إنطلقت بنا السيارة من نقطة الكرامة الحدودية الأردنية مع العراق , متجهة الى عمان , وضعت رأسي على ظهر مقعد السيارة , وشعرت برغبة ملحة الى البكاء , لكن إبني كان في حضني , ولم أكن أستطيع البكاء أمامه , ما ذنبه هو اللاجيء بعمر 3 سنوات ليتأكد في ذهنه معنى ذل البعد عن الوطن بدموع أمه وبكائها منذ الآن ؟
أدرت رأسي ونظرت من النافذة الى الطريق … فتذكرت ( عجيد القوم يا عونه .. يلوح المجد بعيونه ) كما غنتها له سوزان عطية .
ظهر ذات مساء في التلفزيون بصحبة عزت الدوري , في جلسه عنترية , للتطاول على مثقفي العراق , أيام بدأ المثقفون يجاهدون للعثور على أي وسيلة للهرب من الوطن .
كانا جالسين على كرسيين منفصلين ,, واحد مقابل للثاني . وكل واحد منهما يحمل ساقه اليمنى ليضع ( قندرتها ) على ركبة الساق اليسرى , في وضعية ذات معنى خاص جدا , حين يقوم مخرج الرئاسة الذي يصور اللقاء بالتقطيع بين صورة صدام وهو يتكلم , وصورة عزت وهو يجاوب … مرة يصير قفا قندرة صدام , ومرة قفا قندرة عزت , مقابل للكاميرا تماما , في وجه المشاهدين المثقفين الذين يوجه لهم الكلام .
تكلم صدام في البداية عن أهمية الثقافة والمثقفين في حياة المجتمع , ثم إلتفت الى عزت بلمحة مباغتة وسأله : رفيق عزت المثقفين العراقيين صايرين يتركون البلد وكل واحد يطلع حجة .. شلون اذا فرغ البلد من المثقفين ؟ شنسوي ؟ نروح نموت ؟
أجاب عزت وهو يضرب على ساقه في مكان قريب من ( القندرة ) ويقول : سيدي عندنا كذا عدد جامعات , تخرج مئات الآلاف من المثقفين كل سنة , اللي يعجبه يطلع خلي يطلع , حتى يترك مكانه للأحسن منه .
فجاوبه صدام وهو يضرب على ساقه قريبا من القندرة أيضا ويضحك ضحكة مجلجلة يخض معها كل جسمه : رفيق عزت , عود إذا البلد خلا من المثقفين .. أنا وياك نجيب كم كتاب نقراهم ونسد النقص , اللي يريد يطلع خلي يطلع ما أحد محتاج ثقافته .
صحيح أن الحياة لا تتوقف على وجود أحد , ولكن هل صحيح ايضا : أن العراق بغير حاجة الى أولاده ؟
وصحيح أني غادرت العراق .. ولكن هل كان ذلك بإرادتي ؟ وكم مثقف ومثقفة غادروا مثلي وبنفس طريقتي ؟ وربما أمر ؟؟؟
بعد عدة ساعات وصلنا الى منطقة العبدلي وسط عمان . كان علي أن أتدبر فندقا وطعاما في الحال فقد كنا أنا وإبني متعبين الى أبعد الحدود .
صباح اليوم التالي أجريت إتصالاتي مع الناس الذين أعرفهم في الأردن , والحمد لله أن الدنيا لا تخلو من الخيرين أبدا . خلال أسبوع كنت قد حصلت على عقد عمل في إحدى الجامعات الأردنية فحصلت على الإقامة , أجرت بيتا صغيرا وسجلت إبني في حضانة آخذه إليها كل صباح قبل الذهاب الى عملي .
لم أكن مرتاحه في الأردن , كنت جديدة على التشرد , وكانت تلك هي أيامي الأولى التي أتعامل بها مع عراقيي الشتات .
إكتشفت الحيلة والغدر والكلام بعدة وجوه .
بعضهم يحمل مشاكل مع الحكومة العراقية ويتعامل معي كوجه من وجوه تلك الحكومة , إضافة الى أني لا أستطيع التصريح أنني غادرت العراق لمشاكل مع الحكومة مخافة أن يصل كلامي الى السفارة أو الكثير من العاملين في الأمن والمخابرات العراقيين المنتشرين في الأردن .
كنت أخاف من السفارة العراقية , وكانت هناك الكثير من الحكايات عن سيارة السفارة التي تحمل أي عراقي تطلبه الحكومة العراقية لتعيده الى بغداد غصبا عنه . حكومة الأردن من جانبها كانت تؤكد بإستمرار أن لها مصالح مع الحكومة العراقية لن تضحي بها من أجل حماية عراقي هارب , لذلك فعلى العراقي الذي له مشاكل مع حكومته عدم البقاء في الأردن , وفيما بعد صدر بيان ملكي بهذا المعنى .
حكايات عجيبة غريبة كنا نسمعها عن أكاذيب العراقيين الذين يراجعون مكتب الأمم المتحدة للحصول على اللجوء الإنساني أو السياسي . هل تذكرون من سميناه ( الخاكي الطرطور ) في الجزء السابق من الحكاية ؟ وجدنا إبن أخته في الأردن وهو رجل متزوج وأب .
قدم طلبا الى الأمم المتحدة قال فيه إنه يرغب إعتناق المسيحية الكاثوليكية لكن العراق يجبره على الإسلام .
كما أنه شاذ جنسيا لكن القانون العراقي والديانة الإسلامية يحرمان اللواط .
إي هي هكذا … ومثل ما تقول الأمثال ( ما يجيبها الا رجالها ) و ( ثلثين الولد على الخال ) و ( هذا الشبل من ذاك الأسد ) .
العراقيون الذين يعيشون في العراق تهمهم السمعة لأنهم يعرفون أنهم سيظلون أمام وجوه بعضهم فترة طويلة . العراقيون الذين في الخارج أغلبهم لا يهمهم ما يمكن أن يقال عنهم , المهم تنفيذ ما في أذهانهم , لأنهم اليوم هنا وغدا في بلد آخر , والتعامل مع بشر بهذه الوضعية خطر جدا .
العراقيون الذين لم يحصلوا على عمل أو الذين يعملون في أمور بسيطة لا يهمهم الإحتيال والكذب وأحيانا حتى التفنن في أساليب السرقة .
عمري كله لم أقترب من أجواء كهذه وعليه فقد كانت أعصابي في حالة إستنفار دائم لما يمكن أن يحصل .
وصل رعبي من وضع العراقيين في الأردن الى أقصاه يوم سمعت أن سكرتير عدي قد جاء هاربا الى عمان وقدم طلبا الى الأمم المتحدة , فحملته الطائرة خلال عدة أيام الى أوربا , بينما إمتلأت شوارع الأردن بالأمن والمخابرات العراقية بحثا عنه .. تعرفهم من وجوههم وسحناتهم التي لم تكن تخفى على أحد .
عندها قررت مغادرة الأردن . درت على سفارات كثيرة بحثا عن فيزة فلم يمنحني إياها أحد .. في الأردن يوجد كلام عن جوازات مزورة وفيز مزورة ومهربين , وأنا بنت ناس يا ناس وأخاف من عواقب خطوات مثل هذه خصوصا وأنا أحمل معي طفلا في الثالثة من عمره . لذلك صفيت كل شيء خلال عدة أيام وقررت الذهاب الى ليبيا .
