تبا للمستحيل

iraqmealد. ميسون البياتي

شوارع المنصور تغص كل عصر بالناس والسيارات , حين توقفت العمليات العسكرية بعد 45 يوم من القتال عاد البشر يدبون على أرضها من جديد , كانت الكهرباء مقطوعة لذلك عمدت المحلات الى إشعال الشموع والفوانيس لعرض بضاعتها للمشترين .
ذات عصر , شباب كانوا يتشكلون في مجموعات كبيرة .. يتحدثون بينهم بصوت عالي , بكلمات إستهزاء ساخرة , تبدو غير مفهومة , لكنها ( تصجيمات ) معانيها واضحة على كل حال , ثم ينطلق الغناء :
سلمتك بيد الله يا محملني أذية
يا ريت ما شفتك , إشجابك علي
يا خسارة تعبي وياك ماتستاهل أنا أهواك
ياظالم ما ترحم وما تكفيني عذابك
ما أبكي وأتألم لا يغرك شبابك
دنيا وبيها أعيش .. غصبا عني وعنك
ما أبقى بلا حب ولا أترجاه منك
سلمتك بيد الله ….
وكانت هذه كلمات أغنية لمطرب جديد ظهر قبل الحرب بحوالي سنة إسمه : كاظم الساهر . وأنت تنظر الى اللوعة الجماعية التي يؤدون بها أغنيتهم , فينضم لهم عدد آخر من الشباب ليتحول الشارع الى شبه أغنية جماعية , كان يقول وبلا جدال يدعو الى الشك أن هؤلاء البشر قد حولوا هذه الأغنية الى هتاف ضد صدام .
كنا نتحاشى الظهور بين الناس تلك الفترة فالناس ينظرون للمذيع الذي يرونه من على الشاشة كل ليلة .. وكأنه صدام نفسه . لذلك سمحت وزارة الداخلية لمن رغب منا بحمل سلاح بفعل ذلك . كما صدرت تعليمات مشددة بأخذنا الحيطة والحذر .
في موعد مغادرتي الصباحية الى الجامعة , وبسبب شحة البانزين , كنا جميعا نقف بإنتظار الباص في تجمعات بشرية كبيرة يزيد عددها على المئات .. كان ذلك أيام مفاوضات ( خيمة صفوان ) التي جلست فيها القيادة العراقية لتوافق على كل ما أملي عليها من شروط .. ليظل الحاكم ( منتصرا ) على كرسي الحكم . كل صباح كانت الطائرة الأمريكية تأتي وتحلق فوقنا نحن الواقفين في الشارع بإرتفاع خفيض لترتفع عموديا فجأة خارقة حاجز الصوت في حركة إستهتارية بمنتهى الإستهانة .
كان الماء مقطوعا بسبب عدم وجود كهرباء ,, ولا تدري لماذا توجد حنفية في الشارع على الرصيف المحاذي لسكة القطار في منطقة إسكان غربي بغداد , تسيل ماءا طول الوقت لذلك يتجمع الناس أمامها صفا لتعبئة جكاتهم .
كانت عندي عربة ( ترولي ) صغيرة كنت أضع عليها جك الماء وألزم دوري بين الناس . وكذلك مع قنينة الغاز التي كنت أستبدلها من المحطة القريبة من تمثال أبو جعفر المنصور .
الحمد لله أن الربيع أقبل فقلت الحاجة الى النفط لتشغيل المدافيء النفطية .
في هذه الفترة , صارت بيوت بغداد معارض للرايات السود للذين ماتوا وغادرونا في ذلك القتال المشين .. تبت يدا من أوقع على العراقيين ما أوقع . بعض البيوت كانت تعلق أكثر من 5 أو 6 رايات .
جريدة الثورة كانت تصدر تلك الأيام وعلى صدر صفحتها الثانية مقالة تغطي الصفحة بأكملها بتوقيع ( مقالة لكاتبها ) …. كاتبها يحمل العراقيين مسؤولية خسارة الحرب لأنهم لم يصمدوا في القتال . يا أبو عدي يرحم موتاك , التفكة كيف تصمد ضد الأواكس ؟ لو تريدنا نقاتل بالشجاعة والمباديء !؟ أنت شكد عتيك !؟ عبالك إحنه بعدنا بالقادسية ؟ سيدي هاي أم المهالك .. قصدي المعارك .
كنا على أعتاب تشكيلة وزارية جديدة .. لذلك تبارى السادة المسؤولين وكل يطمح من ناحيته أن يصير وزيرا أو مسؤولا في الوزارة الجديدة الى إطلاق شعارات رنانة وتسجيل كلمات للإذاعة والتلفزيون كانت عرضة لسخريتنا نحن المذيعين , كنا نحن الذين نقرأ الأخبار ومجبرين نسمع كل كلامهم فنصنفهم : هذا للداخلية لأن حسه الأمني قوي , وهذا للمالية لأن عينه على الإقتصاد .. صاحب مقولة ( ما نريد ديمقراطية.. إنت فصل وإحنه نلبس ) تخيرناه لأنفسنا وزيرا للإعلام … وهكذا .
والى أن صدرت التشكيلة الوزارية الجديدة .. وضاعت طموحات البعض في الحصول على منصب .. فقد غادر الكثيرون منضمين الى المعارضة . وكان الزيتوني العظيم بطل الإذاعة والتلفزيون الأسطوري الذي يستحق دخول إسمه الى موسوعة غينيس للأرقام القياسية كصاحب أكبر نذالة في العالم , واحدا منهم .
غمرت نفسي بالعمل في الجامعة صباحا والتلفزيون مساءا .. كنت أريد نسيان همومي .. كنت أذوي , نحفت نحافة موت , أما معنوياتي فقد كانت في الحضيض , لكني لم أجد أحدا يقتلني , فكان علي الإستمرار بالحياة , وفكرة الإنتحار بعيدة عن ذهني , لا أجرؤ عليها , يوقفني هاجس واحد : كيف ستعود الى الحياة كإنسان , إذا تمكنت من تنفيذ حكم الإعدام بنفسك ولم تمت ؟
زوجي رجل رائع , فنان وإنسان ومثقف , تناسى همه الشخصي في ضياع الوطن وفقداننا إبننا , وتفرغ لتمريضي , إحدى وسائله للعلاج , لم تكن إرغامي على الذهاب الى الطبيب الذي كنت ما زلت أرفضه , لكنه قال لي ذات يوم : ميسون .. ما رأيك لو نشتغل سوية في فلم وثائقى .. نكتبه سوية .. أنت تديرين لقاءاته المباشرة مع الناس في كل مكان .. وأكون أنا المخرج ؟
قلت : وهل تقترح موضوعا ؟
قال : نعم .. العراق الذي علم البشرية الكتابة قبل 6 آلاف سنة هل يستحق أبناؤه الموت بهذه الطريقة ؟ ونسمي الفلم بعنوان ( الجزاء ) .
وبعد عدة مداولات بيننا عن أي موت سنتحث , قال : موت أطفاله مثلا .
عندها عرفت أنه تلاعب علي من أجل إيصالي الى الموافقة على المشاركة في إنتاج يمس أقرب جروحي المدمرة .
قلت له : ولم لا ؟
زرنا لتسجيل هذا الفلم الوثائقي مستشفى صدام للأطفال في الوشاش , وقسم أمراض الأطفال في دار التمريض الخاص , ومختلف أقسام أمراض الأطفال في المستشفيات .
حين وصلنا الى باب مستشفى العلوية للولادة التي مات فيها إبني بكيت في الشارع ولم أستطع الدخول .
حين ذهبنا الى مدينة الطب , قال لنا مدير المستشفى : اذا تريدون تصورون فاجعة ما بعدها فاجعة , أرسلكم الى قاطع خاص , وضعنا فيه عشرين طفلا جلبوا من البصرة , مصابين بمختلف أنواع اللوكيميا والسرطانات , ظهرت عليهم بعد الحرب نتيجة إستعمال اليورانيوم المنضب الذي يغلف الإطلاقات التي أطلقها علينا الأعداء . حين صعدنا الى ذلك القاطع رأيت جريمة لا تقل عن جريمة قصف ملجا العامرية , ألا وهي جريمة إغتيال براءة الطفولة .
أطفال أعمارهم مابين الثالثة الى عشر سنوات , جميلون , وادعون , كلهم يعلمون أنهم مرضى , لكنهم لا يدرون ما هو مرضهم , يحتضرون بصمت وهدوء ووداعة , وينظرون إلينا نظرة تساؤل عن سبب وجودنا في ذلك المكان . يرافقهم آباء أو أمهات .. مذبوحون من الوريد الى الوريد .. لكنهم يبتسمون .
لا أدري كيف تمكن مصورنا من تصوير وجوههم , أشار إلينا الطبيب المسؤول عن القاطع لإجراء اللقاء خارج المكان .
حين دخلنا غرفته .. لنتفق , ومن دون ان ننظر في وجوه بعضنا , تكلمنا عما يمكن أن نحكي أو نسأل عنه , فجاة إلتقت نظراتنا .. فإنفجرنا بالبكاء .
