لم تكن حوران يوماً معقل فكر منحرف أو متطرف، وهي لن تكون بحاجة إلى تنظيمات متشددة تعلم أبناءها دينهم وأخلاقهم، وحقيقة ما يجري اليوم بين تشكيلات الجيش الحر وجبهة النصرة هي عملية استعادة طبيعية للأوضاع على الأرض انطلاقاً من حقائق يجب أن لا تغيب عن ذهن المراقبين، وبالتالي عن التصورات المفترضة لمستقبل الحراك الثوري بشقيه المسلح والمدني.
الحقيقة الأولى هي أن طبيعة أبناء حوران تتسم بالوسطية والاعتدال الديني وتغليب العادات الاجتماعية التي تحكمها علاقات ذات طبيعية عائلية، وهذه العادات والأعراف لا تتعارض مع نصوص الدين بل تعتبر نموذجاً متقدماً لتطبيق تراكم منضبط من الثقافة المجتمعية الأصيلة، وهو ما لا ينفي وجود حالات خارجة عن السياق كما هو الحال في أي بيئة اجتماعية.
وقد حاولت جبهة النصرة فرض النص الديني “الجافّ” بعد عام على انطلاق الثورة وامتلاكها قاعدة شعبية نتيجة مشاركتها الفاعلة ضد قوات النظام، إلا أنها جوبهت بممانعة قوية لدى أبناء حوران ما اضطرها في غالب الحالات إلى الانصراف عن إدارة شؤون الحياة العامة والتركيز على القتال، وبناء على هذا العقد الشفهي جرى قبول “النصرة” كمكون أساسي في التشكيلات القتالية.
الحقيقة الثانية هي أن ضعف تسليح الجيش الحر دفع بالشباب نحو الانخراط في “النصرة” دون تفكير مسبق في النتائج بعد انتهاء المعركة مع النظام، وأذكر في بدايات الحراك المسلح أن بعض المنخرطين في الجيش الحر كانوا يتحدثون عن ضعف التسليح وقلة الذخيرة لدرجة أن كل شخصين كانا يتناوبان على بندقية واحدة وثلاثة مخازن، ولعل من سخرية القدر أن البعض كان مع وجعه على مقتل رفيقه في السلاح يفرح بأن يرث بندقيته.
الحقيقة الثالثة هي أن ما سبق لا ينفي الخلفية الدينية للبعض، إلا أنهم لا يشكلون النسبة الأهم، وبناء عليه فإن غالبية عناصر هذا التنظيم هم من البيئة المحلية، بصرف النظر عن انتماء قيادات التنظيم وهي بغالبيتها من أبناء الجنسيات العربية.
ولا شك أن جاذبية “النصرة” لم يكن أساسها ارتباط “الجبهة” فكرياً بتنظيم القاعدة بل بقدرتها على تمويل العمليات، وامتلاك قادتها خبرة في القتال، وكذلك عدم وجود تشكيلات منافسة، ولا يمكن إغفال حقيقة مفادها أن ارتفاع وتيرة الموت والقتل ولّدت شعوراً عند الكثير من الشباب بضرورة ربط مسألة القتال بطبيعة عقديّة تخفف من الشعور بالخوف من “الموت المجاني” وهو أمر مفهوم في ثقافة أبناء الشرق الإسلامي، ولعل ما ساعد على هذا التوجه هو ارتفاع منسوب القتل مع درجة عالية من الإحباط جراء الخذلان العربي والدولي، وكذلك الخطاب التحريضي للإعلام، ومن ثم إظهار الصراع على أنه حرب بين سنّة وشيعة أو بين العرب السنة وإيران وحلفائها من الشيعة والعلويين.
الحقيقة الرابعة هي أن دول الجوار الإقليمي ساعدت على نمو “جبهة النصرة” مع اختراقها عبر قيادات في التنظيم، ومن مبررات هذه الرعاية هي تنويع الخيارات أمام مخاوف من انهيار كامل لتشكيلات الجيش الحر، والسعي لنقل عمليات النصرة في مرحلة لاحقة إلى منطقة قتال مباشر مع حزب الله الذي يتمدد على الأراضي السورية ويحاول خلق مربعات أمنية وخواصر نفوذ على الحدود السورية القريبة من إسرائيل والأردن.