ليبيا كانت تسمح لنا بدخول أراضيها دون فيزة , ولكن هناك مشكلة واحدة , هي مشكلة الحصار الجوي عليها بسبب قضية لوكيربي .
ذهبت صباحا الى العبدلي وحجزت للوصول الى ليبيا عن طريق البر , قيل لي أن نكون موجودين في شركة النقليات عند التاسعة مساءا .
وضعت أشياءنا في حقيبة واحدة وأخذنا بطانية , إنطلقت السيارة من العبدلي عند التاسعة والنصف مساءا . وصلنا ميناء العقبة الأردني عند الثانية صباحا . كان الجو مثلجا , وباب الميناء مقفلة , لذلك كان يتحتم الإنتظار ست ساعات الى أن نصل الى الثامنة صباحا حيث يبدأ الدوام وتفتح الأبواب .
وضعت الحقيبة على الأرض وجلست عليها , وضعت إبني في حضني وإستعملنا البطانية كعباءة تغطينا بها … والحمد لله والشكر أن السماء لم تكن تمطر , إذ لا يوجد أي شيء يمكن الإحتماء تحته من المطر .
أمام عيني وعلى بعد حوالي كيلو متر يقع ميناء العقبة الإسرائيلي , منظم وإنارته كاملة , وتسمع منه صوت موسيقى تنبعث من إحدى صالاته … ترى هل يتعامل اليهود مع مواطنيهم أو أبناء جلدتهم .. كما نعامل نحن ؟
في ذلك الميناء لم نكن أكثر من كلاب سائبة .
عند الثامنة صباحا فتحوا باب الميناء فهرع الناس راكضين الى الحمامات والمغاسل وشراء الشاي , وبقينا ننتظر الى الرابعة عصرا حين قدمت العبارة المصرية لتأخذنا من ميناء العقبة الأردني الى ميناء النويبع المصري .
كانت العبارة قديمة ومن أقذر ما يكون , وبسبب كونها مصنوعة من الخشب وغاطسة طول الوقت في الماء لذلك صارت مرتعا لما لا يقل عن 100 ألف حشرة ( مردان ) أحمر يهاجمك بإتجاهات عجيبة . هذه الحشرات جعلت إبني يبدأ بالصراخ والعياط فحملته وصعدنا الى ظهر العبارة , جلسنا في مواجهة الريح حتى تقوم بدفع الحشرات بعيدا عنا .
البحر الأحمر منطقة مرعبة من الوحشة … البحر بعرض حوالي كيلومتر واحد تحيطه من الجانبين سلسلة من الجبال الصحراوية الصغيرة حمراء اللون .. وطول الطريق لن ترى غير نفسك .. ولن تلمح على طول الطريق لا إنسان ولا طير ولا حيوان .
في تلك اللحظات تذكرت سورة التين في قوله تعالى ( والتين والزيتون , وطور سينين , وهذا البلد الأمين , لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم , ثم رددناه أسفل سافلين , إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات فلهم أجر غير ممنون , فما يكذبك بعد بالدين , أليس الله بأحكم الحاكمين ) .
لو لم أر بعيني وحشة طور سينين هذه , لما فهمت الآية التي يقسم الله فيها بثلاث متقابلات : جوف التين اللين مقابل قسوة نواة الزيتون , ومكة البلد الأمين مقابل وحشة طور سينين , والإنسان في أحسن تقويم مقابل رده الى أسفل سافلين , بأن الله سيؤاجر الذين آمنوا وعملوا الصالحات . الحمد لله تعلمت معلومة جديدة عن الحياة .
وصلنا الى ميناء النويبع المصري عند العاشرة مساءا … قبل فتح باب العبارة قام حرس العبارة المصريون بقسمة الناس الى قسمين : عراقيين على جهة .. وبقية خلق الله في جهة ثانية .
بإحترام وسرعة تم ختم جوازات بقية خلق الله وإنزالهم من العبارة .. ثم سمح لنا نحن العراقيين بمغادرة العبارة دون أن نستلم جوازاتنا . رموا لنا حقائبنا على رصيف الميناء كيفما إتفق .
سحبت حقيبتي وفتحتها أخذت منها ملابس لإبني ودخلت به الى جامع الميناء لأحممه قبل النوم ,, كان متسخا من أجواء العبارة بشكل كبير .
ولم تمر غير دقيقة … ودخل واحد من حرس الميناء علينا مثل الغضب الساطع , صارخا بعلوا صوته : تخشي هنا إزاي ؟ مين أزن لك ؟ مين سمح لك ؟
قلت له : أحمم إبني قبل النوم
فصرخ مصعوقا : يا عراقيين .. يا كلاب .. انتو كلاب .. يا بتوع صدام
أجبته بكل برود : إحنه كلاب ؟ يا مصريين .. يا عبيد لمن غلب .. يجمعكم الطبل وتفرقكم العصا .. يا بتوع حسني ؟
غادرت الجامع , ألبست إبني ثيابه ووجدنا سندويجات فول أكلناها , ومثل ميناء العقبة , جلسنا على الحقيبة وإستعملنا البطانية كعباءة تغطينا بها .
حين أصبح علينا صباح اليوم التالي ,, كنت قد مرت علي 48 ساعة دون لحظة نوم , وكانت أقدامي منتفخة من أثر الجلوس الطويل .
في السيارة التي ستقلنا من ميناء النويبع المصري الى مدينة السلوم الواقعة على الحدود مع ليبيا … سيصعد معنا عدد من الشرطة المصريين لأننا سننقل في كل الأرض المصرية مخفورين , بمعنى أنهم عاملونا معاملة المجرمين ولم نمسك جوازات سفرنا بأيدينا , طالما نحن في مصر .
وصلنا الى القاهرة كانت مستودعا كبيرا للزبالة , الكثافة السكانية العالية لا تتيح تنظيفها بشكل جيد . مررنا من أمام الأهرام , ثم إنطلقنا بإتجاه الإسكندرية . تغدينا في أحد مطاعم الإسكندرية , وأخذنا الخط الساحلي الشمالي لنصل الى مرسى مطروح التي كانت تعج بعمارات سياحية لن أبالغ اذا قلت أن عددها بالآلاف .
بعد مرسى مطروح وصلنا الى مدينة السلوم .
قبل وصول نقطة السلوم الحدودية , وكنا قد قضينا تحت مخفورية الشرطة لنا كمجرمين حوالى 24 ساعة … جمعوا منا ( إكرامية ) للشرطة الذين رافقونا .
وحين أنزلونا من السيارة وتم رصنا أمام الشباك , بدأت الشرطة بتسليمنا جوازاتنا , التي يتسلمها موظف الشباك ويختمها : مغادرة , ويعطينا إياها .
عندما تكون عراقيا وتريد العبور الى ليبيا عن طريق مصر , فكن على يقين أنك ستعامل معاملة المجرم , تستلمك الحكومة المصرية وتسلمك … بكل تحفظ … لأنك مجرم .. وهذا من أهم وأشد أعمال المصريين أمانة وإخلاصا كبشر .
منذ ذلك اليوم أقسمت أن لا أدخل مصر بعد في أي وقت ومهما كانت الأسباب , ولو يتعبد الطريق الى مصر بالذهب …. فلن أوسخ أقدامي بوضعها عليه .
تركنا نقطة السلوم خلفنا متجهين الى نقطة مساعيد الليبية , وصلناها عند الثانية صباحا . كان رأسي يتمايل نعسا , تم تفتيشنا بشكل دقيق جدا وختمت جوازاتنا : دخول .
