العفيف الأخضر: الحوار المتمدن
حديث مع: العفيف الأخضر
بمناسبة كتابه: “من محمد الإيمان إلى محمد التاريخ” الذي سيصدر في الأيام القادمة
أجرى الحديث: محمد البوني
– لماذا لم تكتب عن محمد إلا الآن؟
– هذه مناسبة ليعرف قرائي، طالما أن سيرتي الذاتية ستذهب معي إلى القبر؛ أو بما هو أدق، إلى الحرق. فقد تعاقدت مع مصلحة لدفن الموتى، على حرق جثتي واتلاف رمادها. لم أكتب عنه كتاباً لسببين:
1 ـ آخر ما نشرت في 1974،كان البيان الشيوعي وقاموسه النظري، طبع بعد خروجي من لبنان إلى قبرص ثم إلى أوربا. اجتهد صديقي، محمد كبة، كعادته، فحذف العنوان الفرعي بيان الحزب الشيوعي. فقد تعلم مني النفور من الأحزاب، لأنها تفكر، خاصة في أرض العروبة والإسلام، بروح القطيع. المثقف الذي يدخلها يفقد استقلاله الفكري وفكره النقدي، ليستبدلهما بروح القطيع. لكن ذلك لا علاقة له بالنصوص،التي تمنع النزاهة الفكرية،التي هي العمود الفقري للتفكير العقلاني،تزويرها . من حقك فقط نقد نص تترجمه؛فذلك يندرج في اطار النقاش المتعارض بما هو لب ديناميك التقدم الفكري والعلمي.لكن تزوير ترجمته محرم.فذلك تشويه للفكر و العلم،بل واعدام لهما.كما استبدل منه بعض الكلمات الأخرى مثل: تصايحت علينا البرجوازية بـ “تعالى نُباحُ البرجوازية” واستبدل في دفاع بلانكي أمام المحكمة “أيها السادة”بـ “أيها الكلاب”!
اتفقت معه على ارسال مخطوطاتي إليه من أوربا، ليتولى هو الإشراف على طبعها. بعد اطلاعي على تدخله في النص، عدلت عن ذلك. وهو الوحيد، في مطابع بيروت، القادر على قراءة كتابتي الصعبة، وهو الذي يطبعها بنفسه. فهو مترجم عصامي من الإنجليزية وعامل مطبعة. حاولت لمدة شهرين تعلم الكتابة على الآلة الكاتبة، وفشلت. لا أعرف حتى كتابة اسمي على الكمبيوتر.
2 ـ كنت إذن في حاجة إلى سكريتير، لكن لم أجد من يتبرع بمرتبه، 1500 يورو شهرياً عدا التكاليف الاجتماعية. هذان هما السببان اللذان حالا دون أن أكتب شيئاً من 1974 إلى 1997؛ عندما بدأت الكتابة في اليومية “الحياة”. كنت أرسل المقال مخطوطاً بالفاكس، فينشر مليئاً بالأخطاء، التي تغير المعنى أحياناً، المسؤول الأول هو خطي الردئ؛ إلى أن منعني من الكتابة فيها سنة 2001، صاحبها الأمير خالد بن سلطان؛ عوضت عجزي عن توظيف سكريتير يكتب لي، بتحويل كل مقال، بمادته المكثفة ودقة مفاهيمه، إلى فصل في كتاب. كما أن الكتاب الورقي، الموعود بالإختفاء خلال أقل من عقد ونصف، لا يستهويني. لماذا؟ لأنّ كتاباتي سيمتدّ إليها مقصّ الرّقيب كالعادة قبل الطبع، وسيمتد إليها بعد طبعها مقصّ الرّقيب الآخر كالعادة أيضا في جميع البلاد العربيّة. أمّا مقالاتي على الأنترنيت فلا سلطان للرقيب عليها، وستبقى، حتّى بعد حرب نوويّة. وهي متروكة لقانون الإنتخاب الطبيعي؛ إذا شعر قرّاء الغد بلحاجة إليها، فسيواصلون قراءتها في الشبكة العنكبوتية، في القارّات الخمس كما الآن. وإلاّ فسيطويها النسيان، كأطنان المنشورات الورقية والإلكترونيّة الأخرى، التي يُنافس فيها الساذج العقيم.
بعد سنتين تقريباً، استأنفت الكتابة في إيلاف، كان يكتب لي غالباً، الشاعر عبد القادر الجنابي. توقفت عن الكتابة فيها سنة 2009، لأن عبد القادر لم يعد قادراً على الكتابة لي. ومذ ذلك التاريخ، بقيت هائماً على وجهي، أبحث في تونس مرة، وفي مصر مرة، وفي المغرب مرة وفي استراليا مرة عن مَن يكتب لي مقالاً. محمد لم يكن يصلح موضوعاً لمقال، ولا حتى لبحث في مجلة، وإنما لكتاب، وهذا كان ممتنعاً بالنسبة لي، إلى يناير 2013.
ماذا حدث في هذا التاريخ السعيد؟
ـ نشرت تعليقاً “أدبياً”: “فتنة السؤال”، أقحمت فيه بعض رؤوس الأقلام عن نبي الإسلام، عسى أن ألفت انتباه النفسانيين، اليوم أو غداً، إلى الكتابة عنه، بعد أن يئست شخصياً من ذلك. قرأ جورج طرابيشي التعليق وتلفن لي: “ما كتبته عن محمد في هذا المقال، لن يُكتب بعدك إلا بعد قرن، فلماذا لا تكتب عن محمد كتاباً؟”. ومن يكتبه لي؟، ادْفَع أنت والهوني أجرة سكريتير وسأكتبه. قال لي: أنا غير قادر على الدفع، لكن سأتصل بالهوني. بعد أيام زاراني، هو و د. محمد عبد المطلب الهوني، وأبلغاني بالموافقة. واتصلت بسكريتير كان على أهبة الإستعداد للعودة إلى بلده، وطلبت منه البقاء لثلاثة شهور. أعدت معه إصدار الطبعة الثانية منقحة، من “إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”، ثم شرعت في كتابة بحثي عن محمد. هذا هو السبب الأساسي لصدور محمد الآن في كتاب.