بعد ساعة تمكننا من ضبط أعصابنا لتسجيل كلام الدكتور , لكنني لم أستطع ان أسأل , حملت المايكرفون فقط وأعطيت ظهري الى الكاميرا .
كنت أعتقد ما تعرضنا له , إبني وأنا هو نهاية العالم … لكني في ذلك المكان إكتشفت أن ما أصابنا كان هينا أمام ما وقع على بشر أخرين مثلنا لا يقلون عني وعن إبني إنسانية .. عندها بدأت بتقبل ما جرى لنا , غير أني لم ولن أسامح نفسي أني جبنت .. فقتلت إبني .
نهاية العام 1991 كلفني المخرج الأستاذ محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية في الفلم التاريخي ( الملك غازي) , أجواء عمل الفلم غير المألوفة في حياتي , أخذت الكثير من وقتي وأنستني الكثير من الهموم .. وكانت محبة العراقيين وإحترامهم الكبير لي خير بلسم داوى الكثير من جروحي .. الله على طيبتكم يا عراقيين .. لا يدركها إلا من أذلته الغربة بالعيش بعيدا عنكم .
قدمت طلبا الى السيد وزير الصحة طالبة الموافقة على منحي إذنا بالعلاج خارج العراق , عند مقابلتي له سألني عن أشياء كثيرة , كان رجلا خيرا دافئا , قال : على مسؤوليتي هذه المرة تخرجين من المستشفى وإبنك بين ذراعيك . ثم رشح لي الاستاذة الدكتورة وسناء أحمد الياور , لتكون طبيبتي الخاصة بعد رحيل الدكتورة عفاف الجبوري عن هذه الدنيا بغدر الحرب .
أجريت عدة عمليات جراحية للتخلص من آثار الإجهاض الهمجي الذي أوقعته علي الطائرات الأمريكية ليلة قصف فرع أبو جعفر المنصور لحزب البعث العربي الإشتراكي . حالي حال أي بناية على أرض العراق دكتها الطائرات الأمريكية ويعاد ترميمها الآن تحت شعار : تبا للمستحيل .
شهر حزيران من عام 1993 حملت من جديد . سترك يا ربي .. إبني الشهيد حملت به في حزيران ايضا .
نتيجة للحصار الذي فرض على العراق بقرارات الأمم المتحدة والقرارات الأمريكية , بدأت مخازن السلع تفرغ من محتوياتها , كما بدأت قيمة العملة بالإنهيار .
حين وصل سعر كيلو السكر الى 6 دنانير , تم جمع عدد من تجار العراق وإعدامهم بإعتبار جشعهم هو الذي تسبب في إرتفاع الأسعار , لكن الحكومة وبعد فترة أصدرت قرارا بالعدول عن تجريمهم ومنحت عوائلهم مكافآات شهداء .
وماهي إلا فترة أقل من شهرين ويعلق سعر السكر ب 150 دينار للكيلو .. فعقد إجتماع طاريء لمجلس الوزراء , سأل صدام الحاضرين عن طريقة لوقف تدهور أسعار العملة وأسعار السلع لأن الناس ماتت من الجوع .
أجاب رئيس الوزراء : إذا كنت يا سيادة الرئيس تريد تخفيف هذا الإنهيار فأوقف أولاد عائلتك وعشيرتك عن التجارة .
عند نهاية الإجتماع تم إعفاء رئيس الوزراء من منصبه , وصار صدام رئيسا للوزراء إضافة الى كونه رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة .
سياسة تبا للمستحيل هذه عممت على كل الوزارات ومن لا يقدر , حتى لو كان ذلك عن إستحالة .. يعفى من منصبه .
الأقمار الصناعية التي كانت فوق سماء العراق بدأت تقوي إرسالها التلفزيوني وتفنن المواطنون في طريقة صنع أطباق لاقطة من مواد لا تخطر على البال .. وتناهى الى أسماع الحكومة ذلك .. فصدر قرار : كل من يعثر لديه على طبق لاقط , سيصادر منه , ويسجن صاحبه 6 أشهر .
في إجتماع مجلس الوزراء التالي طالب رئيس الوزراء وهو صدام هذه المرة , وزير الثقافة والإعلام بالتشويش على الفضائيات كما نقوم بالتشويش على الإذاعات , فكان رد الوزير أن ذلك محال , فهذا تقدم تكنولوجي لا يمكن لنا قهره . عند نهاية الإجتماع أعفي الوزير من منصبه و تبا للمستحيل .
من شروط خيمة صفوان : مزيد من الممارسات الديمقراطية , التعددية الحزبية , تعدد وسائل الإعلام والصحف .
بالنسبة للممارسة الديمقراطية , حلها هذه المرة ( الخاكي الطرطور ) عوضا عن ( الزيتوني العظيم ) .
صرح الخاكي الطرطور ( ما نريد ديمقراطية .. أنت فصل ونحن نلبس ) , وذلك ليس غريبا على رجل يتغزل بأثداء زوجته وحلماتها في مقالات منشورة يستجدي بها إكرامية من الدولة .. ورجاءا لا تخلونا نسمي بالأسامي , وإلا والله أقول إسمه , ومن أسعد أيام حياتي , يوم سمعت بعد الغزو الأمريكي في 2003 أنه هو الذي سلم نفسه للأمريكان ليحموه من ( حملة عمل شعبي ) لعراقيين يلاحقونه لقتله .
بالنسبة للتعددية الحزبية .. نشرت الدولة إعلانا عن سماحها بتأسيس الأحزاب .. ولكن تحت إشراف مقيت يجعل من أي حزب جديد . شيئا يشبه تلك النكتة القديمة التي تقول (( الحزب الفلاني لصاحبه حزب البعث العربي الإشتراكي )) لذلك لم تتأسس أي أحزاب .
بالنسبة الى تعددية الصحف ووسائل الإعلام .. تصرفت الدولة بشكل آخر … تم تأسيس كيان ( التجمع الثقافي في العراق ) … بإعتبار يا بعد عيني , أن العراق يملك كيانات ثقافية متعددة سيوحدها تجمع واحد , وصار عدي صدام هو الرئيس لهذا التجمع الثقافي …. هلوو أبو سرحان
تلفزيون العراق من بغداد وقبل الحرب كان يضم قناتين : القناة الأولى والقناة الثانية .
بعد الحرب صفى قناة واحدة أسمها : تلفزيون العراق من بغداد .
كما أخذنا بناية التلفزيون التربوي في الأعظمية وأسسنا فيها محطة تلفزيون بغداد الثقافي .
نظام البث العراقي هو نظام ( سيكام ) فرنسي بنته لنا فرنسا بالمليارات كشرط من شروط بناء المفاعل النووي وسلمتنا إياه عام 1976 .. ولست أدري من أين جلب لنا عدي أستوديو بث نظامه ( بال ) ليتم نصبه في استوديو قديم في الطابق الثالث من البناية كنا قد هجرناه منذ العام 1980 .. لإفتتاح تلفزيون الشباب .. أظن الأستوديو مسروق من الكويت . لأن الذي يشتري شيئا , فإنه يشتريه ضمن خطة , أما الذي يسرق شيئا فإنه يحمله مثلما هو .
حين بدأ بث تلفزيون الشباب بالنظام ( بال ) .. وتلفزيونات الناس أكثرها تعمل بنظام سيكام فقط , فقد أنزلت الى أسواق الكاظم في بغداد وبقية أسواق المحافظات أجهزة ( ترانس كودر ) بيعت بسعر 25 دينار تربطها على تلفزيونك لتتمكن من تسلم بث تلفزيون الشباب الذي تم إفتتاحه يوم 17 / تموز / 1993 .
حادثة طريفة وقعت في حدود تلك الفترة من الوقت . واحد من أعضاء القيادة القومية لحزب البعث العربي الإشتراكي قام بزيارة رسمية الى فرنسا , وهناك نظموا له جدول زيارات الى مختلف الأماكن ومنها متحف اللوفر , شاهد في اللوفر معروضات مختومة بختم ( مركز صدام للفنون ) , حين عاد كتب ذلك في تقرير , ومن نتيجة التحقيق الذي سببه ذلك التقرير , إلقاء القبض على شبكة كبيرة لتهريب الآثار والمخطوطات والتحف واللوحات .
الشخص المسؤول عن هذه العصابة ولأنه من ( المعيه ) فقد تم إعفاؤه من العقوبة وأكتفي بإحالته على التقاعد . أما أفراد العصابة وبضمنهم نساء فقد ظهروا في التلفزيون في تقرير فلمي أرسلته لنا مديرية الأمن العامة .. صباح اليوم التالي كان قد تم إعدام الجميع شنقا حتى الموت , بضمن هؤلاء سيدة كانت تعمل في الإذاعة .
في غضون هذه الفترة تم إعدام 73 ضابط من ضباط الجيش من عشائر الجبور والجميلات إنكشف للدولة أنهم ينظمون لقلب نظام الحكم عسكريا . نعم .. الدولة كانت قد وصلت الى حالة من الضعف والفساد الذي لم يسكت عليه لا الجيش ولا الشعب , لكن الحكومة كانت جائرة في عقوباتها التي توقعها على الناس بلا رحمة .