غادرت بنا السيارة بإتجاه مدينة طبرق .
رغم تعبي الشديد إلا أنني كنت يجب أن أنزل في طبرق .. قدمت في كليتها ومعاهدها للعمل .
ركبت سيارة الى مدينة درنة وفعلت نفس الشيء .
ثم الى مدينة الزاوية , وقمت بنفس العمل .
ثم مدينة البيضاء ,, وجامعة عمر المختار .
المدينة كانت تاريخية رائعة أكبر من الجمال وأعز من الوصف , فيها لمحات من نضال الليبيين العظيم وقائدهم الخالد الشهيد عمر المختار ما لا تقدر الكلمات قوله .
حين ركبت السيارة الى مدينة المرج .. دفعت الأجرة , وضعت إبني في حضني , نمت ولم أر شيئا ولم أعرف أين نحن , حين سمعت السائق يقول : يا حاجًة .. يا حاجًة .. يا مدام وصلنا المرج .
قدمت في جامعتها ومعاهدها , وركبت السيارة الى بنغازي . المنطقة التي وقفت فيها سيارتنا ببنغازي , يسمونها (( الجنسية )) _ يعني _ (( الكاراج )) .
إكتشفت إختلافا هائلا في اللغة العربية التي يستعملها أهل المشرق العربي ومغربه الى حد التنافر التام , لذلك ورغم كوننا جميعا عربا ,, إلا أني ومنذ دخولي ليبيا شعرت انني بحاجة الى مترجم من أجل أن لا أطلع عن سياق الكلام .
بنغازي مدينة رائعة مثل كل مدن ليبيا … ذهبت فيها الى جامعة قار يونس ثم الى الجامعة المفتوحة , ثم معهد زليطن والمعهد التقني … قدمت طلباتي للعمل .
نظرت الى خريطة ليبيا فوجدت أني رغم كل هذه المسافة المهولة التي قطعتها داخلها .. إلا أنني لم أقطع إلا أقل من نصفها , لذلك قررت التوقف .
أجرت حيزا صغيرا جدا إسمه بيت في منطقة من بنغازي تدعى ( الدهماني ) , فيه سرير , وحمام , ومصباح , وبدأنا … أنا وطفلي , ننام طول الوقت ليلا أو نهارا , ونستحم عدة مرات في اليوم , ونأكل ونلعب مع بعضنا مثلما كنا نفعل في بيتنا في بغداد …. التي لن نراها بعد اليوم .
في هذه الأيام ثارت في بنغازي قضية الطبيب الفلسطيني والممرضات البلغاريات , حول حقن عدد من أطفال ليبيا بفايروس مرض الأيدز … لذلك حين مرض إبني أخذته الى عيادة خاصة وكنت مرتعبة حتى من أدوية الصيدليات .
كنت أتصل عدة مرات يوميا هاتفيا بجميع الكليات والمعاهد التي قدمت للعمل فيها سائلة عن نتيجة التقديم . قلت مع نفسي أعطي مهلة مدة شهر , فإن لم أحصل على نتيجة أتحرك الى جانب الساحل الغربي من ليبيا .
ذات صباح حملت إبني على كتفي مثلما كنا نحمله أنا وأبوه … عندما كنا في بغداد . وذهبنا الى سوق الحوت , كانت ترعبني جملة مكتوبة على الكثير من الحيطان في الشوارع , الجملة تقول : ( اللجان في كل مكان ) , ربما هي من أقوال القذافي في إحدى خطبه أو من كتابه الأخضر …. لكنها كانت تذكرني بمحاكم التفتيش ومسرحية فاوست التي كتبت ثلاث مرات , كتبها مارلو , ثم كتبها غوته , ثم كتبها بول فاليري . وتذكرت الشخص الحقيقي الذي بسببه تألفت هذه المسرحيات , وهو الدكتور فاوستوس الذي أعدمته محاكم التفتيش بتهشيم رأسه ضربا بكل جدران الغرفة التي كان يعمل فيها , يقال أن قطعا من دماغه وجدت عالقة في سقف الغرفة .. كل ذلك بحجة أنه باع نفسه للشيطان مقابل طلب العلم ,, يا الله العظيم .. خيالات الشعوب المقموعة كم فيها من الصور المعذبة !! .. ثم ربي , أهرب من صدام لأصل الى هنا ؟ ليش ربي !!؟؟
انعطفنا الى شارع سعد ابن أبي وقاص ودخلنا الى ( تشاركية اتصالات ) يعني ( مكتب اتصالات ) عملت اتصالاتي الهاتفية مع كل الجامعات والمعاهد الليبية التي قدمت لها أوراقي , حين أنهينا الإتصالات .. إشترينا كيلو ( أخطبوط ) مشوي على الفحم بطريقة فخمة ورائعة ليبية لا يوجد منها بكل الدنيا … وضعه لنا المطعم في صينية , وحملناه الى البيت ,, وإفترسناه كلينا .
حملت إبني الى الحمام … حممته , ورحنا للنوم .
عند العصر فزيت على صوت مزايق كردية تقرع في كل منطقة الدهماني .
ظنيت نفسي بالعراق .
من أين هذه المزايق الكردية !!!؟ أصابني الفضول , غيرنا ملابسنا وخرجنا لنستكشف الأمر فرأيت أكبر دبكة كردية يمكن أن تخطر على البال .. مئات الكرد يرقصون في حلقات عجبت أهل بنغازي كلهم الذين تحلقوا حول الكرد يتفرجون , حين سألت عن الموضوع قيل لي أن عائلة كردية عند هروبها الى ايران في أحداث حلبجة عند قصفها بالكيمياوي , ضاعت لهم طفلة صغيرة , ظنوها ماتت , لكنها كانت قد أنقذت من قبل عائلة كردية اخرى هاربة الى تركيا .
اليوم تعيش عائلة الفتاة في بنغازي …. والأمم المتحدة قبل دقائق سلمتهم البنت بعد بحث وتفتيش دام عشر سنوات .
إنتهت الدبكة الكردية بتنظيم الكرد زفة استقبال مكونة من مئات السيارات لتدور كل شوارع بنغازي وأحياءها .. أخذت إبني وعدنا الى البيت , وبدأت أبكي …
هل سأعود الى أهلي ذات يوم ؟
تذكرت أبي الذي أحبه حبا لا يوصف , أبي الذي ومنذ طفولتي المبكرة , قدرني وإحترمني ومنحني من الحب والإهتمام ما لم يمنحه لغيري .. وحين كبرت منحني الحرية والثقة ودعم الرأي والمساندة … كم أنا محتاجة لك يا ابي الآن .
سلامي على اللي حاضر معانا
سلامي على اللي خالي مكانه
بعيد وياكل ويشرب معانا
عزيزي وصاحبي .. وقلبي على قلبه
رجاءا لا تذكرونه أمامي أخاف يطير قلبي من ضلوعي
سلامي .
أيام غربة كثيرة مرت علي , أبكي أريد أبي , وأدعو الله يطول أعمارنا الى أن أراه مره ثانيه … أحبك يا حبيبي يا أبي .
حتى لا يرى إبني دموعي , دخلت الحمام بحجة الإستحمام , ناداني , فقلت له سنخرج , نذهب للعشاء في الميناء .
ميناء بنغازي ميناء حديث رائع العمرانية .. وأنت تقف فيه ترى أضواء جامعة قار يونس على الساحل الثاني من البحر .. اشتريت سندويجة للولد وكوبا كبيرا من عصير الليمون الطازج لنفسي , وجلسنا على إحدى المصطبات .