– ليس لأن محمد الآن شخصية راهنة؟
– الراهنية ليست دائماً دافعاً للكتابة عن الشخصيات التاريخية، ومع ذلك، فمحمد من بين جميع الشخصيات التاريخية، الدينية والدنيوية، هو أكثرهم راهنية واستحقاقاً للكتابة عنه.
– لماذا؟
ـ لأنه لم يُكتب عنه شيء مهم، من الزاوية النفسية حتى الآن؛ ولأنه منذ ظهور الجهاد الإرهابي في مصر، في السبعينات، وخاصة منذ مأساة 11 سبتمبر، لم تُطرح على بساط النقاش العلمي علاقة الإسلام الأول، خاصة المدني، بالإرهاب.
– وما علاقة محمد بذلك؟
– علاقة وثيقة. المجاهدان، اسامة بن لادن و د. أيمن الظواهري، هما في طليعة ورثاء الإسلام المدني، الذي أسس الجهاد، جهاد الدفع وجهاد الطلب، أي الجهاد الداخلي ضد غزو “دار الحرب” لـ “دار الإسلام”، والجهاد الخارجي، لإدخال “دار الحرب”، أي العالم كله، في الإسلام. جهاد الطلب، هو اليوم الإرهاب الإسلامي المُعَولم. استشهد بن لادن في “خطبة العيد “الشهيرة، بالقرضاوي الذي قال: “يوجد في القرآن إرهاب حميد”، إشارة للآية: “لترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من خلفهم” (60، الأنفال).
مضيفاً بأنه هو نفسه “يمارس هذا الإرهاب الحميد”.
– هل في القرآن بالفعل إرهاب حميد؟
– الإسلام المدني، منذ السنة الثانية للهجرة قرآناً وسنة، أي أقوال وافعال نبي الإسلام، إرهاب غالباً غير حميد. هذا إذا جاز الإدّعاء، بأنّه يوجد إرهاب حميد! الإرهاب بما هو عنف أعمى لا يستطيع أن يكون حميداً.
– لماذا التحقيب بالسنة الثانية للهجرة؟
– تاريخياً يوجد محمدان وإسلامان: كان محمد في مكة شاعراً ونبياً، وإسلامه كان خالياً من العنف، أي من الشريعة والجهاد، وهما أعلى درجات العنف ضد الأبرياء أفراداً وشعوباً:الجلد،وقطع اليد،والرجم، ودق عنق المرتد وغزو الشعوب الأخرى لإدخالها في الإسلام،هي جميعاً جرائم ضد الإنسانية.كما كان محمد معترفاً بجميع ديانات عصره، من اليهودية إلى المجوسية، ديانة أحد معلميه، سلمان الفارسي، مروراً بالمسيحية والصابئة. أما في المدينة، فقد استحال إلى مشرّع ومحارب، يقطع الطريق على القوافل، ويغزو القبائل لإدخالها بالسيف في الإسلام، ويقتل الشعراء الذين هجوه، أو يقتل أسرى قريش وأسرى اليهود. ولم يكن في مكة يفعل شيئاً من ذلك. كان يرد على هجاء مثقفي قريش، بالهجاء. وعندما طلب منه وفد الأنصار، عشية هجرته، الهجوم على حي من قريش، أجابهم “ما أومرت بذلك”، وكان يوصي أصحابه: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” (46، العنكبوت). أما في المدينة، فقد جادلهم، هو وأصحابه، بالتي هي أخشن. إسلام المدينة نسخ الأساسي من الإسلام المكي، أي اللاَّعنف والإعتراف بجميع الأديان بما هي طريق للخلاص الروحي للمؤمنين بها، وأدخل العنف الشرعي الدموي، الذي مازال ضحاياه بالآلاف: رجم أقصى اليمين الإسلامي الإيراني في 35 عاما حوالي ألفي امرأة؛ ولم يوقف جريمة الرجم إلاّ منذ شهور. وبدأت الحكومة الإسلامية الدموية في السودان ترجم منذ 1913 وفي مصر وليبيا وتونس وربّما سوريا، الليالي حُبالى يلدن كلّ عجيب. وهكذا فالإسلام المدني العنيف، شبحُ قاتل يُلاحق المسلمين، وغير المسلمين في القارّات الخمس.
– لماذا أقدم نبيّ الإسلام على نسخ الإسلام المكّي؟
– فَهْمُ طفولة أيِّ شخص ضروري، لفهم تصرفاته في باقي أيام حياته. ومحمد، كما حللت ذلك في طفولة محمد،وهو تحيلي غير مسبوق، ولد مكتئباً. موت أبيه بعد زواجه ببضعة أشهر، أورث آمنة اكتئاباً حدادياً، طويلاً على الأرجح. نعرف اليوم طبيًّا، أن مشاعر الحامل، السارة أو المحزنة، تنتقل إلى جنينها. عادة الأم، بدافع غريزة إعادة الإنتاج النرجسية، تنتظر أن يكون مولودها البكر بنتاً، كما يتمنى الأب العكس. لذلك يكون البكر غير مرغوب فيه، لا شعورياً على الأقل، من أحد الأبوين. أضف إلى ذلك، أن القبائل العربية تتشاءم من المولود، الذي يموت أبوه وهو جنين. في تونس، إلى الخمسينات، يسمونه “أحرف”، أي مشؤوم. وهكذا فالطفل محمد كان على الأرجح غير مرغوب فيه من أمه. ربما لهذا السبب سرعان ما تخلصت منه للمرضعات، أولاً لثويبة، مولاة ابو لهب، ثم حليمة وربما لمرضعات أخريات. محمد كان كلَّ شيء إلا طفلاً محبوباً إذن سعيداً، أمه لم ترغب فيه، وآباؤه المربّون، الأب نفسياً، ليس الوالد بل المربي، عاملوه على الأرجح بقسوة. وهذا ما أورثه، بين أمراض أخرى، الشعور الساحق بالذنب، الذي تحول إلى عدوانية وانحراف في المدينة حيث كانت الظروف الموضوعية مساعدة على ذلك.
شعور محمد الساحق بالذنب يتجلى في القرآن. فقد كانت قريش تقول “إن قرآنَه أشقاه”، فأملت هذياناته وهلاوسه ردًّا عليهم بـ “طه، ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى” (1، طه).