الشاعر محمد مهدي الجواهري والشاعر عبد الوهاب البياتي قاما في العام 1993 بحضور مهرجان الجنادرية في المملكة العربية السعودية , فأسقطت عنهما الجنسية العراقية .
ولأن الشاعر عبد الوهاب البياتي هو عمي , فقد أمرني عدي أن أظهر في التلفزيون .. في البرامج الثقافية التي أعدها وأقدمها لإستهجان ما قام به عمي وإنتقاده والنيل منه .
أنا وبعد كل الذي مر علي وعلى بلدي , وشاهده ناسي قبل شهور قليلة , هل يمكن أن أنفذ مثل هكذا أمر ؟ .. لكنني حامل , والعصيان قد يكلفني فقدان ولد جديد . لذلك زرت الدكتورة وسناء الياور مدعية إدعاءات شتى حتى جعلتها تدخلني مستشفى دار التمريض الخاص عدة مرات مددا تزيد على الشهر في كل مرة , الى ان أنهيت حملي .. هل يمكن أن يأتون الى المستشفى لإخراجي وجعلي أنال من عمي ؟؟
بعد أسبوعين من دخولي المستشفى , نقل عدي معلمته في ثانوية كلية بغداد , المدعوة ميسون خضر عباس التي كانت تعمل معه وقتها كمديرة في اللجنة الأولمبية الوطنية الى تلفزيون الشباب وبدأت تظهر منتحلة إسمي : ميسون البياتي . حتى لو كانت هي أيضا لقبها بياتي , فلا يجوز لها إستعماله معي , فأنا أستعمله منذ عشرين عاما كإسم شهرة أظهر به في التلفزيون وصار مثل العلامة التجارية لا يجوز لغيري إستعماله .. ولكن هل يوجد في العراق قانون .. العراق في هذه الفترة كان : حارة كل من إيدو إلو .
أنا لم ألتق ميسون خضر عباس وجها لوجه إطلاقا , ولا أعرف أي شيء عنها , ولا أتهمها بأية تهمة , لكن الناس يقولون انها قوادة عدي . وهكذا وبعد فترة قصيرة من بداية ظهورها في التلفزيون , صرت إذا تسال أي مواطن صغير أو كبير , جاهل او متعلم , رجل او إمرأة : من هي ميسون البياتي ؟ يكون الجواب : قوادة عدي .
وقد كان ذلك الأمر خطة مدروسة بعناية من أجل تدميري .. أنا التي أحظى بهالة ملائكية في نظر الكثير من العراقيين , عززها قبل عام من تاريخه قيامي بتمثيل دور المغفور لها الملكة عالية آخر ملكات العراق التي لم تزل لحد اليوم في قلوب العراقيين وتصوراتهم : رائعة , كأم , وإنسانة , وملكة .
العقوبة رادع وليست إنتقام , هناك قانون تضعه الدولة إذا تجاوزه المواطن تقع عليه عقوبة رادعة وليست عقوبة إنتقامية , لكن الدولة بعد أن سقطت هيبتها بسبب ما وقع في الحرب بدأت تفرض عقوبات إنتقامية على المواطنين .. وإلا ما معنى صلم الآذان وجدع الأنوف وقطع الألسن وبتر الأطراف , ورمي الناس للكلاب لتاكلهم أحياء ؟ هل هذه عقوبات ردع أم عقوبات إنتقام ؟
أنا ومن دون أن أرتكب جرما أو ذنبا .. فقط كنت مريضة في مستشفى فلم أتمكن من تنفيذ أمر التنكيل بعمي , قام عدي بتوقيع كل تلك العقوبات الإنتقامية علي .. فصلم كنيتي .. وجدع إسمي .. وقطع لقبي .. وبتر شهرتي .. ورماني لكلاب الناس , من كل أجرب , وضال , ودعي قيمة وشرف , لينال مني , بشبهة إسم واحدة غيري يشبه إسمي .
عقوبة التنكيل بالإسم .. أكبر كثيرا من عقوبة التنكيل بالجسد .. فلا سامح الله الظالم , كائنا من يكون , لا في الدنيا ولا في الآخرة .
مستشفى دار التمريض الخاص تعتبر من أحسن المستشفيات في بغداد والعراق , ومع هذا بدأت علامات الضعف تبان عليها , أغطيتها صارت قديمة , أثاثها قديم , والأهم من كل هذا ليس فيها دم ولا دواء كافيان .
قبل موعد ولادتي , كتبت لي الطبيبة قائمة طويلة بأسماء الأدوية وعدد قناني الدم التي نحتاجها , أخذت منها الورقة ودرت بنفسي على كل مذاخر الأدوية في بغداد لجمع المواد , التي لم أجدها إلا في مذخر رقم 6 قرب نفق الشرطة خلف مركز شباب الفاروق . كانت هناك شحة رهيبة تلك الأيام بالأدوية والدم والأمصال .
حين حلت ساعة ولادتي , كنت منهكة نفسيا الى الحد الذي قررت معه طبيبتي القديرة دفع سريري الى صالة العمليات لتوليدي بعملية قيصرية , قبل زرقي إبرة المخدر , داعبت خدي بأصابعها وسالتني : ميسون خايفة ؟ قلت لها : لا .. ولكني أتأمل أما نعيش كلينا أو نموت كلينا أنا وطفلي , لم تعد لي قدرة على الحزن من جديد .
ولا أدري كم مر من الوقت لأحس على صفعات على وجهي وصوت الطبيبة تصيح : ميسون إصحي .. جالك ولد .. قرت عينك .
حين إسترددت وعيي طلبت مشاهدة إبني , فقيل لي إنه في صالة الخدج , كان نحيفا صغير الحجم الى درجة كبيرة , فوضعوه هناك ولايمكن إحضاره هذه الساعة .
ساورني الشك أنه ربما ….. ولا أحد يريد إخباري الآن , فطلبت من الحشد من الأهل والناس أخذي الى صالة الخدج في تلك اللحظة , وأمام إصراري لم يجدوا بدا من إحضار سرير وضعوني عليه ودفعوني الى صالة الخدج ,, وهناك رأيت حبيب عمري وحياتي للمرة الأولى , وضعوه في حضني لدقائق , حمدت الله وبوسته , وسميته ( المأمون ) , أسم وزنه على وزن إسمي , وهو لأعظم خليفة حكم بغداد , أطلق الإتحاد الفلكي الدولي أسمه على واحده من أكبر الفوهات الموجودة على سطح القمر من جانبه المنير عام 1963 , إعترافا بفضل الخليفة المأمون في قياس محيط الأرض بوسائل بدائية جدا وبنسبة خطأ تقل عن 80 مترا .
لا أدري من أين جاء الهاجس أن إبني ربما يحصل له شيء بعد ساعة أو ساعتين , ولحزن الكل على حالي فقد يستبدلونه لي بطفل آخر , وأظل طول عمري مخدوعة أحب إنسانا أظنه إبني لكنه ليس إبني .
عندها كان علي أن أبحث عن أي علامة فيه , نقطة , شامة , أي شيء , فلم أجد , لكني لاحظت حد الشعر المثلث على جبينه , قلت مع نفسي هذه علامة إبني … اذا أحضروا لي طفلا بلاها فلن أقبله .. ومنذ تلك اللحظة وحتى اليوم .. أحب قبلاتي لولدي من ذلك المثلث على جبينه .
كل الزملاء الصحفيين والإعلاميين إستقبلوا خبر ولادة إبني وكأنه بشرى لكل واحد منهم وهم يعلمون مقدار معاناتي التي مررت بها . الزميل الصحفي مجيد السامرائي نشر لي تهنئة بولادة إبني على الصفحة الاولى من جريدة الثورة تقول : مبارك ماما ميسون .
مشاعر الأمومة إستغرقتني وأنستني الدنيا وما فيها مدة ثلاثة أشهر .. وذات صباح وانا في إجازة الأمومة , رن الهاتف في بيتي , قيل لي أن السيد وزير الثقافة والإعلام يريد مقابلتي وأنهم أرسلوا لي سيارة التلفزيون لإصطحابي الى مبنى الوزارة . لم أكن أدري ما هناك ليتم إستدعائي وأنا مجازة لمدة سنة .
في مكتب الوزير بادرني مدير المكتب بالسؤال : ميسون كيف تتجرأين تغلطين وتتجاوزين على الأستاذ ؟؟
قلت مبهوته : أي أستاذ ؟
قال : الأستاذ الرفيق مدير ثانوية الإسكندرونة
بطرف عيني لمحت رجلا في المكان , نظرت اليه ثم قلت لمدير مكتب الوزير : من هو مدير مدرسة الإسكندرونة ؟
قال : الأستاذ الواقف جنبك
التفتت إليه وسالته : أستاذ انا أعرفك ؟ ألتقيت بك سابقا ؟
قال : نعم أنت تجسرت علي بالتلفون بألفاظ خارجة تماما عن الذوق والأدب وقلت لي أنا ميسون البياتي .. وأين ما يعجبك روح إشتكي . وانا عجبني أشتكي عند الوزير واريد أشوف كيف ستتصرفين .