كنت أشعر أن إشتياقي لأبي يخنقني .. قمنا تمشينا الى فندق تبيستي , وهو فندق جميل يشبه فندق المنصور ميليا .. في العراق .. بغداد .. الصالحية .. الإذاعة والتلفزيون … رحمتك ربي .. كم هي بعيدة تلك الأماكن الآن !!!؟
من سنترال الفندق .. طلبت أهلي .. كلمت أبي … حكيت له نكتة تجلجل من الضحك , ما كنت أريده يشعر أني حزينة لأن ذلك سيؤلمه كثيرا , وصاني بنفسي وإبني وأن أتصل بإستمرار فوعدته وأنهينا المكالمة .
الحمد لله .. شعرت ببعض الراحة فجلست في استعلامات الفندق وتركت إبني يلعب في ركن لألعاب الأطفال . كنت أراقب التلفزيون … القذافي كان (( يتحجى )) تماما مثلما كان يفعل صدام … قال القذافي في ذلك الخطاب : يعتبون علينا كيف نفتح حدودنا ونستقبل كل العرب … وانا أقول يجي العربي الى ليبيا , حتى لو يذل .. أفضل مما يروح يبوس جزمة الأجنبي حتى يعيش .
وأنا أتفق معه في هذا تمام الإتفاق .. ولكن لحد الآن ما وجدت شغل .. وحين سأجد .. ليش هي راح تدوم !!؟؟
صباح اليوم التالي دفعت لصاحبة البيت أجرة أسبوع وأبلغتها اني سأغادر .. اذا تأخرت وأحبت هي تأجيره فقط تحفظ حاجاتنا في مكان أمين .
الليبيون طيبون وموضع ثقة الى حد بعيد .. ما زالت فيهم بداوة لم تخربها الحضارة التافهة .
ذهبت الى مكتب الخطوط الجوية لحجز تذاكر الى طرابلس فلم نجد … المسافة بين بنغازي وطرابلس مثل المسافة بين بغداد وعمان .. سنتعب كثيرا في الطريق , ولكن لا يوجد خيار آخر .
ركبنا سيارة أجرة من (( الجنسية )) , طلبت توصيلنا الى مدينة سرت , فيها معهد عالي سأقدم له .
سارت السيارة , ليبيا ليست أكثر من صحراء رملية واقعة على البحر , حتى ساحلها ليس أخضرا في كل نقاطه .
وصلنا سرت وهي مدينة صغيرة جدا كلها عبارة عن شارع واحد يضم مؤسسات الدولة العليا من وزارات وغيرها , قطعنا هذا الشارع سيرا على الأقدام .
كنت منهكة … قدمت طلبا الى المعهد العالي فيها … وقررت العثور على فندق للنوم , لكني لم أجد , قيل لي إذا تريدون المبيت … فليس هناك غير بيت الشباب الذي يفتح عند الخامسة عصرا .
وجدنا دكانا لبيع المأكولات .. إشترينا سندويجين صغيرين وقطعتي حلوى وتفاحتين وتمشينا لنجلس على رمل البحر .
قال لي إبني : ماما .. إعطيني الكيس أنا أشيله … وشيليني
ضحكت حتى بكيت . إبني كان مرهقا ايضا , حملته وقبلته . كان هو آخر إنسان .. من كل الذين أحبهم .. بقي معي
حين وصلنا الى رمل البحر , لعبنا كثيرا في داخل الماء , وحين بدأ حبيبي يأكل وجبته ,تذكرت الفنان عباس جميل ,وبدأت أنوح معه :
وين الأحبهم وين ؟
نوحي بقهر يا عين
قلبي صبر أيام
وشلون أصبره سنين ؟
وين ؟ وين ؟ وين ؟
وين الأحبهم ؟ وين ؟
حين حلت الساعة الرابعة والنصف توجهنا الى دار الشباب .. رأيت خطا طويلا من الرجال والنساء يريدون المبيت في المكان .. حين وصل الدور إلينا قالوا : لا يوجد غير سرير واحد متبقي . قبلته على أمل أن ننام أنا وإبني في نفس السرير .
حين صعدنا الى الغرفة .. كانت صغيرة تتقاسمها خمس نساء .. وفيها أسرة بحجم نصف سرير .
أخذت إبني الى الحمام وغيرت ملابسه .. وضعته في السرير وحين نام .. جلست على الأرض .. وضعت رأسي وذراعي على السرير قرب قدميه .. ونمت جالسة .. حتى الصباح .
عند الثامنة صباحا ركبنا السيارة التي ستوصلنا الى طرابلس عاصمة ليبيا . وصلنا مركز طرابلس عند الثانية ظهرا . من موقف السيارات سألت عن الجامعة … فأخذوني إليها . حين كلمت الموظف المسؤول عن التعيين عن عمل وقدمت له وثائقي .. قبلني على الفور . ربي ألف حمد وشكر لك . دكتورة عراقية خيرة ومن بيت أصل إستضافتني في بيتها عدة أيام ريثما أنهيت معاملة تعييني .
ذهبت الى مكتب الخطوط الجوية لشراء تذاكر عودة الى بنغازي لجلب حاجاتنا , تسلمت البطاقات وسافرنا بنفس اليوم .
من مطار طرابلس الى مطار بنينة في بنغازي لم تأخذ منا الرحلة إلا أقل من ساعة … وكان حبيبي الصغير فرحان جدا .. يقول : مماه … هذه أول مرة أصعد طياره .
جمعنا حاجاتنا … وضعناها في سيارة أجرة وعدنا الى مطار بنينة … قبل الإقلاع بلحظات ,, قالوا لنا إن الحجز مشغول لأسبوعين مقبلين .
وهكذا خرجت من المطار … شحنت أغراضنا في تاكسي … ومرة ثانية مشينا طريق العذاب الطويل من بنغازي الى طرابلس برا , حوالي 20 ساعة بالسيارة .
حين وصلنا طرابلس … قابلت رئيس قسمي في الكلية وطلبت سكنا .. في نفس اليوم تم تخصيص شقة سكنية لي في الطابق الرابع من العمارات الإيطالية في مجمع الجامعة . فرحت كثيرا . لكن الفرحة طارت مباشرة عند وصول الشقة .
كلها كانت بمساحة 3 × 4 متر .. وهذا ليس مهم . كان فيها سرير صغير نستعمله كنبة عند النهار … وهذا ليس مهم .
المهم … ما كان يصعد لها ماء .
وكان علي كل يوم تصعيد جكات الماء .. أربع طوابق , رياضة شاقة ولا شك , دونها تبقى قذرا , جائعا , عطشان .
إضافة الى عدم وجود ماء كان المجمع السكني قذرا كأنه مكب للنفايات , لذلك كنت قلقة طول الوقت على صحة إبني من هذه المشكلة .
بعد أربعة أيام من بداية عملي طلبني رئيس القسم وكان محمرا من الإرتباك وقال لي إنه مضطر لإنهاء عقدي مع الجامعة !
سألته عن السبب فقال : زملاؤك العراقيون ذهبوا الى العميد وبلغوه أن شهادتك مزورة , وأنك تعملين في المخابرات العراقية , وأنهم يخافون من وجودك في الكلية ربما تكتبين عنهم تقارير الى العراق .