ما قيل عن أسباب نزول هذه الآية، يُلقي أضواء كاشفة عن شعور نبيّ الإسلام بالخطيئة أمام ضميره الأخلاقي الشديد العقاب، على صورة الله ـ الأب، الذي يعذبه ويشقيه: “إصرار الرغبات المحرّمة على تحقيق ذاتها [في مواجهة إصرار الضمير الأخلاقي الباغي على منعها من ذلك]، يدفع المريض إلى عقاب ذاته” (فرويد). هذا العقاب الذاتي القاسي هو ما عاقب به نبي الإسلام نفسه: “عن ابن عباس أن النبي (ص) أول ما نزل عليه الوحي، كان يقوم على صدر قدميه إذا صلى. فأنزل الله: “طه ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى”؛ وعن ابن عباس أيضاً أن خصومه من مشركي قريس قالوا: “لقد شقي هذا الرجل بربّه”؛ وفي رواية الضحاك: “ما أنزل الله هذا القرآن على محمد إلا ليشقى به”، فأنزل الله طه (…)؛وعن ابن عباس أيضاً: “كان رسول الله إذا أقام الليل يربط نفسه بحبل كي لا ينام، فأنزل الله طه (…)؛ وعن مجاهد: “كان النبي (ص) يربط نفسه، ويضع إحدى رجليه على الأخرى (…)؛ وعن علي ابن أبي طالب: “لما نزل على النبي: “يا أيها المزمل قُم الليل إلا قليلاً [= واصل صلاتك الليل كله إلا قليلاً منه]: قام (ص) الليل كله، حتى تورمت قدماه، فجعل يرفع رجلاً ويضع رجلاً (…).: “وعن أنس [خادم آل البيت]، كان النبي (ص) إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى (…)”.
نحن هنا أمام ما يسميه علم النفس العقاب الذاتي، تكفيراً عن جريمة قتل الأب الوهمية، بمحاولة المذنب قتل نفسه رمزياً أو فعلياً!
هذه الألوان القاسية من تعذيب الجسد وإماتته، تكشف عن شعور عميق بالذنب، كان يغلي في نفسيّة محمد المعذبة. وطأة هذا الشعور على نفسية نبي الإسلام لا تُحتمل: “ورفعنا عنك وزرك الذي أنقض ظهرك” (2، الشرح) ذنوبه كانت من الثقل حتى أنها قوضت ظهره. وهو لا يشقى بذنوبه التي تقدمت، بل أيضاً من ذنوب لا يشك في أنه سيقترفها مستقبلاً: “ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر” (2، الفتح). لذلك وصفت شعوره بالذّنب بـ “الهذيان” بما هو قطيعة رديكالية مع الواقع.
– كيف عرّفتَ في الكتاب الشعور المحمدي الساحق بالذنب؟
– الشعور بالذنب يولد مع ميلاد الضمير الأخلاقي. يمكن الافتراض بأن محمّد، الذي تلقفته أيادي الأمهات، غير الرحيمات على الأرجح، قد نمّى فيه ضميرا اخلاقيا مبكرا، قبل نهاية السنة الأولى من عمره؟
هذا الضمير الأخلاقي المبكر، كان في منتهى القسوة، التي تجلت في السادية ضد الذات في مكة، من الاتهام الذاتي إلى محاولات الانتحار المتجدّدة. ستتحول السادية ضد الذات، إلى سادية ضد الآخر في المدينة: ضد الشعراء الذين هجوه، وضد اليهود الذين لم يسّلموا بنبوته وضد أسرى قريش، الذين جادلوه واستهزأوا منه في مكة.
– كيف أيضاً حلَّلت عواقب هذا الشعور بالذنب؟
– أهم من البحث عن أسباب الشعور بالذنب، هو البحث عن عواقبه عند محمد المكي والمدني. تجلت عواقب الشعور بالذنب، في تصرفات وانحرافات محمد في:
الاضطرابات الوسواسية القهرية، التي تتجسد في المجال الديني، في الشعائر بما هي سادية ضد الذات. تجسدت عند نبي الإسلام في شعائر دينية معقدة، كثيرة ومرهقة: 5 صلوات في اليوم من الفجر إلى شطر من الليل، وقد تستغرق الليل كله إلا قليلا بالنوافل: “وأقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً [= الثلث الأخير] من الليل”، “يا أيها المزمل [= محمد] قم الليل إلا قليلاً، نصفه، أو أنقص منه قليلا، أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا؛ إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا (…) واذكر اسم ربك وتبتل إليه تبتيلا [= أذكر اسم ربك بلا كلل ولا ملل وكرس نفسك للعبادة]” (7،4،3،2،1، المزمل).
وفي شعائر الطهارة للصلاة، ولقراءة القرآن أو حتى لمجرد مسه: “لا يمسه [القرآن] إلا المطهرون”، (79، الواقعة) وللصلاة: الإغتسال الأكبر بعد الجماع، أو الإحتلام أو خروج المني بأية وسيلة كانت، الوضوء، أي غسل اليدين والرجلين والوجه والمسح على الرأس، بعد التبول، والتغوط، والضراط، والفساء وحتى مجرد مس الذكر سهواً …؛ وشعيرة الحج الطويلة، المكلفة والخطرة؛ وشعيرة رمضان المؤذية للصحة والاقتصاد … وقد أكون نسيت.
شعائر هذيان الشعور بالذنب كانت، عند نبي الإسلام، تعذيباً ذاتياً مروعاً سلطه عليه، ضمير أخلاقي غاشم. كما كانت كارثية على صحة نبي الإسلام النفسية، مازالت أيضاً كارثية على صحة واقتصاد ومستقبل أمته! التي فاتها، أساساً بسبب الإسلام البدائي الذي لم يقع إصلاحه، قطار الحداثة منذ قرون.
في الإكتآب بما هو سأم من الحياة، تجلّى عند نبي الإسلام في محاولات الانتحار المتكررة: لكن في كل مرة كان الشطر السليم من نفسيته يتغلب على الشطر السقيم، متجسداً في جبريل الذي يهدئ روعه قائلاً له: يا محمد إنك رسول الله (…)فيتراجع عن الانتحار.