قلت : أستاذ هناك واحدة ثانية إسمها ميسون البياتي تعمل في تلفزيون الشباب , أنا حاليا في إجازة أمومة .
بعد التحقق من حيثيات الشكوى تبين أن ميسون خضر عباس هي المعتدية على هذا الرجل الذي حين عرف ذلك .. دار رأسه وخرج من الوزارة .
في اليوم التالي ذهب إليه زوجي في المدرسة , وطيب خاطره , وترجاه أن يذهب الى أقرب مركز شرطة ويشتكي علي من أجل أن نفتح القضية , لكن مدير المدرسة رفض ذلك , قال أن القضية وصلت الى مكتب وزير الإعلام ولم يتخذ بها إجراء , فما الذي يمكن ان يفعله مجرد مأمور مركز شرطة !!؟
السمعة العفنة التي صاحبت اسم ميسون خضر عباس كقوادة لعدي .. وإستعمالها لإسمي جعلنا أنا وزوجي وأهلي ندرك أن إستمراري بعملي في التلفزيون معناه المزيد من المشاكل كل يوم .. والمزيد من حط القدر وتنزيل السمعة . ولم يكن هناك قانون أو قوة تحمي من جور عدي , لذلك حين انتهت إجازة أمومتي , وبهدوء شديد , ذهبت الى إدارة التلفزيون , أنهيت علاقتي تماما مع الإعلام , وتفرغت لعملي كتدريسية في جامعة بغداد .
كنت أعمل في رئاسة جامعة بغداد في الجادرية . غرفتي فوق مصرف الرافدين فرع الجامعة مباشرة تحت غرفة الدكتور الحارث عبد الحميد رئيس قسم الباراسايكولوجي , والذي تم إغتياله رحمه الله بعد الغزو الأمريكي للعراق في 2003 , كنت سعيدة بعملي في الجامعة ولدي علاقة واسعة جدا مع عموم طلبة جامعة بغداد , من ناحية ثانية مع عموم أساتذة جامعة بغداد من مختلف الكليات والإختصاصات , ومن ناحية أوسع فالعمل في رئاسة جامعة بغداد أتاح لي التعرف على أغلب أساتذة الجامعات العراقية , وجميع رؤساء الجامعات العراقية والمؤسسات العلمية .
حادثة جلل وقعت تلك الفترة هي قيام عصابة بقتل الدكتور خضر الدوري رئيس جامعة بغداد السابق في وضح النهار لغرض سرقة سيارته , كان الدكتور رحمه الله شخصية محبوبة على مستوى الجامعة وعملية إغتياله آذتنا كثيرا وأثارت الفزع بين صفوف التدريسيين .
أعقبتها بعد فترة قصيرة قيام نفس العصابة بإغتيال وزير الأوقاف نوري فيصل شاهر لغرض سرقة سيارته أيضا . عندها عمت حالة من الهلع في عموم بغداد من هذه العصابة التي بدأت بتقتيل المواطنين لسرقة سياراتهم . عندها قام السيد رئيس الجمهورية , رئيس الوزراء والقائد العام للقوات المسلحة بتشكيل لجنة خاصة من وزارة الداخلية للتحقيق في الأمر . بعد عدة ساعات من بدء التحقيق , بدأت أصابع الإتهام تشير الى مخازن اللجنة الأولمبية العراقية , وهي مخازن السيد رئيس التجمع الثقافي في العراق …. هلووو أبو سرحان قرت بك عين الثقافة .
عندها قام الوالد الحانق بركوب سيارته وإنطلق بها من القصر الجمهوري متجها الى الأولمبية , نزل الى المخازن وأحرق كل السيارات الموجودة فيها … ثم أحال أكثر من مئتي شخص من العاملين في الأولمبية الى القضاء بتهم القتل والسرقة والتزوير والإحتيال والسمسرة والدعارة , والإحالة ليست سرا بل تم نشرها في جميع الصحف العراقية .
أنهيت عدة أشهر في الجادرية في رئاسة جامعة بغداد … ولأن مخطط تسقيط إسمي بسمعة من نوع خاص , الذي كانت تديره اللجنة الأولمبية , لكراهية غريبة موجهة لشخصي تكاد تبدو وكأنها ذات دوافع شخصية … فقد تم الإيعاز من قبل الأولمبية الى الدكتورة هدى صالح مهدي عماش عميدة كلية العلوم جامعة بغداد , بقبول ميسون خضر عباس للتحضير لدراسة عليا في كلية العلوم … وصارت الخاتون ميسون تأتي الى الجامعة وتسمي نفسها منذالآن الدكتورة ميسون البياتي … غرفتها في الجامعة لاتبعد عن غرفتي أكثر من خمسين متر .. فهل يوجد عاقل يمكن أن يعتقد أن ذلك صدفة ؟ أم أنه خطة مدروسة لتسقيط أشخاص هم أنا .. وعمي الشاعر المعارض .. وربما العشيرة كلها … وإلا هل سمعتم عن إمرأة يقال أنها تدير شبكة دعارة حكومية مخابراتية الأغراض , تقوم بإستعمال لقبها عند إدارة هذا العمل ؟ لتضع رأس عشيرتها في الوحل ؟
كلانا نعمل مذيعات في التلفزيون , وكلانا ( دكتورات ) في جامعة بغداد , وكلانا إسمنا : ميسون البياتي …… هل يتحتم علي أن أحمل لافتة مخطوط عليها : أنا لست هي !!!؟
أين أنتم يا بياتيون ؟؟؟ تظلون ساكتين … وما تتكلمون ؟؟؟
لماذا تحملون لقبكم إذن !!!؟
الله وحده يعلم كم تحملت في تلك الفترة من نظرات الإزدراء وعبارات التجني من ناس تخلط بيني وبينها حتى وسط الحرم الجامعي . أما أكبر أنواع التعليقات الجارحة والضحك التهريجي فقد تلقيته بسببها من طلبة الجامعة .. في اليوم التالي مباشرة بعد أن ظهرت في التلفزيون وهي تدير حلقة من برنامجها مع مجموعة من الشاذين جنسيا وتسألهم أسئلة تقع في باب المحظور ضمن ثقافتنا العربية الإسلامية .
أي إمرأة في كل الدنيا , كلمة تكون كافية لخدش سمعتها فكيف اذا إستعدت ( دولة ) للإساءة لسمعة إمراة ؟؟
ذات يوم أنهيت عملي في الجامعة وذهبت الى حضانة الجامعة تسلمت إبني وعدنا الى البيت , حين وصلنا رأيت البوابة الحديدية الخارجية مفتوحة ,, قلت من المؤكد أن زوجي قد نسي إغلاقها حين غادر البيت صباحا . وأنا أدلف الى حديقة الدار شاهدت رجلين وسيدتين في حديقتنا , سألتهم من أنتم ؟
قالوا : جايين عليك يادكتورة
نظرت الى وجوههم كانت ملامحهم غريبة .. المرأتين تربطان عصابتين سوداوين حول رأسيهما في وضعية حداد , أما الرجلين فيرتديات غترا مقلوبة . يا ساتر يا ربي , ماذا هناك ؟
قالوا أنهم من أهل بعقوبة منطقة الحديد , لديهم بنت متخرجة من الإعدادية , قالت لهم أنها إتصلت بميسون البياتي وستذهب اليها للعمل في التلفزيون , ومنذ أسبوعين غادرت البيت ولم تعد .
إتصلوا بميسون خضر عباس , فقالت لهم إنها لا تدري عنها شيئا , وأرسلتهم يبحثون عن إبنتهم عندي .
قلت لهم : منذ سنة ليست لي علاقة بالتلفزيون .. وميسون خضر عباس وحدها التي تعمل في تلفزيون الشباب .
والد الفتاة كان منهارا تماما وأخذ يبكي .
أدخلتهم الدار وقدمت لهم شايا .. توسلت بهم أن يذهبوا الى أقرب مركز شرطة ويشتكون علي … لكنهم رفضوا .
حين يكون الظلم غاشما , تحتار الناس في أمرها كيف تتصرف !! مخافة التعرض الى ظلم أكثر غشامة , كان الله في عوننا جميعا .
حين غادروا بقيت واجمة .. ثم تقيأت .. وبدأت أبكي .
حين عاد زوجي الى البيت , حكيت له كل شيء .. هو أيضا ضحية .. ظل واجما عدة ساعات , بعدها قال لي : تريدين أنتظره بالشارع وأقتله ؟؟
قلت : أنا من يجب أن يفعل ذلك
نظر إلي وقال : ميسون أنت أم .. إهتمي بإبنك وإصبري .. يجيلها يوم .
معدلات الغلاء كانت آخذه في التحليق عاليا , بيع المقتنيات وأثاث البيوت صار ظاهرة عامة , وبعد زيادة 2000 دينار الى راتب كل موظف سقط الدينار العراقي تماما .. وصل سعر رغيف الخبز الى 100 دينار .