طلب مني مصاحبته الى مكتب العميد الذي كان ضابط مخابرات ليبي يعمل مستشارا خاصا للقذافي إضافة الى عمله كعميد كلية .
قلت لعميد الكلية : أنا لست شخصية نكرة .. هل تقبل بشهادة ملحقكم الثقافي في بغداد الذي يعرفني شخصيا ليقول لك من أنا ؟
وأقرب من هذا هل تقبل بشهادة نائب رئيس جامعتكم الدكتورة نجاح القابسي التي أعرفها منذ عدة سنوات والتقيت بها في كل زياراتها الى بغداد ؟
أما عن عملي في المخابرات العراقية , فهذه كيف تريد أثبتها لك ؟ أجلب لك ورقة من المخابرات تقول إن الدكتورة ميسون البياتي لا تعمل لدينا وليست واحدة من منتسباتنا ؟؟
إقتنع العميد بكلامي وأمر بعدم الإهتمام بكلام زملائي وقال أنه سيعاقب كل من يحاول تكرار مثل هذه الإساءة .
غالبية العراقيين في ليبيا صدرت عنهم تصرفات لا تليق , وذاك من ذاك الذي إحترم نفسه , حتى أولئك الذين يتبجحون الآن بالشعارات … تستطيع تلصق لكل واحد منهم طينته بخده ,, كما يقول المثل .
أول إحتكاكي بموضوع الطائفية كان في ليبيا .. أنا إمرأة علمانية , أساسا لا يهمني الدين بأي درجة كي أتحسس من مسألة سنة أو شيعة , لكني بالتأكيد حين أرى شخصا يسمى نفسه بروفسير ويربي سلحفاة ذكر صغير في بيته ويسميه (( صفوان إبن المعطل السلمي )) في إشارة غامزة لامزة الى عفاف أم المؤمنين السيدة عائشة التي إتهمت بهذا الرجل في حادثة الإفك المعروفة … أستدل على مقدار وضاعة الممارسة الطائفية خصوصا حين تصدر عن بروفسير .. ومتخصص في الفن فوق ذلك ؟
حين كنت في ليبيا ظهرت الأغنية الجزائرية التي إشتهرت في وقتها والتي تقول : عبد القادر يابو علم ضاق الحال عليا , فقام واحد من خيرة دكاترة الجامعة العراقيين السنة يحمل اختصاصا علميا نادرا بتعليق علم أخضر صغير مكتوب عليه ( يا باز ياأبو صالح ) داخل سيارته وحين يركب السيارة يشغل هذه الأغنية طول الطريق , سألته لماذا يادكتور ؟ يقول : حتى ذولاك الجماعة يشوفون .
طيب والعلم والشهادات والتخصصات , وأحاديثكم العلمية , ومحاضراتكم العملية ؟؟ هل هذه للزينة ؟
كان العراقيون يغتابون بعضهم كثيرا ويتكلمون بشأن غيرهم فيما لا يخصهم , ويعتبرون وجودهم في ليبيا محطة للوصول الى أوربا , وجالسين واحد يراقب الثاني ماذا يفعل من أجل ذلك الوصول , والى أين وصل , ناس تراجع الأمم المتحدة وتؤلف أكاذيب عصماء في سبيل قبول لجوئها , آخرين يحلمون بالعبور الى مالطا , بعضهم تزوج من مغربيات ليتمكن من الوصول الى مضيق جبل طارق .
الشقة التي بجانب شقتي يسكن فيها الدكتور طالب البغدادي وهو دكتوراه بتخصص نادر غادر العراق في إيفاد لكنه لم يعد , وجاء الى ليبيا للعمل فيها . تربطني به إضافة الى الجيرة , زمالة تصعيد جكات ماء الى شققنا .. كنا نتدمر يوميا بهذه العملية .. أنا بالذات التي عندي طفل محتاج الى الكثير من النظافة والتنظيف .
الحكومة الليبية كانت تصرف لنا رواتبنا سنويا .. ولأنها بالدولار فقد كانت تسلم لنا في بنوك تونس أو الأردن حتى لا نستعملها بالتصريف في السوق السوداء , لذلك كنا نعاني أغلب الوقت من مشاكل مالية أو شحة ذات اليد وهذا مشكلة بحد ذاته .
ذات يوم شاهدت الدكتور واجما حزينا … خير دكتور ؟ قال والله رسالة من بغداد فيها أخبار أذتني , وأشعر كرامتي مجروحة لأن اليوم صرخ بوجهي شخص من الجامعة حين كلمته في قضية صرف مستحقاتنا المالية .
قلت له : مشيها يا دكتور .. نحن يجب أن نأخذ تطعيم ضد جرح الكرامة .
لكنه كان متألما فعلا .
أخذنا جكاتنا وملأناها ماء , ونحن نصعد حتى الطابق الرابع قلت له أن يخرج من البيت ويحاول تسلية نفسه لكنه قال أنه تعبان سيعمل شاي ويحاول ينام قليلا وهكذا إفترقنا .
بعد يومين سمعت طرقا على بابي , حين فتحت وجدت دكتور سوداني يسأل عن الدكتور طالب , قال إنه منذ يومين لم يذهب الى الكلية .
في اليوم الثالث جاء السوداني وسألني فقلت له أنني لم أره , قال تعالي معي .
حين وصلنا باب شقته , ضربها السوداني بكتفه ضربه قوية , انفتحت الباب فشاهدنا الدكتور طالب جالسا على السرير .. مسلما الروح .. وعليه علامات إنتفاخ قليل .
مثل المجنونة ركضت الى شقتي لم أكن أريد لإبني ان يرى هذه الحادثة وخلال خمس دقائق كنا قد غيرنا ملابسنا وذهبنا الى مدينة الألعاب .
عدنا عند التاسعة مساءا وكانت سيارة الإسعاف وجمهرة من الناس بجانب العمارة .. عندها حملت إبني وذهبنا لتناول العشاء في مطعم برأس الشارع ريثما ينتهون .
كنت أتحاشى العلاقة مع العراقيين قدر الإمكان .. أحاول جعلها جيدة ولكن بعيدة أو متباعدة .. وربطتني علاقة طيبة مع جارتي الدكتورة المصرية من كلية القانون متخرجة من جامعة السوربون , كانت سيدة عجوز وحيدة ولهذا فقد كنا طول الوقت أما عندها في البيت أو هي عندي في البيت .. صحيح أنها كانت ترهقنا بتدينها الشديد .. لكن الإرهاق لهذا السبب , أفضل كثيرا من التعرض للمشاكل مع غيرها من الناس . فجأة ودون سابق إنذار أنهت الدكتورة علاقتها مع الجامعة وعادت الى باريس لتعمل هناك كداعية إسلامية .
بعد أسبوع من رحيلها دعتني جارتي العراقية الدكتورة بثينة لشرب الشاي معها وكنا نتفرج على التلفزيون قناة إم بي سي , حين بدأت نشرة الأخبار , ظهر التايتل وقبل أن تظهر صور المذيعين أو كلامهم شعرت كأني أحلم لأني رأيت صورة عمي الشاعر عبد الوهاب البياتي تغطي كامل الشاشة وصوت يقول : البياتي في ذمة الخلود .
مباشرة عرفت أنهم قد وصلوا له .. صحيح انه مات بعمر 73 سنة لكن أخوته وأخواته الأكبر منه أحياء لحد اليوم .
كل العراقيين الموجودين في ليبيا بمختلف إتجاهاتهم قدموا لتعزيتي وقد تقبلت ذلك منهم شاكرة ممتنة .