في الجنوح: “مفاجأتي، قال فرويد، كانت أن الشعور المتعاظم بالذنب قد يجعل من الإنسان مجرماً”. كيف يعطي هذيان الشعور الساحق بالذنب الجنوح والإجرام؟
“الجنوح مرتبط ارتباطا وثيقاً بسوء تصرف الأم مع طفلها، طوال فترة رضاعته، خاصة إذا كان الوسط العائلي لا يقدم للطفل مساندة ضرورية، فإن هذا الشعور بالذنب يصبح عبئاً لا يطاق”، كما يؤكد النفساني ويسكونط؛ “العبء الذي لا يطاق” عبر عنه اللاشعور العاري لنبي الإسلام تعبيراً دقيقاً: “وزرك الذي أنقض ظهرك” (2، الشرح).
تجلى هذا الجنوح والإجرام خلال الفترة المدنية في قطع الطريق على تجارة قريش؛ في قتال القبائل وتحويل مكاسبها إلى غنائم لنبي الإسلام والمقاتلين في جيشه، في اغتيال الشعراء الذين هجوه؛ في إجلاء قبائل اليهود، ومصادرة ثرواتهم.
الجنوح والإجرام يشكلان، كما يؤكد علم نفس الأعماق، “متنفّساً” لمشاعر الذنب اللاشعورية الساحقة؛ لأنه يقدم لها مبرراً شعورياً لشعورها بالذنب اللاشعوري. وهكذا فـ”التكفير عن الشعور بالذنب، قد يكون مصدر تصرفات إجرامية”. كما يقول نفساتي.إقتراف جرائم،لتبرير الشعور بالذنب الذي لا مبرر موضوعي له، يريح ضمير المجرم الأخلاقي المعذب. يبدو كما لو أن الإجرام، خاصة الديني، يحول الضمير الأخلاقي الغاشم إلى ضمير أخلاقي غائب. فتاوى قتل اليهود والنصارى ومن والاهم من “المرتدين” المسلمين، ترجمة لهذه العملية النفسية المعقدة التي تحول المذنب وهمياً إلى مذنب فعلياً ومع ذلك مستريح الضمير. قسوة الضمير على المذنب تتحول إلى قسوة على الأبرياء، على كل من يوجدون على الضفة الأخرى، دينياً أو سياسياً، مخالفين لنا أو مختلفين عنا!
وهكذا فهذيان الشعور الساحق بالذنب هو المغذي النفسي الأول حتى الآن للتعصب الديني والمطالبة بالعنف الشرعي والإنغماس في ممارسة الإرهاب الداخلي والخارجي. وهذا ما ينبغي أن يعطيه الإخصائيّون في الإرهاب، الأهميّة التي يستحق.
الإرهابيون المنفذون،هم صواريخ موجَّهة،المسؤول حقاً هم فقهاءالإرهاب،الذين يغسلون أدمغتهم”ويوعزون”لهم بالقتل. هؤلاء هم الذين يجب تحييدهم بالقانون،وليس الجنود التعساء الذين غُسلت أدمغتهم بثقافة الاستشهاد:قصر و72 حورية في انتظار قدوم الشهيد في يوم استشهاده.استشهاديو حماس،الذين غُسلت أدمغتهم،يُعطى لكل واحد منهم واقي ذكري فولاذي، يقيه من عواقب انفجار الحزام الناسف…لينكح به الحوريات الموعودات!
ـ قلت في كتابك أن الرسول محمد أخذ هذه الآية من الديانة المجوسية؟
ـ نعم.أخذها من أحد معلميه،الكاهن المجوسي سلمان الفارسي،كما أخذ عنه أساطير الجنة القرآنية.أحد آلهة يوم الحساب، في الديانة الماجوسية،يكافئ المجوسي الطيب بعذراء عمرها 15 عاماً.أليست هذه هي الحورية القرآنية؟محمد لم يأخذ جنة اليهود والمسيحيين، التي ستوجد في الأرض،بل أخذ الجنة الماجوسية التي توجد في السماء،والتي عرضها السموات والأرض!
ـ ماذا تقترح لمواجهة هذا الإرهاب الديني؟
ـ إنشاء مؤسسة عالمية من الاخصائيين في علوم النفس والسسيولوجيا والسياسة و في مكافحة الإرهاب،لدراسة أسبابه الدينية والنفسية والاجتماعية … إلخ. قتل الإرهابيين المنفذين يحولهم إلى شهداء ويخلد قضيتهم فقهاء الإرهاب الذين غسلوا أدمغتهم.المطلوب هو تحييد رؤوس الإرهاب المدبرة بتجفيف ينابيعه الدينية والنفسية والاجتماعية.
– اقترحتَ في بحثك، خريطة طريق لتغيير هذا الشعور بالذنب، المتأصل في النفسية الجمعية الإسلامية إلى شعور صحي بالذنب. فما هي هذه الخريطة وما هو الشعور الصّحي بالذنب؟
– الشعور الصّحي بالذنب، هو الذي يعتري كلاّ منّا، عندما يرتكب خطأ أو خطيئة حقيقيّين. فيسارع إلى طلب الغفران أو جبر الضرر. ونقطة وإلى السطر.
رهان إصلاح الإسلام، بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان، هو تلطيف هذا الشعور الساحق بالذنب، منذ نبي الإسلام إلى اقصى اليمين الإسلامي المعاصر، مما جعل قطاعاً من المسلمين اليوم هاذياً دينيًّا، 15% من مسلمي العالم، حسب الإحصائيات الأمريكية، متطرفون: يمارسون الإرهاب أو مهيّأون لممارسته. كيف يمكن تحقيق ذلك؟
أساساً بتغيير صورة الله في اللاشعور الجمعي الإسلامي: من جلاد شديد العقاب، أي قاسي وخاصي، إلى أب حنون يفيض حباً لعياله وأبنائه المسلمين والناس أجمعين. هذا الانتقال كفيل بتصعيد الشعور الساحق بالذنب، من سديم اللاشعور إلى وضح الشعور. الشعور اللاشعوري بالذنب هو المسؤول النفسي الأول اليوم، عن التعصب والعنف والجريمة والإرهاب. وكلما تم تحويله تدريجياً إلى شعور واع بالذنب، من أخطاء وخطايا فعلية وجدية، لا من خطايا وهمية او تافهة، يهوّلها هذيان الشعور بالذنب، كما في حالة نبي الإسلام، أو المتطرفين المعاصرين، كلما كفّ الشعور بالذنب عن كونه مصدراً للتعصب والعنف والجريمة. المطالبون بجلد شارب الخمر 80 جلدة، وقطع يد السارق، ورجم الزاني والزانية، ودق عنق المرتد والجهاد في “الكفار” لإدخالهم في الإسلام إكراهاً! هؤلاء هم ضحايا الشعور اللاّشعوري بالذّنب؛ بإمكانهم ارتكاب مذبحة كونيّة، إذا امتلكوا أسلحة الدمار الشامل. وهي إمكانية ليست أفلاطونيّة.