الحصة التموينية التي كانت توزعها الحكومة كانت من أردأ النوعيات , ولا تصل في مواعيدها المحددة , ناهيك عن كمياتها غير المعقولة الشحة .
مثلا وصلت كمية السكر الممنوحة للمواطن الواحد لمدة شهر في بعض الأحيان : نصف كيلو سكر ….
عندها تداعت النكتة العراقية الى إستعمال الأغنية لإنتقاد الأوضاع , في تلك الفترة ظهرت أغنية لكاظم الساهر تقول : اللي يريد الحلو يصبر على مره ,,, لكن العراقيين حولوها للسخرية من سكر البطاقة التموينية بقولهم : اللي يريد الحلو ينتظر الحصة .
أما النكات التي قيلت في الطحين المليء بالمسامير ونشارة الخشب , فحدث ولا حرج .
القائد كان يمنح المواطن ( مكرمة ) كل رمضان , هي عبارة عن ( دجاجة ) مجمدة عليه أن يكتفي بها شهرا كاملا .
حصة كل طفل من علب الحليب بلاركون زنة 450 غرام هي أربع علب في الشهر .. تكفي الطفل لعشرة أيام فقط … وعليك أن تتدبر من راتبك ( الفخم ) شراء ثمانية علب أخرى لسد إحتياجه , يتلاعب بأسعار علب الحليب هذه : العرض , والطلب , وسعر الدولار , ومناسبات ( قومية ) لابد من الإحتفال بها ببذخ وأريحية . فذات 28 نيسان ومع الإحتفال بأعياد ميلاد القائد المنصور بالله حفظه الله … وصل سعر حليب البلاركون الى 2800 دينار للعلبة الواحدة , فيما وصل سعر طبقة البيض الى 6000 دينار … وحتى يأخذ القاريء تصورا عن مدى إرتفاع هذه الأسعار أقول : ذاك الشهر كنت انا الدكتورة أستاذة الجامعة أتقاضى راتبا شهريا مقداره 4500 دينار .
هل يدري أحد كيف كان يعيش العراقيون !!!؟
أتذكر حادثة ذات دلالة أحب سردها هنا … كلفتني رئاسة جامعة بغداد بحضور إجتماع للجامعات العراقية يتم عقده في الجامعة المستنصرية , وفي الطريق من الجادرية الى شارع فلسطين .. تعرضنا الى حادث مرور شنيع , كادت تنقلب بنا السيارة لأن سائق الجامعة الذي معي كان نائما خلف المقود . بدأت بالصراخ ووبخته على فعلته , فقال معتذرا : دكتورة والله ليل البارحة كله ما نايم .
قلت : عندك دوام الصبح .. لماذا تبقى ساهرا طول الليل ؟
قال : دكتورة .. أنا أشتغل في مزارع الأستاذ عدي أثناء الليل .. العيشة مرة
قلت : وماذا تزرعون في الليل ؟
قال : أنا لا أزرع .. عملي فقط أقشر بيض !!!
قلت : تقشر بيض !!؟
قال : نعم دكتورة .. انت تدرين الأستاذ عدي الله يخليه إشترى من الدولة مفاقس الصقلاوية , ولهذا فهو يتحكم بكل كمية البيض التي تنزل الى الأسواق العراقية , قبل مدة وصلت الى العراق عدة أطنان من البيض مساعدات من إحدى الدول , هذه اذا توزعت على المواطنين راح تكسر سعر البيض بالسوق لذلك أمر الأستاذ عدي أن يسلق هذا البيض ويقشر ويقدم كعلف الى أحواض السمك التي تعود له .. ولهذا فعملي طول الليل هو تقشير بيض مسلوق .
قلت : إنتبه على الطريق ووصلنا سالمين .
منذ بداية الإرتفاع الجنوني للأسعار .. كنت قد ألزمت نفسي تطوعا بعدم أكل البيض , كنت أتصور لو أن كل بالغ فعل ذلك فربما وبشكل ما نعطي فرصة لتوفير بيضة لطفل صغير هو أحوج منا إليها لبناء جسمه وأعضائه ودماغه …… لكن ممارسات حقيرة من النوع أعلاه , تجعل حتى تضحياتنا الصغيرة تلك : مضحكة , ولا داعي لها .
وسط كل ذاك الحال الكالح .. ظهر صدام ذات ليلة في التلفزيون وهو يستقبل أطفال مدرسة إبتدائية أعمارهم تقارب العشر سنوات , ويرتدي ملابسه العسكرية حدثهم عن النظافة واللياقة البدنية , وأهمية العناية بأوزانهم , ثم قال إنه يعتني بوزنه ولياقته البدنية بشكل كبير , ولكن لأن البعض قد يفسر نحافته على إنها ( جوع ) أو ( من قلة الأكل ) , لذلك صار يأكل كثيرا هذه الأيام , وهو يحب : المعلاك وثريد البامية , وأن على الجهات التي تفرض الحصار على العراق أن تعرف أن الحصار هو على الشعب فقط . لأن صدام لن يجوع حتى لو صار سعر رغيف الخبز ألف دينار , وأن على العراقيين أن ( يناضلوا ) من أجل رفع الحصار .
كلمة ( يناضلوا ) هذه أليست كلمة غائمة وغير واضحة المعنى ؟ ما الذي يتحتم على العراقي أن يفعل ليرفع الحصار ؟ هل هناك خطوات عملية لهذا النضال ؟ أين هو ( ماسلو ) صاحب نظرية علم النفس المسماة : نظرية هرم الحاجات ؟ أبسط حاجات العراقيين التي تقع في أسفل الهرم , كانت غير موجودة , وعليهم أن ( يناضلوا ) من أجل إثبات ذاتهم كعراقيين , ألا يتقاطع ذلك تماما مع الطبيعة البشرية , وكما تحدد النظرية ؟؟؟
وسط هذه الهجمة من إرتفاع الأسعار, وموت الناس البطيء بسبب شحة أو إنعدام كل شيء , كانت العائلة الحاكمة تتصارع فيما بينها على إقتسام أكبر ما يمكن من النفوذ والغنائم , وذات صباح , لم نسمع إلا والإذاعة تذيع أن حسين كامل وأخوه صدام كامل أنسباء السيد الرئيس القائد قد هربا خارج العراق بصحبتهما كريمتي القائد وأحفاده منهما .
قبل ذلك بيومين كان عدي قد أطلق النار على عمه وطبان وابن عمه أحمد وطبان , الذي كان طالبا في كلية القانون جامعة بغداد . عند صباح اليوم التالي تسلمنا في الجامعة أمر ترقين قيد أحمد من كلية القانون , وهذا ينبيء أن الصراعات كانت حادة جدا داخل العائلة .
في تلك الأيام وصلت حدة وشدة الحصار الى مديات لا يمكن تصورها , شارفت مدخراتنا على النفاذ .. وحين ننظر الى الأمام .. فنحن ننظر الى مجهول نتوقع الهاوية السحيقة في كل خطوة من خطواته .
علاقاتي الطيبة مع الناس ومحبتي لهم وتواضعي , تجعل بعضهم يتطوع لخدمتي بما لا أتوقع , ذات يوم جاءت دكتورة من إحدى الكليات الإنسانية زوجها يعمل مدير أمن تركض الى غرفتي بالجامعة , قالت لي : ميسون إلحقي نفسك .
قلت : خير ماذا هناك ؟
قالت : فضيحة كبيرة بين عدي وميسون خضر عباس , كذا تفاصيلها , ( وهي تفاصيل مشينة جدا يعذرني القاريء من كتابتها ) . عدي عاقب ميسون بسببها بكذا وكذا.. وكذا .. كما أمر عدي بحجزها في الرضوانية وطردها من اللجنة الأولمبية , ياميسون .. هناك من يتصلون ببيتنا يوميا عشرات المرات يسألون من منكن هي صاحبة هذه الفضيحة ؟ أنت ؟ أم هي ؟
حين كانت الود متصلا بين عدي وميسون خضر عباس .. تم تدميري , واليوم وبهذه الفضيحة الجديدة فإنه يتم القضاء علي قضاءا مبرما .
ميسون خضر عباس , حملت إسمي : ميسون البياتي , وظهرت به في تلفزيون الشباب لمدة عام ونصف فقط … لكنها سامحها الله .. لطخته لي الى الأبد .
حملت نفسي وذهبت الى السيد وزير الإعلام كلمته عن كل الحكاية … بعد يومين كانت قد تمت إعادتي الى تلفزيون العراق من بغداد لقراءة الأخبار مرة واحدة في الأسبوع مع تقديم بعض البرامج الثقافية ,, ظهوري على الشاشة هذه الفترة كان يخدمني لقتل أي إشاعة علاقة لي بما جرى للاخرى .
مرت الأيام وجاء العيد … ليلة العيد وصلنا بيان من الرئاسة يعلن عودة أنسباء القائد وبناته وأحفاده من الأردن الى العراق .
بعد عدة ساعات ,, وصل بيان ثاني .. يعلن أن بنات القائد قد طلقن ازواجهن طلاق إستنكاف من العشرة .