بعد عشرة أيام جاء دكتور من كلية الطب لتعزيتي ثم بلغني شيئا خطيرا , قال : يا دكتورة انا اليوم صباحا كنت في السفارة العراقية ….. على لوح إعلانات السفارة معلق إعلان : الدكتورة ميسون البياتي مطلوبة للتحقيق وعلى من يعرف مكان عملها أو محل إقامتها تبليغها بذلك .
قلت له : الفضل للنشامى العراقيين أن السفارة تعرف محل عملي وإقامتي فإذا كنت مطلوبة للتحقيق أو غيره فيستطيعون إرسال تبليغ لي مباشرة , ومن دون هذا التبليغ الخطي أنا لن أدخل السفارة .
بقي إعلان طلبي للتحقيق معلقا على لوح إعلانات السفارة العراقية في طرابلس مدة ثلاثة أشهر , وقام النشامى ( المعارضة ) الذين يتسلمون رواتب من السفارة العراقية بتوصيل خبر الى عمادة كليتنا , أن الدكتورة ميسون البياتي كانت تعمل قوادة مع عدي … وإختلفت معه .. وغادرت العراق … وبسبب ذلك هي مطلوبة الآن للتحقيق .
ماذا أقول ؟ سمعة حرامي .. سمعة قاتل .. ولا سمعة قواد , وأين يعمل هذا القواد ؟ في أوساط طلابية . فلا سامح الله الظالم .. لا في الدنيا ولا في الآخرة .
أخضعت الى تحقيق أشد من شديد وأعسر من عسير .. للتأكد من ( مؤهلاتي الإجتماعية ) . والأهم من هذا كله أن شبهة عملي مع عدي كانت حافزا لليبيين لمعرفة أي معلومات عنه , خصوصا في تلك الفترة من عام 1999 عندما بدأت الحكومة العراقية تغازل أسامة بن لادن , للقدوم والعيش في العراق .
الليبيون كانوا مرتعبين من فكرة أن صدام قد نصب لبن لادن فخا .. يسلمه فيه لأمريكا مقابل فك الحصار عن العراق .
وصل تعب حالي الى حد لا يمكن أن يطاق .. فكلمت زوجي في بغداد , طلبت منه أن يأتي ليبقى معنا لفترة ريثما تهدأ الأمور … فأنا لا أعرف ما الذي سيحصل بعد ساعة . وكان وزير الثقافة والإعلام قد أحاله الى عدة لجان تحقيقية بسبب هروبي من البلد , كانت الوزارة تريد أي معلومات عني وتسعى بكل الوسائل لإعادتي الى العراق .
من أجل تأمين نفسي ضد الحكومتين العراقية والليبية , قمت بالإتصال بمكتب الأمم المتحدة في طرابلس .. من يدري ؟؟؟ ربما يلقى بي الليبيون في السجن .. أو يرسل لي العراق مذكرة إحضار . لهذا يجب أن يكون مكتب الأمم المتحدة على علم بقضيتي حتى يتخذ إجراآته عند أول تبليغ .
إستقبلني موظف الأمم المتحدة , الذي أبلغته أنني دكتورة أقوم بالتدريس في الجامعة وبنت أخ الشاعر البياتي الذي وصلت له الحكومة العراقية وإغتالته بطريقة ما .. بعد موته صنعت لي السفارة العراقية مشكلة مع الإدارة الليبية وأنا حاليا خائفة من الطرفين .. لا أريد من الأمم المتحدة شيئا غير التدخل اذا وقع أمر طاريء .
بدأ الرجل يسألني أسئلة عديدة .. فجأة وكأنه تذكر شيئا , قال لي : دكتورة أنت كنت تشتغلين في التلفزيون ؟
قلت : نعم في تلفزيون العراق من بغداد
فنظر بوجهي نظرة فاحصة .. شاكة .. متعجبة .. وقال بشكل مباغت : عليكي في مكتبنا هنا في طرابلس عشرين شكوى
قلت : من إشتكى علي ؟
قال : النساء اللواتي كنت تأخذيهن الى عدي .
كانت عايزة … وتمت .
الإدارة الليبية كانوا ناسا أشرافا فلم يغدروا بي , لكني تسلمت منهم تعليمات تقول : غادري ليبيا , من المحتمل تصل بحقك مذكرة إحضار , نحن لا نريد تسليمك , ولكن العراق قد يعاملنا بالمثل فلا يسلمنا ليبيين موجودين في العراق .
تكلمت مع زوجي .. اذا غادرت ليبيا .. الى أين أذهب ؟
لشدة وضعي وخطورة مشاكلي .. وعذاب حال العراقي الذي لا تقبله دولة على أراضيها .. كما تخليت عن زوجي حين غادرت العراق … سأتخلى عن إبني حين أغادر ليبيا .. تركته مع والده .. على أمل أن يلتحقا بي حين أرتب وضعي … أكبر ما كان يعذبني طيلة فترة غيابي عنهما .. أن يأخذ زوجي الولد ويعود به الى العراق .. ذلك معناه .. أنني لن أرى إبني الى أن يأذن الله .
وكنت كل ليلة حين أتمدد في سريري ,, عندي وصولي الى نقطة ما بين النوم والصحيان .. أسمع إبني يصرخ : ماما , فأفز مذعورة وأبدأ بالبكاء … فلا نامت عين الظالم .
وصلت الأردن التي ليس هناك بلد غيرها يستقبلني .. قادمة هذه المرة بواسطة طائرة أقلتني من مطار طرابلس الى مطار علياء في الأردن .. فالحصار الجوي كان قد رفع عن ليبيا بعد تسليم الليبيين عبد الباسط المقراحي والأمين خليفة فحيمة المتهمين في قضية لوكيربي الى السلطات الدولية .
الدنيا على كل ما فيها من سوء لكنها لا تخلوا من الخيرين , أنا وزوجي بشر علاقاتنا الإجتماعية واسعة جدا .. لذلك قمنا وكل من طرفه بالأتصال بمعارفنا لتأمين وضعي . لكننا كنا في فترة إمتحانات نصف السنة وهذه فترة ضعيفة جدا للحصول على عقد عمل دائم .. في نفس الوقت بقائي في الأردن بوابة العراق خطر جدا , فوفر لي الخيرون 3 عقود عمل مؤقتة …. أستاذ زائر , وإستشاري زائر في 3 دول عربية مختلفة .
بعد ثمانية أشهر من مفارقة إبني … حملتني الطائرة الى الأردن من جديد .. حين وصلت المطار ووجدت إبني في صالة المستقبلين .. تفرج العالم على جنوني .. صياحي .. ضحكي وبكائي .
أرسلت لي جامعة السلطان قابوس عقد عمل الى الأردن .. فقمنا بالمغادرة إليها .. سلطنة عمان دولة رائعة بناسها وأرضها وخيرها .. فيها هدوء ووداعة ووقار لا تجدهم في أي مكان . عملت في جامعتها الرائعة … لكن العراقيين الذين يعملون مع السفارة كانوا بإنتظاري .
دكتورة عراقية تعمل معنا في الجامعة … كانت تعمل في المخابرات العراقية حين قرر برزان التكريتي نشر جهازه في الخارج على شكل طلبة دراسات عليا , وهكذا حصلت الفاضلة على الدكتوراه .