ممارسة هذا الإرهاب الشرعي أو المطالبة بممارسته، هما اليوم الدافع الديني القوي للجهاد ـ الإرهاب المُعولَم!
تغيير صورة الله من إلاه ـ أب سادي، يُعذب أبناءه العاصين لأوامره ونواهيه، بشوائهم في نار جهنم: “كلما نضجت جلودهم بّدلناهم جلوداً غيرها ليذوقوا العذاب (…)” (56، النساء) ليتلذذ بمواصلة تعذيبهم! يا له من إلاه جلاد!
لا ينبغي بعد اليوم، أن يكون الله هو هذا الأب الجبار، القاسي الخاصي، الذي يُحقننا بالشعور الساحق بالذنب، كشهادة قاطعة على طاعته طاعة عمياء وتكريس معظم وقتنا لأداء شعائره. هذه الصورة، الشبيهة بصورة الوالدين الغاشمين في العائلة الإسلامية التقليدية، جديرة بالتجاوز إلى نموذج إلاهي أرقّ قلباً: إلى إلاه – أب كلُّه حُبّ. كالإلاه الكاثوليكي اليوم.
حتى نتشجع على انجاز هذه الوثبة الضرورية إلى الأمام، الأمام الروحي والإنساني، يجب ان نوفر الشروط الضرورية، لتغيير علاقتنا بالله من علاقة قائمة على الخوف والشعور بالذنب، إلى علاقة قوامها الشعور بالحب، بالأمان والإطمئنان.
لتصحيح الصورة التي نملكها عن أنفسنا وعن الله، للإنتقال من الله الشديد العقاب إلى الله الكلي الحب والرحمة، لابد من خارطة طريق مرصودة لتغيير علاقة المسلم بالله: من الله ـ الأب الذي يشوينا في “نار حامية”، إلى الله ـ الأب الذي يحمينا من مخاوفنا الطفولية. هذه الخارطة تتحقق بـ:
* إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان من الإبتدائي إلى العالي،بما هو المعلَم الأساسي في طريق إسلام العقلانية الدينية المنفتحة على الإيمان كرهان وعلى الشك أيضاً …جميع القناعات السلمية مشروعة .
* التوقف عن تدريس الآيات التي تغسل أدمغة الأجيال الطالعة بالشعور السّاحق بالذنب، وعن استخدامها في الإعلام وتلاوتها في الصلاة خاصة الجماعية، وعن تدريس آيات الإيمان بالقدر، خيره وشره، أي الإيمان المازوشي بأن “المكتوب” على الجبين تراه العين، وتالياً الانتهاء من تدريس وترويج آيات التسيير، المخربة لثقة المسلمين في أنفسهم، وتقديرهم لها، وبدلاً منها ،تدريس آيات التخيير، التي تمسك بها المعتزلة، والتي تجعل من المسلم منذ نعومة أظفاره، يؤمن بأنه هو ـ وليس الله ـ خالق أفعاله، وصانع حاضره ومستقبله بالقرار الصائب الذي يصنعه العلم؛
قلت أيضا في كتابك أن آيات التخيير أخذها القرآن من المجوسية؟
ـ نعم.أخذ محمد من اليهودية آيات التسيير،وأخذ من الماجوسية آيات التخيير،فجاء القرآن شكشوكه تونسية أو سلاطة مُشكّلة لبنانية.
*تدريس حقوق الإنسان، التي هي ترياق الشعور العصابي والذهاني بالذنب، أُلح على هذه النقطة؛ لأن استبطان حقوق الإنسان، يحوّل ما اعتبره الدين ذنوباً، إلى حقوق يمارسها الفرد المسلم ببراءة واعتزاز. لا شيء كتدريس حقوق الإنسان للوصول إلى التحرر الذهني الضروري لتأسيس الحرية وميلاد الفرد المستقل عن روح القطيع؛
* تشجيع وتعميم زواج الحب، على أنقاض زواج الإكراه التقليدي السائد؛ فقد أكدت الدراسات النفسية، أن أطفال زواج الحب، يكونون محبوبين من آبائهم. هذا الحب الأبوي منذ الطفولة يعطيهم الثقة في أنفسهم، التي هي ترياق سم الشعور بالذنب؛
*تدريس الفن والأدب الباسمين المنشطين لغرائز الحياة؛
* تعميم ثقافة الإقبال على التحليل النفسي، الذي يساعد الفرد على أن يعرف نفسه ويعترف بها.
عندئذ لا تعود الآيات المحكمات او المتشابهات هي التي تتحكم في تقرير مصيرنا؛ بل يعوضها العلم والتكنولوجيا والقيم الإنسانية والمؤسسات العلمانية والديمقراطية.
– كيف تجلى هذا الشعور السقيم بالذنب عند محمد في مكة والمدينة؟
– كان في مكة يشعر بالذنب الساحق، لمجرد أنه تهاون بابن أم مكتوم، فتنزل عليه هذياناته وهلاوسه سورة لتأنيبه وتذنيبه؛ وينتابه شعور مماثل، عندما يفضل مجالسة المشركين على مجالسة عبيدهم، الذين آمنوا به. لكن نبي الإسلام نفسه يأمر بقتل، في يوم ونصف، بين 700 إلى 900 من ذكور بني قريظة، دون أن يشعر بأي ذنب، بل ربما شعر براحة ضمير، لأنه تقرّب إلى الله، بتعذيبهم وسفك دمائهم!
في مكة كان يدعم شرعيته بما ُأُنزل على أهل الكتاب ويوصي أصحابه: “ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن” (46، العنكبوت). أما في المدينة فجادلهم هو نفسه وأصحابه بالتي هي أخشن قولاً وفعلاً.
