطلق سراح سيدة تركية، ابرو أوزكان، سجنتها إسرائيل لعملها مع حركة «حماس». حصل ما أراده إردوغان، وانتظر ترمب أن يفي إردوغان بوعده ويطلق سراح القس الأميركي المسجون منذ عام 2016، فما كان من إردوغان إلا أن أودعه في الإقامة الجبرية. هذا ما دفع ترمب إلى التصويب على إردوغان، ووضع ملف القس اندرو برانسون والعلاقة الأميركية – التركية بين يديه، وبدأ بسلسلة العقوبات التي وصلت إلى وضع تعرفة مرتفعة على الألومنيوم والفولاذ مستهدفاً قطاع البناء. وكان النمو الاقتصادي السابق في تركيا اعتمد كثيراً على قطاع البناء، فإذا تضرر هذا القطاع تضرر الاقتصاد في استيراد هذه المواد.
فقد الاقتصاد التركي توازنه بسبب المشاريع الضخمة التي كانت تعتمدها الحكومة، وكان ذلك قراراً سياسياً جيداً لإرضاء مؤيدي إردوغان، لكن من الجانب الآخر كان ذلك يعني أن الاستدانة من الخارج على المدى القصير ترتفع، إضافة إلى أنه عندما كانت المصارف التركية تستدين كانت الفائدة على الدولار واليورو منخفضة، وبالتالي الاستدانة جذابة، ما نراه الآن أن الفوائد ترتفع وتركيا مثل بقية الأسواق المالية لا تلقى اهتماماً من المستثمرين.
سبب تدهور الاقتصاد التركي يعود إلى الاستبعاد التدريجي للاقتصاديين والخبراء الذين يعرفون حركة الأسواق وسياسة المراقبة المالية، وهنا تكمن جذور المشكلة. وما نراه الآن هو نتيجة تهميش أولئك الناس والاستمرار في المشاريع الضخمة (مطار إسطنبول الأخير)، ومقاومة رفع الفائدة، ويجري الآن الحديث عن إلغاء الأفضلية لتركيا في سوق الولايات المتحدة.
المقاطعة الأميركية ليست السبب في ضعف الليرة، بل عامل سلبي إضافي. ويقول لي أحد الخبراء الاقتصاديين، إن ما يجب عمله لإنقاذ الاقتصاد والخروج من الأزمة هو الاعتراف بالأخطاء السابقة والاعتراف بأن الأزمة ليست بسبب مؤامرات مجهولة من الخارج، ويجب تغيير لغة التخاطب مع الأسواق، وربما حان الوقت للاتصال بصندوق النقد الدولي لحل الأزمة، ويجب أيضاً مراجعة البرنامج الاقتصادي الذي قدمه إردوغان عندما أصبح رئيساً فوق العادة والذي يقول: اصرف، اصرف وسوف تخرج من الأزمة. ما يجب أن تدركه السلطة التركية أن الثقة مفقودة بين المستثمرين وإردوغان، فهو لا يعرف محدودية معرفته المصرفية، من هنا نداء إردوغان لمواطنيه الأسبوع الماضي: «إذا كانت لديكم دولارات تحت الوسادة، أو يورو، خذوها على الفور إلى البنوك واعتنقوا الليرة التركية. إننا نخوض حرب استقلال، فإذا كانوا يملكون الدولارات فإن لدينا الله!». ويوم الاثنين قال رجل الدين أبو بكر سيغيل المقرب من إردوغان، إن استبدال الليرة التركية بالعملة الصعبة والذهب «فرض» ديني على كل مسلم، وهذا وقت حرب.
ينبع ضعف الليرة من مجموعة متنوعة من العوامل، هناك عجز الحساب الجاري المتراكم في البلاد البالغ 57.4 مليار دولار، بارتفاع حاد من 33.1 مليار دولار عام 2013، يرجع جزء كبير من ذلك إلى ارتفاع سعر النفط وتعتبر تركيا مستورداً صافياً للنفط وواحدة من أهم وجهات التصدير الإيرانية، الأمر الذي يزيد من تأزم اقتصادها في ضوء الاستئناف الوشيك للعقوبات الإيرانية.