كنت أعرفها من بغداد قمامة قميئة ضحلة ضئيلة وكاتبة تقارير , بعد عدة أشهر من وصولي الى مسقط .. راحت بلغت .. أن هذه ميسون البياتي التي تعمل مع عدي .. والأمر ليس إشتباه .. أخذت واحدة من قريباتي الى عدي .. وتعرضت قريبتي الى ضرب فلقة فإنكسر ظهرها .. وهي حاليا مشتكية على ميسون البياتي في مكتب الأمم المتحدة في بيروت .
إتصلت بي الجامعة .. وأبلغوني بهذا الكلام دون أي تعليق أو تحقيق .. كانوا ينتظرون ردي وتعليقي .
حملت نفسي .. وذهبت الى السفارة العراقية في مسقط , وكلمت السيد السفير الأستاذ فاضل شاهر .. وهو رجل خير لا علاقة له بدسائس السفارة التي تحركها جهات اخرى , تعمل مباشرة مع بغداد ودون الرجوع إليه , وعدني بالكتابة الى بغداد في كل الموضوع .
بعد شهرين جاء الرد من عدي يقول : عودي الى العراق .
قلت : طيب أرجع ولكن بعد أن أتم السنة الدراسية .. لن يسمح لي بترك العمل إلا بعد تسليم الدرجات .
كانت عندي فسحة من الوقت عدة أشهر أرسلت بها جواز سفري بواسطة البريد الى عدة سفارات … فحصلت على فيزة من بلد إقامتي الحالي . إشتريت تذاكر طائرة لي ولإبني . في يوم تسليم الدرجات وقبل أن تتصل بي السفارة العراقية , كان زوجي قد أوصلنا الى المطار فأخذنا الطائرة الى ديار الغربة البعيدة .
حين ختموا لي الجواز بكلمة : دخول .. تخطيت البوابة ورحت سلمت على أقرب شرطية أعطيتها جواز سفري وقلت لها إنني لن أغادر .
عكس ما نسمع من كلام الناس .. تم التعامل معي بهدوء وبشكل عادي , مشكلتي في هذا البلد أنني لا أعرف أحدا .. ولا أريد الإتصال بأحد .. لكني اذا إحتجت أبسط الأشياء فلا أعرف كيف أتصرف .
صدمة البعد , حاجز اللغة , عدم وجود أحد , عدم معرفة الخطوة التالية , كانت أمورا مدمرة . ورغم هذا بعد أسبوعين كنت قد أكملت تنظيم معاملة مع دائرة الهجرة وعلي الإنتظار الى أن تستكمل إجراآتها وهذا يتطلب وقتا ,, لا أحد يعلم كم يطول .
خرجنا من الفندق .. أجرت دارا صغيرة , سجلت إبني في المدرسة , وكان علينا أن نناضل هذه المرة من أجل جعل اللغة الإنكليزية هي لغتنا الأولى وندفع العربية الى الخلف , والحمد لله لم يكن ذلك شاقا بالنسبة لكلينا .
وفي الأيام التي أحتاج بها الى البكاء .. أفعل ذلك حين يذهب إبني الى المدرسة .
حين أخرج الى الشارع أحمل معي دائما ورقة وقلم أسجل كل الملاحظات عن الطريق .. أرقام البيوت , أسماء الشوارع .. كان عندي هاجس أنني لن أتمكن من العودة الى البيت اذا لم أفعل ذلك .
ذات يوم رن الهاتف في بيتي , شخص قال لي بلهجة عراقية : مرحبا دكتورة
أنا وزوجتي نريد نزورك للترحيب بك .
قلت : أهلا وسهلا
حين وصلا قال إن بعض العراقيين سمعوا بقدومي فبلغوا الحكومة ضدي وأنهم لا يرغبون وجودي هنا لأني كنت أعمل مع عدي
قلت له : وبعدين ؟
قال : أخذي نصيحة أخ .. ضباط أمن ومخابرات .. عذبوا وقتلوا وسجنوا , وحين هربوا من العراق وجدوا دولا تحميهم بعد أن إعترفوا بكل ما قاموا به … ماذا عملت أنت ؟ عرفت ناس على ناس ؟ ثم ماذا …
قلت : طيب حتى الحرامي الذي يعترف على نفسه يسأل أيضا من أي باب دخلت ومن أي شباك خرجت .. أنا اذا سألت مثل هذه الأسئلة ماذا سيكون ردي اذا لم أكن انا الشخص المعني ؟؟
فنظر الي وقال : أنت اعترفي الآن انك كنت تشتغلين مع عدي ,, وهذه الأشياء بسيطة ,, تتذكريها بعدين .
نظرت بوجهه وانا أهم بأن أصرخ : يا سافل , لكني تماسكت مصرة مع نفسي أنه لن يخرج اليوم من بيتي دون أن أهينه .
سألته : انت من العراق وصلت الى هنا مباشرة ؟
قال : لا والله أنا كنت أشتغل بالكويت وبعد الغزو طردونا وأنا ما كنت أحب أرجع للعراق بعد الذي حصل فوصلنا الى هنا .
قلت : أنا عشت في ثلاث دول خليجية وأعرف الأوضاع جيدا .. وعندي صديقات من عائلة الصباح نفسها .. هل تدري لحد الآن يوجد ربع مليون عراقي في الكويت .. الذين طردوا كانوا شرطة صدام فقط
قال : تقصدين انا شرطي ؟
تجاهلت سؤاله وسألته : أنت جئت من تلقاء نفسك تبلغني هذا الموضوع أم أحد أرسلك ؟
قال : نعم أنا مكلف من حكومة هذا البلد بالتفاهم معك حول الموضوع
قلت : شفت !!؟ الشرطي يبقى شرطي وين ما يروح . ومثلما حملت رسالة تحمل ردها . روح قول للحكومة الدكتورة ميسون البياتي تقول لكم أنا ليست لي أي علاقة مع عدي ولا أي علاقة بواحدة ثانية منتحلة إسمي إشتغلت معه , اذا تريدون تحققون أو تتصرفون أي تصرف هذا من حقكم ولكن تصرفوا بعدالة وبدون غدر .
منذ صباح اليوم التالي ولمدة عام كنت أخضع للتحقيق اليومي المطول الذي شاركت به عدة دول كل من مصلحتها تجميع أكبر قدر من المعلومات عن عدي الذي لم أكن أعرف عنه أي شيء بإستثناء أنه ابن الرئيس وأنه تجنى علي جناية كبرى بواسطة ميسون خضر عباس معلمته . عدة مرات صرت على حافة الإنهيار العصبي حين أنكر معرفتي به فلا يصدقني أحد .
أخيرا سقط النظام .. إجتاح الأمريكان العراق وأسقطوا صدام , واحد من المحققين ناولني عددا من مجلة تايم البريطانية على غلافه صورة مكتب صدام في القصر الجمهوري يشتعل .. بعد أسبوع منحت الإقامة الدائمة وتوقفت التحقيقات معي .
حين خرجت من هذه المحنة كنت خائفة متعبة … ثقتي بنفسي مهزوزة بسبب اسم ميسون البياتي الذي أحمله .. لكن الحياة توجب علي التصرف بإعتيادية وطبيعية .. فقبل كل شيء أنا أم .. ويجب أن أربي إبني تربية سوية .