هذيان التراجع عن المكاسب والانجازات، التي حققها نبي الإسلام في القرآن المكي، وفي السنتين الأوليتين من الإسلام المدني، قبل أن يُشّرع للجهاد: وصايا بالعدل والإحسان والرحمة ومكارم الأخلاق، والاعتراف بالديانات المعروفة في عصره، كاليهودية والمسيحية والمجوسية والصابئة، بما هن طريق ممكن للخلاص الروحي للمؤمنين بهن، والاعتراف بالحريات الدينية، بل وحتى بحرية الضمير، أي عدم الأخذ بأي دين: “إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون ومن آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون” (69، المائدة)،ويعترف لمشركي قريش: ” (…) وإنا وإياكم لعلى هدى أو في ضلال مبين” (24، سبأ).
بل واعترف حتى بحرية الضمير،أي عدم الإيمان بأي دين:”فمن شاء فليؤمن،ومن شاء فليكفر”(29،الكهف).
حسب منطق النسخ الّلامعقول، الذي وصفته بالهذيان، نَسخت آية واحدة من الإسلام المدني: “فإذا انسلخ الأشهر الحُرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم (…)” (165، التوبة) 123 آية، أسست للتسامح الديني؛ كما أن آية النرجسية الدينية: “إن الدين عند الله الإسلام” (19، آل عمران) نسخت جميع آيات الاعتراف بالحريات الدينية وبالديانات السابقة، كاليهودية والمسيحية، التي ـ كما قيل بعد نسخها ـ لم تكن ديانات، بل كانت مجرد شرائع، نسختها الشريعة الإسلامية! وهكذا نُسخت جميع الأديان والشرائع سواء منها التوحيدية أو الوثنية وباتت البشرية، حسب فقه جهاد الطلب، أي غزو البلدان الأخرى، واقعة تحت تهديد: جيوش الجهاد: إما الدخول في الإسلام، وإما الجزية وإما الحرب! ونسخت آية تشريع القتال في المدينة: “أُذن للذين يُقاتلون [بفتح التاء] بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير” (39، الحج) حوالي 70 آية من آيات التسامح والمسالمة، ودخل النبي، المشرّع والمسلّح، في جدال عقيم مع اليهود والنصارى، مازال الجميع يكابد عواقبه الوخيمة حتى الساعة: “(…) هل أنبئكم بشرّ من ذلك (…) عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير”(60،المائدة) و:”لتجدن أكثر الناس عداوة للذين آمنوا، اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا النصارى (…)” (82، المائدة) لكن سرعان ما سيتدخل هذيان النسخ لنسخ آخر الآية محولاً اليهود والنصارى معاً إلى أعداء ألّداء للمسلمين: “يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض، ومن يتولاهم منكم، فإنه منهم”(51، المائدة)، أي خرج من الإسلام ودخل في دينهم.
تمسك الإسلام الصوفي بالإسلام المكي، وتمسك أقصى اليمين الإسلامي بالإسلام المدني.
في المدينة اختفت السادية ضد الذات واختفت محاولات الانتحار؛ واختفى “التسامي” بغرائزه الجنسية المتفجرة في الانتاج القرآني، وفي الدعوة اليومية لدينه وفي العبادة الطويلة والشاقة. وهكذا انطلقت جميع غرائز نبي الإسلام العدوانية المكبوتة من عقالها لتصول وتجول. كان في مكّة يحاول إعطاء الموت الفعلي لنفسه بالإنتحار، أو الرمزي، بالتأنيب والتذنيب وتعذيب نفسه بالعبادة. فأصبح في المدينة يعطي الموت، الفعلي والرمزي والتعذيب للآخرين.
– كتَبْتَ أيضا عن عواقب نَسخ الإسلام المكّي على المسلمين اليوم؟
-هي كارثية وعلى غير المسلمين أيضا. عواقب الإسلام المدني، مقروءة في واقع كل بلد تقريباً في أرض الإسلام. طريقة محمد المدني في التفكير والتدبير في المدينة، تعود لشّل تفكير وتدبير النُخب والجمهور، حتى لا يتشجعوا على التقدم إلى الحداثة بما هي انفتاح على الآخر وعلى العالم الذي نعيش فيه. ومازال قطاع من النخب والجمهور، خاصة الإسلامي، يتخذ من إسلام المدينة نموذجاً له معتبراً النكوص إليه، في السياسة الداخلية والخارجية، واجباً دينياً. فـ “تقليد” النبي في حركاته وسكناته، من أوجب واجبات المسلم.تماماً كما هي عبادة الأسلاف عند قبائل استراليا البدائية:نذبح كما كان أسلافنا،في الزمن الأول،يذبحون، ونجلس الُقرفصاء كما كانوا يجلسون،ونتبول ونتغوط كما كانوا يتبولون ويتغوطون…
– كتَبتَ أن الإرهابيين، وهم ينفّذون جرائمهم، يتخيّلون أنّهم يقلّدون النبيّ؟
– المهم ليس فهم المظاهر، التي يتجلى فيها الإرهاب، بل فهم الميكانيزمات، أي آلياته وروافعه الدينية ـ النفسية، الكامنة وراء تجليات الإرهاب ومآسيه. أحد هذه الميكانزيمات، هو الرغبة الهاذية في “تقليد” النبي بما هو “سلف الأسلاف”، تقليد كل ما قاله أو فعله، المتأصلة في نفسية قطاع من المسلمين، خاصة السلفيين والوهابيين والجهاديين، والتي تدفعهم إلى إعادة تمثيل ما قاله أو فعله النبي منذ 14 قرناً. مثلاً قادة الحركات الإسلامية، يبدؤون كتاباتهم بـ : “نعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا”، التي افتتح بها النبي “الصحيفة”، ويرسلون لحاهم مثلما أرسل، ويستاكون بعود الآراك مثلما استاك، ويفطرون في رمضان بـ 4 تمرات وكأس حليب كما كان يفطر، ويقتلون المدنيين اليهود ـ أو يتوعدونهم بالقتل ـ كما فعل هو.