العلاقة بين أميركا وتركيا في أسوأ حال منذ تدخل تركيا في قبرص عام 1974، وبالنظر إلى القيادة في كلا البلدين سوف يزداد الأمر سوءاً، إذ يتم تفكيك العلاقة عن طريق الخلافات الأساسية حول القضايا الجيوسياسية الرئيسية، وتشمل هذه مستقبل الأكراد السوريين، وعملية السلام السورية، وميل تركيا إلى شراء الأسلحة الروسية خصوصاً صفقة صواريخ
(SS – 400)
بمبلغ 2.5 مليار دولار، ويتحدث عن الطعن في الظهر! الخطورة أن كلا القائدين سيجد أنه من المناسب سياسياً التخلص من الركيزة الثابتة التي أبقت البلدين معاً، أي الحلف الأطلسي. الرئيس ترمب ليس من المولعين بالحلف، وأمام تعنت إردوغان يواصل التشدد، وفي القيام بذلك إما أن يكون قوياً من خلال إجبار تركيا على إطلاق سراح القس اندرو برانسون أو على الأرجح في حالة عدم تهاون إردوغان سيظهر الحلف وكأن لا مكان له في النظام العالمي الجديد.
وأسأل سياسياً تركياً عما إذا كان وضع الاقتصاد مضافاً إليه المقاطعة سيؤثر على استقرار تركيا خصوصاً أن حرب سوريا لم تنته؟ يجيب: هذا ليس جيداً، وفي أغلب الدول إذا وقعت مثل هذه الأزمة، تُسحب الثقة من الحكومة، لكن لن يحصل هذا في تركيا، لأن الأتراك يعيشون في عالمين مختلفين. نصف البلاد يحب إردوغان، ويعتبر أنه لا يمكن أن يرتكب أي خطأ، والنصف الآخر يكرهه ويعتبر أنه لا يُقدم على أي عمل صائب، وهذا نتيجة سياسة إردوغان التقسيمية في السنوات الـ16 الماضية. إنه النموذج الأمثل للزعيم الشعبوي. شيطن نصف الشعب وقوّى النصف الآخر الذي يدعمه. خطابه أنه جاء ليجعل من تركيا أمة عظيمة ونصف البلاد يحبه لأنه يقول ذلك، ثم بتصويره أن أميركا تشن حرباً اقتصادية على تركيا يريد تحويل اللوم عن الانهيار الاقتصادي من سياسته إلى المقاطعة الأميركية، وقد ينجح، لأن قاعدته مستعدة دائماً لأن تشتري عبارات بضاعته. يضيف: الوضع الآن لا يتعلق برجل واحد بل يمكن لدولة كاملة أن تكون غير مستقرة. تركيا كانت وستبقى أكبر من إردوغان، إنه يدير تركيا بقبضة من حديد، لكنه لم ينجح إلا في جذب نصف البلاد لدعمه في الانتخابات. إن نصف تركيا الذي لم يصوّت له ديموغرافياً واقتصادياً يغطي مساحة تقرب من مساحة إسبانيا، والعدد 40 مليون شخص. يقول: إن سياسة معاقبة كل تركيا كأنك تغامر برمي الطفل مع ماء الحمام، كما تقول العبارة. تركيا دولة كبيرة ضرورية لأميركا تحد إيران والعراق وسوريا وروسيا عبر البحر الأسود، وعلى أميركا الإبقاء على علاقتها مع تركيا حتى لو كانت ستتعامل مع إردوغان في الوقت نفسه. أسأل: وهل ستنجح المفاوضات، يجيب: كلا. ربما سيظل ترمب يصعّد حتى إطلاق سراح القس، فهناك انتخابات على الأبواب، وفي الوقت نفسه فإن إردوغان قد لا يُصعّد لكنه لن يأخذ خطوات لتخفيف التصعيد، فلديه انتخابات هو الآخر، وأيضاً لأنه بذلك يستطيع أن يضع الأزمة الاقتصادية على المقاطعة الأميركية.
إن تصحيح الاقتصاد التركي يحتاج إلى سنوات، وهذه مهمة تتطلب قيادة جديدة وعقلية مختلفة جداً. إن إردوغان كالحاوي لا تفرغ قبعته من «المناديل»، آخرها قوله إن أميركا عجزت عن الإطاحة بحكومته عبر محاولة الانقلاب، وهي تحاول الآن عبر المال! يرفض الاعتراف بأنه مخطئ.
المصدر: الشرق الأوسط