آخر يوم العيد كنت أغطي فترة ختام التلفزيون أرتدي قميص أحمر وجاكيت أسود .. جاءني أمر بخلع الجاكيت الأسود والظهور بالقميص الأحمر فقط … كانت الدولة معيدة … قبل ساعات كانوا قد ذبحوا حسين كامل وأخوته وأبوه … جلبوا لنا شريط قتلهم لبثه على المواطنين , وقبل ثواني من عرضه جاء أمر بعدم العرض .
ولم تمض إلا عدة أشهر فيتعرض عدي الى ضربة مسلحة عندما كان يتجول بسيارته في المنصور … الحمد لله والشكر .. الله ألهاه بنفسه .. ولم يعد له مجال لأذية أحد .
عند إفاقة عدي من ضربته القاتلة أعطى إفادة أنه يشتبه أن الذين تعرضوا له بأعمار طلبة جامعة , ولهم لحى تشبه لحى الإيرانيين .
بعد أيام كنت أداوم في التلفزيون … زار صدام ولده عدي في المستشفى , وفي تلك الزيارة .. تم عقد قران عدي على إبنة علي حسن المجيد .. هل كان عدي في تلك اللحظات بحاجة الى زواج ؟ ….. أم هي حكاية تصدعات خطيرة داخل العائلة الحاكمة يتم ترميمها بمثل هذه الزيجات ؟
جلبوا لنا شريط تسجيل مراسيم عقد القران في المستشفى .. والخبر كان من المفترض أن أقرأه أنا في جريدة المساء .. قبل وصولي الى هذا الخبر بدقيقتين , إنفتح باب الأستوديو ودخل محرر سحب الخبر مني بناء على تعليمات رئاسية .
في اليوم التالي صباحا كنت أحمل إبني الى حضانة جامعة بغداد في الجادرية المقابلة للقسم الذي أعمل به … كان يمتد تحت تمثال صدام في ساحة برج الجامعة خط طويل جدا من الطلبة الذكور , أجبروا على الإصطفاف ليتم إلتقاط صور لهم , تؤخذ لعدي عله يتعرف على مهاجميه من بينهم , وعلى خطورة معنى ذلك , إلا أن الأخطر منه , هو وقوف سيارتين ( بيكب ) مرقطة لقوات الطواريء في ساحة الحرم الجامعي .. مركب عليهما رشاشات آلية مرتبطة بأحزمة رصاص , مستعدة لرمي الطلبة عند أتفه حركة غير عادية .. الرماة الذين كانوا يقفون خلف الرشاشات الآلية , كانوا يرتدون على رؤوسهم أكياس مرقطة من القماش , وليس فيها غير فتحات للعيون .
خوف شنيع بارد يصيبك وأنت تعبر ( الأرض الحرام ) تلك ذاهبا بطفلك الى دار حضانته , ولاتدري عند أقل خطأ بشري ما الذي يمكن ان يقع !!؟
مرت الأيام ثقيلة , تطحنها الحاجة الحقيقية الى أشياء أساسية , غذاء ودواء وكساء ومختلف الحاجات التي من دونها بدأنا نعود الى العصر الماضي . بدأت سحنات الناس وأشكالهم تتبدل , وبدأت قلوبهم تقسى وأخلاقهم تتغير , إمتحان الحصار عرى الكثير من الدوافع البشرية الزائفة .. وضاعت الكثير من القيم .
أعداد كبيرة من المثقفين أخذوا ينزلون مكتباتهم الى شارع المتنبي لبيعها سدا لحاجتهم الفعلية الى المال , لاأظن المثقف يستطيع بيع كتاب لو لم تكن به حاجة قاتلة , لذلك إعتدنا أنا وزوجي بين فترة وأخرى أن نذهب الى شارع المتنبي لتصفح المعروض من الكتب , وشراء بعضها .
ذلك اليوم , تناوبنا على حمل ولدنا على أكتافنا لنحميه من زحمة الناس ونحن ندور بين بسطات الكتب التي رصت على رصيف الشارع من الناحيتين , ولا أذكر لماذا قررنا ذلك اليوم وكان يوم جمعة أن نذهب الى سوق الشورجة !!؟
إرتفاع الأسعار , كان جزء منه لأسباب حقيقية مثل زيادة الطلب عن العرض , أو تدهور سعر الدينار العراقي , لكن جزءا آخر منه يعود الى ظاهرة الإحتكار . دخل الى عالم التجارة عدد كبير من الأثرياء وصاروا يشترون البضائع بأموالهم ويحتكرونها الى أن يشتعل سعرها في الأسواق فيبدأون بتصريفها على مهل ليبقى سعرها مرتفعا .
خلال تلك الفترة بدأت مفاوضات العراق مع الأمم المتحدة التي عرفت بمفاوضات ( مذكرة النفط مقابل الغذاء والدواء ) ترأسها الدكتور عبد الأمير الأنباري سفير العراق في الأمم المتحدة , تصريحات الرجل , دكت إحتكارات السوق العراقية دكا , تراجعت الأسعار الى ربع معدلاتها , الحاجة التي كنت تحصل عليها بألف دينار صار سعرها 250 ,, مع التصريحات المتفائلة حول التوصل الى إتفاقات مع الأمم المتحدة , كان المحتكرون ينزلون بضائعهم الى الرصيف لبيعها إستعجالا ,, وكان ذلك يجعل أسعارها تتهاوى … بسبب ذلك تحول إسم الدكتور عبد الأمير الأنباري الى : عبد الأمير أبو البواري …. وأنت تتجول في الأسواق صرت تسمع هتافات البائعين وهم يصرخون : بيع … بيع قبل ما يقرا المذيع .
أي تصريح متفائل يقرأ من الإذاعة والتلفزيون , كان كافيا لملئ السوق بالبضاعة .
رغم الدور المهم الذي لعبه عدي كرئيس للتجمع الثقافي , إلا أنك لاتستطيع أن تتعامل معه على أنه ( رجل دولة ) , بل هو بنفسه يجبرك على معاملته ( كولد ) يحاول بناء مجده الشخصي في ظل أبيه .
لم يكن يتحمل مسؤولية الأوامر التي يفرضها على العاملين معه بنفسه فيحميهم من غضب والده وعقوباته .
في تلفزيون الشباب على سبيل المثال , كان يعطي الصلاحية الى فاحصي الأفلام والمسلسلات التي يعرضها , بقبول المسلسل أو الفلم مثلما هو , بما يحتويه من جنس أو عنف , أو أي ما تكون الممنوعات الواردة فيه , حين يتم عرض المادة , ويأتي إعتراض من الوالد على ذلك , فإن عدي لم يكن يصحح التعليمات الممنوحة الى الفاحصين , لكنه كان يعاقب الفاحصين , ضرب بالفلقة , وحجز في الرضوانية , وعقوبات أخرى من هذا المستوى تتكرر بإستمرار .
صحيفته ( بابل ) لم تكن صحيفة جدية , على خطورة كونها ملتزمة من إبن الرئيس , لأن جرة قلم من الرئيس كانت كافيه لجعل إبنه يتراجع . والمقالات التي تنشر فيها تعتبر في أغلب الأحيان ( تغريدا خارج السرب ) يعبر عن رأي عدي وحده .
أيام التفاوض على ( مذكرة النفط مقابل الغذاء والدواء ) أعطى عدي أوامره الى كتابه بإستهجان المذكرة , فصدرت مقالات تحوي أفكارا من نوع ( نفط العراق : من قرار التأميم الخالد _ الى مذكرة النفط مقابل الغذاء والدواء ) .
بعد ساعة من نزول عدد ذلك اليوم من صحيفة بابل الى الأسواق , تم إعتقال إثنين من الصحفيين , كانا قد كتبا في هذا الموضوع , عدي ظل ساكتا , لم يحمهما من غضبة أبيه , لكن منظمات حقوق الإنسان ظلت تصرخ , على إعتبار أن الصحفيين من ( معتقلي الرأي ) …
أي رأي ؟؟ …. والله كانت أوضاعنا مهزلة .
أقر وأعترف وأأكد … أن الفساد الأخلاقي لمعظم الناس , هو السبب الحقيقي لمعظم المشاكل التي تقع بين البشر , الإنسان حين يكون صالحا أخلاقيا يتعامل بإيجابية مع محيطة فلا تقع منه إلا أقل إحتمالات المشاكل , في حين الفاسد أخلاقيا يكون نقطة إستقطاب لها .
وحين يكون الحاكم ظالما … فهو يظلم بقراراته .. لكن هناك ناس ( فاسدة ) تعينه على إصدار تلك القرارات وتنفيذها .
رغم جور الحصار في تلك الفترة .. إلا أنني كنت أحس أني إنسانة سعيدة . إبني يملأ حياتي سعادة , عملي في جامعة بغداد يحمل لي الجديد والمثير والطريف كل يوم . وكنت داخل الجامعة منهمكة في كتابة العديد من البحوث في وقت واحد وأتابع ترقياتي العلمية بشكل مستمر .