المظهر الأول لرواسب إسلام المدينة في واقع المسلمين اليوم، هو أنهم، عكساً للأمم الأخرى، بما فيها الأقل تقدماً، مازالوا متسمرين في حاكمية القرون الوسطى: حاكمية العقل الإلهي؛ ولم ينتقلوا بعد إلى حاكمية العصور الحديثة: حاكمية العقل البشري، الذي حل محل العقل الإلهي في كل شيء: في السياسة والاقتصاد والعلم والفن والأدب وحتى في الدين المُصلَح والمُعقلن أيضاً …إلخ. كل تطور، مهما كان جزئياً، نحو الانتقال إلى حاكمية العقل البشري، يثير هلع أقصى اليمين الإسلامي فيُسميه “السقوط في جاهلية القرن العشرين”، أو ترجمتها التونسية: “التصحر الديني”! عجزت هذه النخب عن تكييف الإسلام مع الحداثة، وهي مهمة ضرورية وممكنة بإصلاح الإسلام، فاستبدلتها بمهمة ليست ضرورية ولا ممكنة: أسلمة الحداثة.
ومازال قطاعٌ من النخب والجمهور متسمراً في الولاء والبراء، الذي أسس له الإسلام المدني: “يا أيها الذين آمنوا، لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء، بعضهم أولياء بعض. ومن يتولاهم منكم فإنه منهم” (51، المائدة):
الولاء للمسلمين حصراً، وعداء اليهود والنصارى و “الكفار” عامة، أي عداء أشخاصهم، ومعبوداتهم، ومؤسساتهم، وعلومهم وقيمهم، وأنماط تفكيرهم وتدبيرهم. وهذا ما شكّل حتى الآن عائقاً دينياً وذهنياً، لتكيّف المسلمين مع ضرورات العالم الذي يعيشون فيه. الولاء والبراء هو، كما كتب أيمن الظواهري في كتابه، “فرسان تحت راية النّبي”، دليل القاعدة الأوّل في جهادها المُعَولم.جعل الولاء والبراء صادقة غير المسلمين والتعاون معهم مُخرجاً من الملة،مما جعله عائقاً دينياً وذهنياً يردع المسلمين عن الإندماج في حضارة عصرهم، التي أنتجها “أهل الكتاب”! ويردع شعورياً ولاشعورياً، المسلمين في مهاجرهم عن الاندماج في مجتمعاتهم. هذا الاندماج الذي من دونه لا مستقبل لهم: لا عمل، ولا سكن، ولا أسرة. بل تهميش وضياع، وتعاطي وبيع المخدرات، وجنوح وإرهاب!
ـ فما العمل لإزالة هذا العائق؟
ـ وسيلتان أساسيبتان لتكسير عائق الولاء والبراء:الأولى حوار الأديان التوحيدية والوثنية،الذي يحرمه ويجرمه شيوخ الولاء والبراء. رئيس لجنة الفتوى بالأزهر سابقاً صرح في 2001 :لا معنى لحوار الأديان إلا بدعوة البابا للدخول في الإسلام؛والثانية هي تثقيف الجمهور الإسلامي بثقافة المشاركة العالمية لرفع التحديات الكونية،التي لا حل لها إلا في اطار دولي:نزع فتيل قنبلة الانفجار السكاني،حماية البيئة،التصدي للإرهاب الإسلامي المعولم،وقف انتشار أسلحة الدمار الشامل،مكافحة الأوبئة العالمية والفقر والمجاعة في العالم.هذا التفكير الايجابي في المشاركة في حل مشاكل العالم،التي هي في الوقت ذاته،مشاكل كل بلد فيه،كفيل بكسر محرم الولاء والبراء الإنطوائي،أي الحامل للنرجسية الإثنية أو النرجسية الدينية.
حروب محمد على يهود المدينة، والتنديد بهم وبالنصارى، في آيات القرآن المدني أسست لهذه الإنعزالية الإنتحارية. حتى أقل واجبات المجاملة الإنسانية واللياقة الدبلوماسية نهى القرآن عنها. كواجب العزاء في جار أو رئيس دولة غير مسلم: “فلا تأسى على القوم الكافرين” (68، المائدة). فضلاً عن آيات التحريض على مقاطعة “الكفار” وقتلهم: “واقتلوهم [= الكفار] حيث وجدتموهم”…لغسل دماغ المسلم لجعله يستسهل سياسياً ويستحل دينياً وأخلاقياً قتل “الكفار” خبط عشواء. وهو ما يجري أمام عيوننا.
رأينا ذلك في 11 سبتمبر 2001، وفي الإنتفاضة الثانية حيث كان استشهاديو حماس ينحرون وينتحرون في الإسرائيليين سواء أكانوا واقفين أمام محطة باص، أو مصطفين في الطابور للدخول إلى مرقص أو في مكدونالد…إلخ؛ ورأينا ذلك أيضاً في يهود المغرب سنة 2003، وبعد ذلك في كنيس الغريبة في جزيرة جربه التونسية؛ وفي مسلمي الجزائر “المرتدين”.
استئصال قبائل يهود المدينة، ومصادرة املاكهم، وقتل جميع ذكور يهود بني قريظة البالغين. ثم تم بِيعُ نسائهم وأطفالهم في الحبشة! مأساة حقاً، مثلاً كيف تم التمييز بين الأطفال البالغين وغير البالغين؟ بتعريتهم لمعرفة ما إذا كان شعر العانة قد نبت أم لا. وكل من نبت شعر عانتهم سيقوا إلى المذبحة. طبعةٌ أولى من مذابح الكنيسة الكاثوليكية التفتيشيّة لهم.
هذ الإستئصال أسس للعقاب الجماعي، الذي ألغاه القرآن المكي: “ولا تزر وازة وزر أخرى”(15، الإسراء)، بإقراره فردية المسؤولية الجزائية، التي هي اليوم مبدأ في التشريع الجزائي العالمي؛ كما أسس لإضطهاد الأقليات في أرض الإسلام. وقد لا يكون قتل مليون أرمني في تركيا سنة 1915 إلا مجرد ريماك، إعادة تمثيل لفيلم قتل بني قريظة. مازال جمهور أقصى اليمين الإسلامي في العالم العربي يهدد اليهود المعاصرين بتكرار مذبحة يهود بني قريظة.