سياقات التبرؤ من “النصرة”
يثار جدل في درعا حول ضرورة إلغاء “النصرة” من عدمه على خلفية حادث ضرب امرأة أو اعتقال شخص حسبما يعتقد كثيرون، إلا أن المسألة أعمق بكثير ولها دلالاتها البعيدة مع صدور بيانات لعدد من تشكيلات الجيش الحرّ، ومن هنا فإن وضع المنشار على عقدة “النصرة” يشير إلى تحولات استراتيجية تتطلب تغيير قواعد الاشتباك واختبار قوى هذا الاشتباك على الأرض الأمر الذي يمكن وضعه في عدة سياقات.
السياق الأول هو إنجاز نحو 80 % من معركة درعا وظهور خطر تمدد تنظيمات متشددة على الأرض، كما حصل في الرقة بعد تحريرها، وبرزت نُذُرُ مثل تلك المخاطر نهاية 2014 في معركة بين الجيش الحر ولواء اليرموك بريف درعا الغربي الأوسط بعد أخبار تسربت عن مبايعة نحو 150 عنصراً من لواء اليرموك لتنظيم “الدولة”.
ويبدو أن هناك مخاوف من دخول “داعش” مع اتساع المساحات المحررة لملء الفراغ في بعض المناطق، ومن المؤشرات السيئة حادثة مخيم اليرموك وتسهيل “النصرة” دخول تنظيم “الدولة” عبر منطقة الحجر الأسود، ومن ثم فإن “النصرة” بذاتها بدأت تقلق عدة أطراف لكونها انكفأت على نفسها ولم تقبل الخضوع لمؤسسات القضاء التي يخضع لها أبناء حوران، كما أنها تحاول تضخيم وجودها أو التشويش على الجيش الحر كما حصل في عملية تحرير معبر نصيب وتعمد مجموعة من عناصرها رفع علم القاعدة الأمر الذي يشكل رسالة بالغة الخطورة قد يكون الهدف منها إقلاق الأردن وإعطاء انطباع سيء على مستوى الرأي العام العالمي.
السياق الثاني هو عمليات التدريب والتسليح المفترضة للجيش الحر أو من توصف بـ “المجموعات المعتدلة” مع احتمالات دخول سلاح مضاد للطيران، وتغيير شكل المعركة باتجاه حسمها في دمشق، وهنا يبدو مفهوماً أن المطلوب هو وجود مساحات غير مختلطة، بمعنى إما تفكيك “النصرة” وإنهائها في مناطق سيطرة الجيش الحر، أو الدفع بها إلى مناطق أخرى بحيث يتم معالجتها لاحقاً دون أن تشكل خطراً في المناطق الحدودية مع الأردن ومنطقة الجولان المحتل، ودون وقوع السلاح الخطر تحت سيطرتها.
السياق الثالث هو وجود صراع نفوذ بين القوى الثورية والجماعات ذات التوجه الديني، وهو ما انعكس على الوضع الاجتماعي داخل مدن وقرى حوران كما حصل في مدينة درعا البلد بطبيعة الحال، وهناك خشية من اتساع رقعة الصراع وحصول عمليات فرز واستقطاب شديدة الخطورة في مرحلة هي الأكثر حرجاً منذ 4 سنوات.
المطلوب من النصرة والقوى الثورية
بالعودة إلى حقيقة أن غالبية كوادر “النصرة” هم من البيئة المحلية، وأن معظم العناصر انخرطت في التنظيم بحثاً عن معركة رابحة وجراء الإحباط فإن المعالجة يجب أن تأخذ بعين الاعتبار خوض معركة “كسب العقول” وعدم الانجرار وراء عملية تصادم قاسية تدفع بـ “النصرة” إلى خيارات أسوأ، ويبدو أن التكوين الاجتماعي هو الحامل الأهم لمعركة “كسب العقول”، ففي حوران مثلاً عائلات لا يقل عدد أفراد الواحدة منهما عن 100 ألف شخص كالزعبي والحريري، وليست العوائل الأخرى أقل لحمة وأضعف شوكة، إذ لازال هناك وجاهات وقوى اجتماعية وحتى مثقفون قادرون على خوض تلك المعركة ومنع حصول انحرافات خطيرة، وبالضرورة فإن المطلوب من “النصرة” إثبات حسن النية بنفي أو فك ارتباطها بالقاعدة، وابتعادها عن مقاربة قضايا اجتماعية واكتفائها بمواجهة النظام.
الخلاصة هي أن حوران لا يمكن حكمها بتنظيمات تحمل فكراً متطرفاً لخصوصيتها الاجتماعية، والجغرافية، ومطالبة “النصرة” بالانكفاء عن أي فكر متشدد ليس دعوة لقتل عناصرها وهم من أبناء المنطقة ولا لإشاعة الكفر في بيئة معروفة بانضباطها دون غلوٍّ أو تطرف.