أما عملي في التلفزيون فقد صار أكثر كفاءة … صرت أعد جميع البرامج التي أقدمها , ولم يعد يعجبني تقديم برنامج من إعداد أحد , وتعاوننا أنا وزوجي على إعداد وإخراج العديد من البرامج التلفزيونية المتألقة مثل البرنامج الدرامي الإجتماعي : حذار من اليأس , والبرنامج الثقافي الرائع : حوار في كتاب , إضافة الى العديد من البرامج الخاصة التي لم تكن إلا حلقة واحدة لتغطية مناسبة ما مثل برنامج : يوم القدس , وبرنامج : تعلولة بغدادية .
خلال هذه الفترة صار ظهوري بين الناس لافتا للنظر .. وهذا بالتأكيد يثير حفيظة الكثيرين . لاأحد يحسدك حين تكون قبيحا أو فاشلا أو مكروها … لكن جمالك سيثير عليك أحقاد كل القبيحين الذين خلقهم الله على الأرض .. وكأن الجمال سبة . وحين تكون ناجحا فإن نجاحك سيؤلب عليك كل الفاشلين الذين لا يدرون كيف يخطون طريقهم أو يقولون كلمتهم . أما حين تكون محبوبا .. فتلك هي الطامة الكبرى , سيركض وراءك كل الذين يعانون من الهجر والإهمال وإفتقاد الود , باحثين عن عيوبك لتجسيدها , كي يقولوا للغير : إنها لا تستحق المحبة .
عانيت من كل هذا .. وانا أعمل في التلفزيون مدة 25 سنة , وإزدادت معاناتي خلال السنوات مابعد 1990 لأني صرت أكثر بريقا .
حتى تكمل …. في يوم بغداد , عرض لي برنامج التعلولة البغدادية , البرنامج من إعدادي وتقديمي وإخراج زوجي . طول البرنامج 3 ساعات , تحدثنا فيه عن بغداد منذ وضع لها أول خط على الأرض في أيام الخليفة المنصور , وحتى تحليق الأواكس الأمريكية فوقها . وكنا عامدين متعمدين أن لا يذكر أسم صدام في البرنامج أو إسم القيادة التاريخية الفذة , البرنامج كان عن بغداد .. ولها فقط . وأتمنى لو كانت هناك نسخة باقية من البرنامج ليعاد عرضها .
كما قلت … حتى تكمل … كان البرنامج ما زال يعرض على الهواء , حين إتصل مدير مكتب رئيس الجمهورية , أبلغ الإذاعة والتلفزيون بشكر الرئيس لي كمعدة ومقدمة للبرنامج , وشكره لزوجي المخرج .. وتكريمه لنا مع جميع الأساتذة والمختصين الذين ظهروا معي في ذلك البرنامج , صباح اليوم التالي جاء محاسب الرئاسة الى التلفزيون وسلمنا صكوكا معنونة الى البنك وغادر .
صحيح أن المبالغ التي كانت في تلك الصكوك لم تكن مبالغ كبيرة من النوع الذي تعود صدام أن يصرفه للمواطنين .. لكنها كانت ( تكريم ) أثار حفيظة الكثيرين والكثيرات ممن يعملون معنا في التلفزيون … كما ان الخبر وصل الى عدي , الذي تذكر عصياني وتسويفي لأوامره … وهذا ما سيفتح على قضية جديدة .
ضابط الإتصال بين مديرية الأمن العامة ودائرة الإذاعة والتلفزيون إتصل بي وأبلغني أن العميد مسؤول الثقافة الإعلام في الأمن العامة يريد مقابلتي
وهدوء كل العراقيين يخافون , لكننا مجبرين حبا بالنجاة والسلامة أن نتعامل بصبر وابتسامة , فقط المغلوبون على أمرهم يفهمون معنى ما أقول .
سألته بهلع مغلف بالود : أين سنلتقي ؟
قال : نحن نسقنا مع ضابط أمن جامعة بغداد وسنأتي لزيارتك غدا في مكتبك بالجامعة عند العاشرة صباحا .
راجعت ملف حياتي : لم أفعل شيئا , لم أقل شيئا , ربي نجني من ساعة الغفلة وصاحب السوء .
في اليوم التالي جاؤوا ,, مباشرة سألوني عن علاقتي بعبد الوهاب البياتي , قلت لهم : نسبا هو عمي , لكني لااعرفه , لأني لم أره ولم ألتق به .
وفهمت منهم أنهم يسألون عما يمكن أن ألحقه به من أذى
قلت لهم : ولكن ما علاقتي به ؟… إذا كانت لكم مشكله معه .. حلوها مع بعضكم , ما علاقتي بالموضوع حتى تورطوني به ؟؟
أخذوا مني عناوين كل العائلة , أهل عبد الوهاب , أخوته وأخواته , وأرقام هواتفهم , وأماكن عملهم , ووعدوني بزيارة تالية , وراحوا .
بقيت أتقلب على جمر بانتظار التالي من الأمر , أنا أعرف أن هذه القضية تحركت من جديد بإيعاز من عدي , وإلا ما الذي ذكر الدولة بعبد الوهاب البياتي بعد 4 سنوات من سحب الجنسية منه ؟؟
بعد حوالي عشرين يوما كنت أقرأ الأخبار في التلفزيون , حين غادرت الأستوديو كانت سماعة التلفون بانتظاري , وكان المتحدث شخصا لا أعرف اسمه من ديوان رئاسة الجمهورية , أمرني بمقابلته بعد عشر دقائق في استعلامات القصر الجمهوري / كرادة مريم / خلف مستشفى الطفل العربي , تكلم معي بلهجة صارمة فهمت منها أنه قد وقعت الواقعة .
لم يكن يعنيني في تلك اللحظة غير إبني الوحيد ( المأمون ) ذي السنتين ونصف والذي ما كنت أدري , هل سأعود الى البيت لأحضنه أم أن قبلتي له هذا الصباح كانت آخر قبلة !!؟
في القصر الجمهوري عوملت بالزجر والعنت , تصوروني إمرأة تخاف من غلظة الكلام وعلو الصوت , وأمروني أن أعيد بخط يدي كتابة مقالات ضد عمي أعدوها وأن أرفق معها صور حديثة لي تصلح للنشر , ليتم نشر كل ذلك فيما تيسر تحت هم يد حكومة العراق من صحف ومجلات عراقية وعربية وأقليمية . وأعطوني مهلة عدة أيام لإتمام ذلك .
طبعا كانت المقالات كلها سب وإهانة , لايمكن أتصدر مني بحق رجل هو بالنسبة لي بمثابة والد , والدي الحبيب عبد الرزاق الذي محبته في نفسي هي مثل محبتي لولدي المأمون لا أقل ولا أكثر .
أنا متأكدة أن هذه المشكلة لم تكن بأمر من صدام , ما الذي ذكره بعمي ؟ وهل يملك صدام شجرة أنساب ليعرف قرابة الناس من بعضهم ؟ وهل يأمر بالتعامل معي بذلك الشكل المهين بعد عدة أيام من تكريمه لي ؟
لذلك أصررت على مقابلته لأسمع الأمر منه شخصيا . لا يمكن بعد هذه الخدمة الطويلة وتحمل المسؤولية أن تأمرني الدولة بأكل لحمي , فأنفذ على الفور ودون مقاومة .
خلال يومين كنت قد قابلت وزير التعليم العالي , ووزير الإعلام , ووزير العدل بحكم صداقتنا أنا وزوجي معه , طلبت منهم ترتيب مقابلة لي مع صدام لكنهم قالوا إن ذلك غير ممكن . رفعت سماعة الهاتف وإتصلت بوزارة الداخلية طالبة مقابلة الوزير محمد زمام عبد الرزاق فأعطيت موعدا في اليوم التالي .
طلبت منه مقابلتي بصدام لكنه قال إن مقابلته لصدام تتم دون موعد مسبق لإحتياطات أمنية وهو لا يدري موعد المقابلة المقبلة حتى يعدني بشيء . لكنه رفع سماعة الهاتف وإتصل بسكرتير طه ياسين رمضان طالبا لي موعدا لمقابلة أبو مريم , قال إنه الوحيد الذي يقابل صدام أسبوعيا , كما أنه يملك من الصلاحيات ما يمكنه من وقف تنفيذ أي أمر إذا لم يكن صدام هو الذي أمر به فعلا .
صباح اليوم التالي كنت في بناية الزقورة في شارع أم العظام , حيث المقر الرسمي لعمل طه ياسين رمضان , حين فهم سبب طلبي مقابلة الرئيس , قال لي إنني إعلامية ناجحة وتنفيذي مثل هذا الأمر سيخدمني كثيرا , ووعدني بتحقيق ما لا أتمكن من أن أحلم به من إمنيات وبتدخل شخصي منه , اذا نفذت المطلوب مني .
والشهادة لله , طه ياسين رمضان أبلغني في تلك المقابلة أن سلسلة مقالات شاعر العرب الأكبر عبد الرزاق عبد الواحد ضد عمي عبد الوهاب البياتي والتي عنوانها ( أنا والبياتي ) كانت مقالات مدفوعة الثمن والحافز من قبل الحكومة العراقية , وأنها تحولت بعد ذلك الى كتيب أو كتاب , بدفع من الحكومة العراقية أيضا ..
