لقد كرّست نفسي لدراسة الطبيعة المتحرِّرة من الخرافات والتحريفات ، تلك الإدعاءات في أفضل حال تنبثق من ينبوع الجهل ، وفي أسوء الأحوال تُمثِّل حيلة سياسية للتشكيك في علاقات المرء الحميمية ، لأنّني ليس لديّ شئ أشعر بالعار منه وليس لديّ شئٌ أُدافع عنه ” .
بهذه الكلمات بدأ ليوناردو دافينشي مرافعته العصماء أمام المحكمة الصورية السياسية التي مَثُل أمامها بتهمة ممارسة اللواط ، وقد وجدت أنّ تلك الكلمات مناسبة تماماً لإفتتاحية الرد على مقالة كان قد كتبها الأستاذ ” عامر الحاج ” ـ كاتب إسلامي ـ قبل عدة شهور بعنوان ” مراجعة علي فقه التعامل مع فاحشة الزنا وجريمة القذف ” وقد بدا لي حينها أنّ العنوان مناسب جداً ودقيق للغاية من ناحية إستخدام المصطلحات التي أعتقد أنّ الأستاذ عامر قد وفق كثيراً في توظيفها في صياغة عنوان مقالته تلك ، حيث سمى الزنا ” فاحشة ” ، وسمى القذف ” جريمة ” .
فالفاحشة مسمى أومصطلح لاهوتي يُعبِّر عن الخطيئة اللآهوتية أو المعصية الدينية ، بينما الجريمة هي وصف يُطلق على أيّ ممارسة تضُر بالمجتمع أو بواحدٍ من أفراده ضرراً مادياً يُمكن تبرير منعه قانونياً عبر العقل والمنطق لا بواسطة مزاعم ميثولجية أو ميتافيزيقية أو دينية ، فالقتل مثلاً جريمة ، لكن الأكل نهار رمضان معصية ، القذف جريمة لأنّه يُلحق ضرراً بالمقذوف لكن الزنا معصية أو فاحشة كما سماها عامر .
وبإمكاننا القول : إنّ كلّ جريمة ( معصية ) ، لكن ليس كلّ معصية ( جريمة ) ، فإيزاء الناس ـ الجريمة ـ أجمعت كلّ الأديان على أنّه ، أي إيزاء الناس ( معصيةٌ ) للرّب و في نفس الوقت أجمعت كلّ القوانيين والتعاقدات الإجتماعية على تجريمه بالمثل ، بينما بعض الممارسات الفردية يُمكن أن تكون ( معصية ) للرب لكنّها لا تُمثِّل ( جريمة ) قانونية مثل الإلحاد أو عدم بر الوالدين أو ممارسة الجنس خارج إطار الزواج أو عدم الصلاة . فكلِّ تلك الممارسات رغم أنّها ( معصية ) للرّب إلاّ أنّها لا يُمكن تصنيفها ك ( جرائم ) يُعاقِب عليها القانون ، طآلما أنّه لا ضرّر إجتماعي يلحق بالاخرين جراء إرتكاب الفرد لها ، أي لتلك ( المعاصي ) . لذلك قلت بأنّ كلّ جريمة معصية لكن ليس كلّ معصية جريمة .
ولكن للأسف سرعان ما يلتف الأستاذ عامر الحاج على عنوان مقالته الرصين والموضوعي ، ويخلط ما بين الخطيئة والفاحشة والمعصية من ناحية ، وما بين الجريمة من ناحية أخرى ، فيقول ما نصه : ((النقطة التالية شديدة الاهمية والحساسية ، كيف يمكن تكييف فعل ممارسة الجنس خارج الرابطة الشرعية في فقهنا الاجتماعي ؟ )) . والسؤال هنا ما علاقة ” فقهنا الإجتماعي ” بممارسة جنسية تتم خلف الابواب المغلقة ولا يترتب عليها أيّ ضرّر للمجتمع ؟ لماذا يُريد الأستاذ عامر تكييف قانوني يجعل من تلك العملية ( الخاصة جداً ) جريمة قانونية يُعاقَب عليها ؟
يُجيبنا الأستاذ عامر على السؤال الأخير بما يلي : (( الحديث هنا مقصور علي ممارسة الجنس خارج الرابطة الزوجية الشرعية التي يقرها المجتمع )) ويقول أيضاً في نفس الإطار التبريري : ((أما اشكال ممارسة الجنس بين ذكر وانثي بغرض قضاء الشهوة فقط ، ودون اي التزام بينهما ، فهو اولا جريمة ثقافية واجتماعية ، بمعني انه في حال ان المجتمع المعين اقر في نظمه انه لا ممارسة جنسية بين ذكر وانثي الا برابطة تعاقدية عليها واجبات وحقوق بين الطرفين بعضهما البعض ، وبالمجتمع من حولهما ، فإن علي المجتمع ان يسعي لمحاصرة تلك الجريمة بوسائله كافة ، بدءا من التربية والفكر ، ثم بتيسير الرابطة الشرعية التي اقرها لان هذه الشهوة والغريزة اساسية ، ومن احاطتها بكل ما يرغب فيها ، وتنقيتها من كل ما ينفر عنه…. انا هنا ازعم ان هناك فاحشة ، وجريمة …. ))
