بدد رئيس الجمهورية اللبنانية ميشال عون قوة الدفع التي حظي بها نتاج التسوية السياسية التي أفضت إلى انتخابه. مضى نحو ثلث الولاية حتى اليوم من دون أي إنجاز حقيقي يذكر، عدا الاعتداد مثلاً بإقرار قانون للانتخابات على قاعدة النسبية، وكأن النسبية ليست آلية موضع خلاف عميق في مجمل النقاش حول الديمقراطية وصحة التمثيل في العالم! حدث ولا حرج، أن من يتغنى بالنسبية كإنجاز تاريخي يرقى إلى مصاف الأسطورة، مارس ويمارس، مباشرة أو بالوكالة، كل أشكال الاستئثار والإلغاء، حين تعلق الأمر مثلاً بالتعددية المسيحية وتمثيلها في الحكومة أو في الوظائف العامة أو في كافة الأطر الخاضعة لمنطق المحاصصة.
كان يمكن لإنجاز الانتخابات بعد طول تمديد وتأجيل، أن يكون فعلاً مدخلاً لتنشيط الحياة السياسية والوطنية، وتحديث خطوط الصراع وفق موالاة ومعارضة لمشروع سياسي اقتصادي يرتقي أعلى قليلاً من الشعارات والزجليات اللبنانية عن الإصلاح والتغيير والنهوض؛ لكن العونية السياسية اختارت سلوك درب المعارضة، حتى وهي في سدة الهرم الرئاسي، وفي قلب الحكومة ووزاراتها الاستراتيجية، ما أفقدها بريق المعارضة وحيوية القيادة وسطوتها في آن. أو هي اختارت النكد، كما يظهر من «مواجهة» مؤتمر «سيدر» الاقتصادي، ذي الخطط والمشروعات التفصيلية: «بخطة» بالغة العمومية وضعتها شركة «ماكينزي» للاستشارات، قد تصلح في لبنان ولا يمنع أن تصلح في زيمبابوي مع بعض التعديلات الطفيفة.
إذَّاك، تشكلت الحكومة اللبنانية أم لم تتشكل، بات الأمران سِيَّيْن بالنسبة لرئاسة ميشال عون، الذي كنت من المتحمسين للتسوية المؤدية إلى انتخابه، باعتبارها – أولاً – تعالج غبناً تمثيلياً لطالما عبر عنه المسيحيون اللبنانيون، وباعتبارها – ثانياً – مدخلاً لسد الفراغات الدستورية القاتلة في بنية النظام السياسي. فالخلاف مع رئيس منتخب للجمهورية أفضل من الاختلاف على النظام السياسي برمته في ظل الفراغ. هكذا كان الظن ويبقى!
لكن المفارقة أن ما يدفع إليه عون وفريقه السياسي، هو نفسه ما كان يناطحه قبل انتخابه. فالخلاف معه في العمق هو حول النظام السياسي، قبل انتخابه وبعده، وشهيته لا تفتر لإعادة عقارب الساعة إلى ما قبل اتفاق الطائف، متسلحاً بالسلوك والأداء في مواجهة انعدام القدرة على إجراء تعديلات جوهرية على النص.
بل إن ما ساد من مبررات لانتخابه قبل انتخابه، يستمر اليوم بعد مضي نحو ثلث ولايته. قبل انتخابه قيل إن الواقع الاقتصادي العام ومناعة العملة الوطنية تتطلبان انتخاب رئيس على نحو طارئ. وبعد نحو سنتين ساء الوضع الاقتصادي أكثر، وباتت مناعة الليرة اللبنانية أقل.
ثم إن العهد نفسه لا يتصرف بطريقة تلغي المقدمات الموضوعية الشاهدة على انتهائه. فلم يمر في تاريخ لبنان الحديث أن تناول رئيس جمهورية مسألة ما بعده قبل انقضاء الثلث الأول من ولايته ذات السنوات الست. بل لم يطرح أي رئيس جمهورية لبناني مسألة التمديد أو التجديد لعهده في مثل الوقت المبكر الذي فاتح فيه عون اللبنانيين بأن المرشح المقبل هو صهره، وزير الخارجية جبران باسيل. لم يرشح عون باسيل فقط؛ بل أفتى بأنه في صدارة المتسابقين إلى الرئاسة، كأن اللبنانيين أمام رئيس منتخب يحكم، ورئيس آخر منتخب مع وقف التنفيذ إلى حين.
ما يجدر التوقف عنده أن انتهاء عهد عون لا يعني انتهاء العونية. سأتجاوز كل نقاش في مسائل وعود الإصلاح ومحاربة الفساد التي ينضح بها الخطاب العوني، احتراماً للقارئ وعقله ووقته.
ما بقي من العونية السياسية هو تحولها إلى ظاهرة شعبوية مسيحية تنهض على الثنائية التي تنهض عليها كل شعبوية أخرى، من هوغو تشافيز في فنزويلا، وصولاً إلى الترمبية في أميركا، مروراً بالـ«بريكست» في بريطانيا. خطاب الحقوق وخطاب الخوف. الحق في التمثيل، الحق في الشراكة الحق في القرار.
تستمر العونية بهذه الصفة، وهو ما يفسر سلوك المعارضة من قلب السلطة؛ لا بل من رأسها، كما هي حال رئاسة عون، التي تارة تتذرع بأن العهد لم يبدأ، وتارة بأن الحكومة ليست حكومة العهد، ما يستوجب عدم محاسبته على أي تقصير!
في ذروة التوتر الإسرائيلي في غزة والجولان، يشهد جنوب لبنان اشتباكاً غير مسبوق بين «حزب الله»، منتحلاً صفة «الأهالي»، وقوات الطوارئ الدولية المولجة تنفيذ القرار 1701. كما يشهد المجتمع السياسي اللبناني شهية سورية تستعجل الاستثمار فيما تراه مناخاً سياسياً وفضاءً استراتيجياً جديداً في سوريا، من أجل إعادة عقارب الساعة بين البلدين إلى ما قبل عام 2005.
هل بمثل هذه الرئاسة تواجه مثل هذه التحديات؟
المصدر: الشرق الأوسط