ذات يوم إشتريت الصحف صباحا … وعلى الصفحة الأولى شاهدت صور جثتي عدي وقصي … يشهد الله أنني لم أشمت بهما .. ما الداعي للشماتة والموت طريقنا كلنا ؟؟ … ومن لم يمت بالسيف مات بغيره ؟
لكني حمدت الله أنه طول عمري , وجعلني أشاهد موت عدي .. بعد أن كنت أظن أنني سأهلك مظلومه ويبقى هو ظالما مخلدا في الحياة الدنيا . ما فرقي عنه اذا كنت أشمت بموته ؟؟
طيلة حياته كنت أدعي عليه , لكنه حين مات دعوت ربي يرحمه , فقد مات وإنتهت أعماله في الدنيا , وهو الآن بين يدي قادر مقتدر . وتذكرت الحديث القدسي الذي يقول (( يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته محرما بينكم فلا تظالموا , والظالم سيفي أنتقم به , وأنتقم منه )) .
لكني أقول … إن إعدام صدام .. صبح العيد وليلة رأس السنة , أحزنني كثيرا , صدام لم يكن خروفا ليذبح بهذه الطريقة , لكنه كان رجلا إستعمله الأمريكان علينا , وضد مصالحنا , وحين إنتهى دوره , جاؤوا , ولم يمنحوه حتى محاكمة كاملة عادلة ومعلنة , لكنهم جزوا رأسه , بطريقة إنتقامية تخفي الكثير من الحقائق التي تكشف زيفهم هم ,
إنتظروا عقدا او عقدين من الزمان لتتكشف كل الحقائق .
على الأقل فرية إنتاج العراق لأسلحة الدمار الشامل التي تحجج بها بوش لغزو العراق ,, أثبت زيفها بعد أقل من عام واحد على الغزو ,, والبقية ستأتي .
كنت أفضل محاكمته عن حلبجة والأنفال قبل إعدامه بقضية الدجيل .
مؤكد تحاشى الأمريكان الدخول في ملفات شائكة مثل هذه , تكشف تورطهم في كل شيء ؟؟؟
عزاء صدام أنه مات بشجاعة كبيرة كسرت الفرحة في عيون أعدائه وأكسبته إحترام الكثيرين رغم كل الظلم الذي عاناه العراقيون على يديه . ورغم الحروب التي أدخلنا إياها والكوارث الإجتماعية التي صاحبتها أو نتجت عنها .
حين نفتقر الى العدالة في معاملة ظالم .. نحوله الى ضحية … مثلنا تماما … وهكذا مات صدام … رغما عن أنف الجميع .
أسوأ أنواع الجلادين في الحياة : هم أولئك الضحايا الذين يتحولون الى منتقمين .. فيقتلون ظالميهم بلا عدالة محولينهم الى ضحايا .
حين قدمت الى هذا البلد أرسلت شهاداتي للمعادلة فتمت معادلتها , لكني وجدت صعوبة شديدة في الحصول على عمل , لهذا قررت أن أقدم للدراسة للحصول على بوست كراديوت من هذا البلد لعله يعين عند التقديم على وظيفة , وهكذا قمت العام الماضي بالتقديم للجامعة فطلب مني ترجمة بعض الوثائق والشهادات , أرسلتها الى مترجم سوري بواسطة البريد على أمل ترجمتها وإعادتها بالبريد أيضا , في اليوم التالي رن جرس الباب واذا المترجم قد جلبها بنفسه , وقال انه يريد أن يكلمني في موضوع .
خير يا استاذ ؟ قال إنه يعمل مترجما مع دائرة الهجرة لهذا قضايا الكثير من طالبي اللجوء العرب تمر عليه . وقال هناك سيدة عراقية في العشرين من العمر ومعها طفل بعمر سنة واحدة موجودين في المحجر حالهما يصعب على الكافر , وسألني إن كنت أستطيع تقديم خدمة لهما , قال إن زوج الفتاة مقتول أثناء الغزو الأمريكي للعراق .
قلت له أخرجها من المحجر وسأستقبلها في بيتي الى أن يبت في أمرها , هيأت لها وإبنها مكانا وجهزته بالفرش والأغطية … لكن البنت لم تأت , ونسيت الحكاية .
بعد حوالي أربعة أشهر كنا نلعب الشطرنج أنا وإبني حين رن الهاتف .. صوت نسائي عراقي قال : مرحبا دكتورة . أنا سميرة التي كلمك عني الأستاذ المترجم .
كانت تسكن عند عائلة حبشية , وتعاني من الحياة معهم تماما , وسألتني اذا كانت تستطيع القدوم للعيش عندي . سألتها عن سبب عدم مجيئها منذ البداية للسكن معي فقالت إنها إتصلت بأهلها في العراق في وقتها وأبلغتهم , لكنهم لم يوافقوا , لكنها وبعد معاناتها مع الأحباش .. طلب منها أهلها الإتصال بي مجددا وسؤالي : أنا أي ميسون بياتي ؟ التي كانت تعمل في تلفزيون الشباب ؟ أم الثانية التي تعمل في تلفزيون بغداد ؟
مباشرة شعرت بكراهية أن تقدم هذه الإنسانة للعيش معي فقلت لها : أنا ميسون خضر عباس وكنت أعمل في تلفزيون الشباب .. ثم أنهينا المكالمة .
ثلاثة أيام بقيت أكلم نفسي بصوت عالي … بغداد تبعد عني 154 ألف كيلومتر .. وبعد كل الذي جرى لي .. في اليوم الذي أقرر أعمل فيه معروف بين الناس .. أواجه بهذا السؤال … آخرتها يا دنيا ؟؟
في اليوم الرابع .. أخذت إبني بسيارتي الى المدرسة صباحا .. وعند عودتي الى البيت , سرحت لحظة مع نفس الموضوع … فدخلت تحت لوري كان متوقفا أمامي … وتهشمت , لا أعرف كيف بقيت على قيد الحياة بعد كل تلك الكسور .
حين أفقت في المستشفى … شعرت أنني تحولت الى إنسان آخر .
لن أسكت بعد اليوم .
وسأواجه قضيتي ولن أهرب منها .
الشهر المقبل سأدخل المستشفى لإجراء سبع عمليات جراحية دفعة واحدة .
وأرجع لك يا دنيا , حتى أعرفك من هي ميسون البياتي .. أنا .
يقول مايكوفسكي :
ها أنا ذا أتنفس
…
كان الله في عونك، رحلة مهولة بكل ما تحمله الكلمة من مشاق وهموم وأحزان ومكايد ودسائس تلاحق العراقي الشريف مثل ظله، وتثكله أينما حلٌ وإرتحل. البعض مع الأسف الشديد يصل به الحقد والضغينة لدرجة مأساوية لا علاقة لها بالإنسانية بحيث يأنس في رؤية عذاب الآخرين، ويتلذذ بها تلذذ همجي يلاعب جمجمة ضحيته. سيدتي! لاغرابة في رأيك البته، هذا هو حال العراقيين في الغربة، نفاق وكذب ودجل ونميمة وحسد وطائفية مقززة، أسوأ جالية من بين دول العالم، وشر مستطير يُنصح بالإبتعاد عنه.
سيدتي لأهون عليك الأمر قلبلا، مرُ الكثير بمثل تجربتك المرة والكاتب واحد منهم، وربما البعض مرٌ بأشد منها، وإن كنت والحمد لله وصلت الى مرفأ الأمان بعد رحلة عذاب مريرة، فإن البعض تلاحقته أمواج اليم وكان البحر كفنه.
حمد الله على سلامتك ونسأل الله تعالى أن يعافيك من المسور والآلام ، وتعودي سالمة لأحبابك، إنه السميع المجيب.