ولكن لماذا ممارسة الجنس لقضاء الشهوة جريمة ثقافية وجريمة ؟ وما علاقة الثقافة وجرائمها بالجنس ؟ إلاّ لو كان يعني الثقافة الجنسية ، هب أنّ المجتمع إكتشف شيئاً إسمه الزواج فهل هذا الإكتشاف مُلزِم لإثنيين لا يعتبرناه الإطار الوحيد لتحديد شكل علاقتهما ( الرغبوية ) ببعضهما البعض ؟ متى كان إجماع غالبية الناس على كراهية شئ هو أصلٌ لتجريم هذا الشئ ومنع الآخرين من إقترافه ؟ ألم يُجمع غالبية المسلمين إلى اليوم على وجود عقوبة الرِّدة في الإسلام وعلى تحريم زواج المسلمة من الكتابي ورغم ذلك يُساند الأستاذ عامر الحاج شيخه الترابي في فتاويه التي أثارت لغطاً عالمياً والمنادية بعدم تطبيق حد الرِّدة لعدم وجوده بالإسلام وبإباحة زواج المسلمة من الكتابي ؟
ألم تكن كلّ المشاريع الإصلاحية ـ والإسلام من بينها ـ محل رفض من غالبية المجتمع ؟ لماذا يرفض الأستاذ عامر حُجّة الإجماع كدليل على صحّة تأويل ديني ويُحارب السلفيين في كون الإجماع مصدراً من مصادر الشريعة الإسلامية ، ويوافق على إلزامية الإجماع في تحديد سلوك الفرد الخاص والذي لا يتأذى به أيّ فرد بالمجتمع ؟ وما رأي الأستاذ عامر في يهودية إسرائيل التي يوافق عليها غالبية المجتمع الإسرائيلي والتي تقضي بشرعية بناء المستوطنات وتهويد الدولة عبر التهميش الثقافي لعرب 1948 الذين هم جزء من ذلك المجتمع الإسرائيلي ؟ ماذا عن التوافق الإجتماعي الذي يُراعي حقوق الإنسان بغض النظر عن مدى كثافة مماثليه السكانيين الذي من حقهم ـ وإن لم يكونوا أغلبية ـ أن يتمتعوا بكافة حقوقهم وحرياتهم التي من ضمنها أنّهم احرار إلاّ فيما يؤذي غيرهم ؟!.
وللخروج من هذا المأزق يحاول الأستاذ عامر الحاج أن يبدوا وكأنّه لا يهضم للأقلية حقاً عند إقراره إلزامية قيّم الغالبية كقوانيين تسري على الجميع فيقول ((أن علي هذا البعض ان يجاهد مجتمعه بوسائل العلم والوعي وآليات اقرار النظم حتي يقبل مجتمعه تعريفه ذاك )) والسؤال هنا : ماذا لو لم يقبل هذا المجتمع أن يمنح لهؤلاء ( البعض ) الحق في ممارسة سلوك فردي وشخصي ولا يؤذي أحداً مثل ممارسة الجنس ؟ ماذا لو لم يقبل المجتمع بعدم وجود حد الرِّدة في الإسلام ؟ هل سنظل نقطع رقاب الملحدين حتى يستطيع أحفاد أحفاد هؤلاء ( البعض ) إقناع المجتمع بأن لا إكراه في الدين ؟ هل يتقبل الأستاذ عامر التهميش الثقافي الواقع على الأقلية العربية المسلمة بإسرائيل طالما أنها لم تنجح في إقناع المجتمع الإسرائيلي بقاعدة ( أنّ من حق الفرد أن يفعل ما يحلو له طالما لم يؤذي غيره ) ؟
خلاصة القول وإكرر ما قلته أكثر من مرة ” الجنس حوجة ورغبة متبادلة بين إثنيين وإرادة مشتركة بينهما في إشباع تلك الرغبة ، الأمر الذي ينفي إمكانية وجود ضرّر قد يترتب على الآخرين من جراء تلك الممارسة ” لذلك الأمر لا علاقة له ب (فقه ) ديني يُزج به في معارك ( تكييف ) قانوني بغية تجريمه كما يدعو الأستاذ عامر الحاج ، وله بالطبع أن يعتبر الأمر فاحشة وخطيئة ومعصية للرّب تماماً كما هو ترك الصلاة وعدم تأدية الحج لمن إستطاع إليه سبيلا وكما هو حال الذي يرفض أن ينطق بالشهادتين ، لكن لا يمكن أن تنقل تلك المعاصي من حيز القانون الإلهي المُرجَأة عقوباته ليوم القيامة إلى حيز التقاضي البشري حيث ينوب القاضي عن ملائكة الحساب ويُحاسب الفرد على ممارسات لا حق إلاّ لله في محاسبته عليها .
وهذا ما دفعني لأنّ أبدأ مقالتي بمطلع مرافعة دافينشي التي أشار فيها وبوضوح إلى أنّ تدخل الآخرين في علاقاتنا الحميمية قانونياً هو تكريس للخرآفة والجهل الناجم عن صناعة مجتمع قطيعي يخضع فيه الفرد لسطوة الجماعة وإن كانت تلك الجماعة همجية وغوغائية ، وعلى أسوء الفروض هي أدوات فتك بيد السلطة الدينية السياسية لإبتزاز الخصوم وتطويق الشعوب زمحاصرتها ولو عبر إيهامها بأنّ سيف السلطان ونفوذه قادرٌ على التطفل عليكم حتى في غرف نومكم .
وختاماً فإنّ إختلاف الرأي لا يفسد للود قضية وأرجوا من الأخ والصديق والأستاذ عامر الحاج أن يتقبل ما كتب بصدرٍ رحب وببصيرة نقدية كما عودنا دائماً !