خرجت من بناية الزقورة خائبة الرجاء .
هو هذا حبك يا عراق ؟
لا صاحبك صاحب ؟
ولا صديقك صديق
ولا إبنك إبن
وما بقى بيك شيء حلو غير بس التمر .. لابل حتى تمرك حشُف
25 سنة كنت شايلني بعيونك .. هسه وصلت حدها , راح تنزلني على التراب ؟
بعد الحب وبعد العشرة .. نلتقي مثل الأغراب
واحد ما يعرف بالثاني .. ولا كأنا كنا أحباب
ماتت لهفتنا المجنونة
ما أقساك .. وما أقساني
أتساءل وحدي وأتألم .. يا ترى من بينا الجاني ؟
في كل بقاع الأرض .. حين يكبر الإنسان وينجح ويضحي , يقدر تقدير عالي يستحقه .. إلا في العراق , العراق يعامل أبناءه على الأغلب , مثلما تعامل الكلبة جراءهها . حالما يكبرون قليلا تبدأ بعضهم عضا قاسيا مبرحا , لتعلمهم الفطام . تمنع عنهم حليبها وحضنها وحنانها ودفئها , وتعلمهم على الجوع بجفائها وغلظة قلبها . فتدور الجراء على الأبواب بحثا عما تأكل , وتتعلم النوم في الشارع .
حين تتظافر عوامل الوضع الخاص مع عوامل الوضع العام , فإن ذلك قد يؤدي الى كوارث على المستوى الشخصي .
تكلم معي زوجي كلاما مخيفا .. قال لي إن عنادي لن يخدمني , بل سيوصلني الى التهلكة , في المرة السابقة حين طالبني عدي بموقف معلن من عمي ورفضت .. هتكوا لي إسمي … هذه المرة ما الذي يمكن أن يقع ؟ إضافة الى أن الدولة لو أرادت , فإنها قادرة بمختلف الوسائل على إجباري تنفيذ ما تريد وأنا الممنونة .. فلماذا أدفعهم بعنادي الى سلوك مثل هذا الطريق ؟
لكني كنت أرى موقفي من حقي … واحد من أبسط حقوق الإنسان أن يحافظ على نفسه بعيدا عن النزاعات والمشاكل , اذا كانت لهم مشكلة مع البياتي الشاعر , ما علاقتي أنا بها ؟ ثم ماذا فعل البياتي الشاعر ؟ شارك بحضور مهرجان الجنادرية ؟ طيب , تم سحب الجنسية العراقية منه مقابل ذلك , أليس هذا أكثر من كافي بحق علم من أعلام العراق ؟
كان الحل الأفضل لحماية نفسي في هذا الوقت العصيب هو مغادرة العراق . لكنه كان حلا مكلفا الى أبعد الحدود , قررناه أنا وزوجي , شاعرين بفداحة قرار يشبه الإعدام , لكنه إعدام بلا موت , فزوجي لم يكن يستطيع مصاحبتي .
كانت له زوجة أولى وولدين مراهقين منها .. ولم يكن يستطيع ترك ولديه في العراق دون أب , في وضع العراق خلال النصف الثاني من التسعينات . وأنا أحترم قراره هذا وأقدره وأثني عليه ,, فلا خير في رجل يتخلى عن أولاده , ومهما كانت التضحيات .. وحتى لو كانت من أجلي .
إتصلنا بطيبين من أهل العراق هاماتهم أعلى من هامات نخل العراق ونخوتهم أعلى من عنان السماء . قلنا لهم : إنتهت
بعد عدة ساعات طرقوا بابنا ووضعوا في يدي جواز سفر فيه اسمي وصورتي , واسم ابني وصورته .
وضعت أشياء بسيطة لي وإبني في حقيبة يد ومعها وثائقي . ولبست ملابس إسلامية لإخفاء هيأتي , ومن منطقة الصالحية ركبنا سيارة أجرة وغادرنا العراق الى الأردن .
حين وصلنا الى منطقة الكيلو 160 بدأت أتلفت خلفي .. أنظر الى العراق الذي لن أراه مرة ثانية .
في نقطة طريبيل الحدودية ,, فكرت بالعودة الى بغداد ,, عدة مرات أخرج جواز السفر من حقيبتي وأعيده إليها .
أرجع الى بغداد وأفعل ما تطلبه من الحكومة .. كل الناس ستسامحني وتعذرني وسيعرفون أنني كنت مجبرة على ذلك .
ولكن هل تحترمين نفسك يا ميسون بعد كل العار الذي ألحقه عدي بإسمك , تعودين صاغرة وتنفذين تعليمات حقيرة لا داعي لها ولا داعي لتنفيذها ؟
حين سلمت جواز سفري الى الشباك … شعرت أنني مباشرة , صرت وحدي , لا وطن ولا أهل ولا زوج ولا أصدقاء ولا جامعة ولا تلفزيون .. ولا حتى عمل أو إقامة في المكان المجهول الذي أنا مغادرة إليه .
من تعب كل عمري لم أحمل معي غير شهاداتي وإبني ذاهبة بهم في طريق مجهول , عبرت بنا السيارة من نقطة طريبيل العراقية الى نقطة الكرامة الأردنية … شارع طويل يربط بينهما يمتد على طول الشريط الحدودي الفاصل …
تلك اللحظات شعرت بنفسي , جروة صغيرة كانت ترضع , باغتتها من مرضعتها عضة مدمرة , جعلتها تكفر بالدفء والحنان والحليب , فغادرت لتأكل وتنام في مزبلة الغربة .
قبل وصول نقطة الكرامة .. شاهدت علامة دالة على الطريق مكتوب عليها (( آخر حدود الكرامة )) .
فعلا .. الوضع في العراق جعلنا نعبر آخر حدود كرامتنا .
وتبا للمستحيل

About ميسون البياتي

الدكتورة ميسون البياتي إعلامية عراقية معروفة عملت في تلفزيون العراق من بغداد 1973 _ 1997 شاركت في إعداد وتقديم العشرات من البرامج الثقافية الأدبية والفنية عملت في إذاعة صوت الجماهير عملت في إذاعة بغداد نشرت بعض المواضيع المكتوبة في الصحافة العراقية ساهمت في الكتابة في مطبوعات الأطفال مجلتي والمزمار التي تصدر عن دار ثقافة الأطفال بعد الحصول على الدكتوراه عملت تدريسية في جامعة بغداد شاركت في بطولة الفلم السينمائي ( الملك غازي ) إخراج محمد شكري جميل بتمثيل دور الملكة عالية آخر ملكات العراق حضرت المئات من المؤتمرات والندوات والمهرجانات , بصفتها الشخصية , أو صفتها الوظيفية كإعلامية أو تدريسة في الجامعة غادرت العراق عام 1997 عملت في عدد من الجامعات العربية كتدريسية , كما حصلت على عدة عقود كأستاذ زائر ساهمت بإعداد العديد من البرامج الإذاعية والتلفزيونية في الدول العربية التي أقامت فيها لها العديد من البحوث والدراسات المكتوبة والمطبوعة والمنشورة تعمل حالياً : نائب الرئيس - مدير عام المركز العربي للعلاقات الدوليه
This entry was posted in الأدب والفن, ربيع سوريا. Bookmark the permalink.

One Response to تبا للمستحيل

  1. س . السندي says:

    خير الكلام … بعد التحية والسلام ؟

    ١: سيدتي الفاضلة أنت لست وحدك في هذه الدراما المقيتة والمميتة فكل العرقيين الشرفاء والطيبين في الهوى سوى ؟

    ٢: كانت دجاجة الملعون الذي إستحق ماناله بجدارة هى لإهانة العراقين أكثر ، فلقد كانت قبلها مكرمة أمير الكويت لشعبه على ما أعتقد سيارة أو شيء من هذا القبيل حتى غدن نكة عربية ؟

    ٣: أما عن عاصفة الصحراء اللعينة فلقد ذكرتني بلقاء صديق لي من دهوك كان مجتمعا مع رفاق الموصل ودهوك بحسن العامري في فرع الموصل لحزب البعث بعد هروبهم من دهوك بعد الانتفاضة وقلت له ماهى الاخبار ، فقال لي لقد طمأننا الاستاذ حسن بأن إحتمال نشوب الحرب بعيدة جداً فالقيادة الحكيمة قد رتبت كل شيء فلا تخافوا ، فقلت له لك نصيحتي خذ عائلتك وأهرب الى أبعد غار لان قتل الرفاق سيصبح عمل شعبي والحرب واقعة المحالة ، ولا تتصنط لهذا الدجال الذي لو قدر له الهرب لكان أول الهاربين ، وبعد مدة إلتقيته فعانقي وقال لي هال الابن … كاد يودي بحياتي وبحياة عائلتي ، وقال كيف عرفت أن الحرب واقعة لا محالة ، فقلت له عندما ترى السماء مكهربة وملبدة بالغيوم فاعلم أن مطرها مسألة وقت ليس إلا ، سلام ؟

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.