الشعار المركزي في مظاهرات الإخوان المسلمين في الأردن، لمساندة حماس: “خيبر، خيبر، يا يهود، جيش محمد سيعود”. وعندما زار اسماعيل هنية تونس أستقبله جمهور الإسلاميين بنفس الشعار. حذرت نائبة إسلاميّة في المجلس التأسيسي بأن: “مصير جزيرة جربة التونسية سيكون كمصير فلسطين”، أي سيشتري أرضها اليهود. عدد الأقلية اليهودية في تونس أقل من 2000!
حتى التخييل الإكتئابي جعل الفقيه المعاصر عمران حسين، يستلهم مذبحة ذكور يهود بني قريظة، فيعيد صياغة حديث البخاري الشهير، عن قتل المسلم لآخر يهودي قبل نهاية العالم، في سيناريو نهاية وشيكة للعالم اليوم، تكون آخر وأقسى عقوبة لليهود الذين، يقول عمران حسين: عاقب الله اليهود أول مرة بالسبي البابلي؛ وعاقبهم مرة ثانية بالغزو الروماني وتدمير الهيكل وسيعاقبهم الآن للمرة الثالثة والأخيرة بقضاء جيش الإسلام عليهم حتى آخر يهودي! وتقوم القيامة.
أهل الذمة ،اليهود والنصارى، أوصت آية من القرآن المدني بضرورة إذلالهم: “حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون”(29 التوبة)،إذلال أهل الذمة مسطور فيما سمي بـ”عهد عمر”: أن لا تعلو دورهم وكنائسهم، عن دور المسلمين وجوامعهم، وأن يركبوا الحمار إذا ركب المسلمون الحصان، وأن يرتدوا الثياب من لون خاص حتى يعرفهم المسلم، وليس على المسلم ان يبادرهم بالتحية ولا حق لهم في بناء كنائس جديدة أو ترميم ما تهدم منها…سجل إسماعيل مظهر في السنوات 1930 صيغة كانت تكتب في عقود البيع بين المسلم والمسيحي: “باع الهالك ابن الهالك، جرجس مثلاً، لإبني ساكن الجنان، محمد مثلاً…”.
تحريم القانون الوضعي وحرية التعبير، اللذين أسس لهما القرآن المدني، مازالت عواقبهما الوخيمة حاضرة في حياة المسلمين اليوم: “والذين لا يحكمون بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون”(44، المائدة). معنى ذلك أن القانون الوضعي لا شرعية له، وتطبيقه يؤدي إلى الكفر.
قتْل النبي، أحياناً شر قتل، الشعراء الذين انتقدوه أو شتموه، حوله أقصى اليمين الإسلامي إلى تشريع، في البلدان التي يحكمها، يحرم نقد الدين، أي البحث النقدي في الله، في الأنبياء، في نبي الإسلام أو في زوجاته أو في أصحابه. حرية التعبير والتفكير والبحث العلمي أصبحن انتهاكاً للمقدس. المادة 40 من الدستور المصري الإسلامي تحرم نقد الأديان. اقترح أقصى اليمين الإسلامي في تونس، إدخال تحريم نقد المقدس في الدستور. أعلنت الصحافة مؤخراً أن نصف الدستور الإسلامي الجديد منقول من الدستور الإيراني الحالي!
تحريم نقد الأديان، يحكم بالإعدام على تدريس الأديان الحديثة أو استخدامها. علوم الأديان قائمة على تمرير التأكيدات والأساطير الدينية على غربال النقد. وهكذا تصبح حرية التعبير، أم الحريات جميعاً، بين قوسين. تجريم النقاش الحر والنقد، يسد الباب أمام الحياة الفكرية والديمقراطية وحرية الإعلام. أقصى اليمين الإسلامي في تونس، يسمي الإعلام الحر: “إعلام العار”، لأنه ينتقد الحكومة الإسلامية؛ في مصر الإعلاميون يقدمون إلى القضاء كمجرمين بتهمة نقد الدين أو الرئيس.
مشروع دستور الإخوان المسلمين، الذي قدموه في سنة 2011، شاهد بليغ على استمرار الإسلام المدني، بكل ثقافة الإنطواء على الذات، وثقافة كراهية اليهود والنصارى فضلاً عن المؤمنين بالديانات الوثنية، التي لا يعترف بها الإسلام، مخيراً المؤمنين بها بين اعتناق الإسلام أو القتل. إليكم مثلاً عيِّنة من مشروع هذا الدستور الخاصة بالسياسة الخارجية: المادة 177: الإسلام هو المحور الذي تدور حوله السياسة الخارجية، وعلى أساسه تُبنى علاقة الدولة بجميع الدول، المادة 178: (…) الدول التي ليس بيننا وبينها معاهدات، والدول الإستعمارية فعلاً كإنجلترا وأمريكا وفرنسا، والدول التي تطمع في بلادنا كروسيا، تعتبر دولاً محاربة (…) ولا يصح أن تنشأ معها علاقات دبلوماسية (…) الدول المحاربة فعلاً كإسرائيل مثلاُ، يجب أن تتخذ معها حالة الحرب أساساً لكافة التصرفات، ويمنع جميع رعاياها من دخول البلاد، وتستباح دماء غير المسلمين منهم.”
وهكذا فصدى مذبحة يهود بني قريظة مازال يتردد بقوة!
– اقترحتَ دين العقلانية الدينية كبديل عن إسلام المدينة. فما هي المبادئ الأساسية لهذا البديل؟
– قدمتُ المبادئ الأساسية لدين العقلانية الدينية الإسلامية، وأعطيت خارطة طريق ميلادها في الطبعة الثانية من: “إصلاح الإسلام بدراسته وتدريسه بعلوم الأديان”. ورسمت في بحثي عن محمد بعض المعالم في طريق الوصول إليها.
المَعْلَم الأول على طريق العقلانية الدينية، هو تأسيس دين العقلانية الدينية على 3 ركائز: التسليم بأن الأديان الأخرى التوحيدية والوثنية أيضاً، اللواتي لازال يؤمن بهن 56 % من سكان العالم، يمكن أن تكون طريقاً للخلاص الروحي للمؤمنين بهن، والقبول بالحوار معهن؛ التسليم بأن العقد الإجتماعي، أي الدستور يجب أن يكون علمانياً لدولة لجميع مواطنيها، مهما اختلفت دياناتهم وخصوصياتهم الأخرى؛ وأخيراً التسليم بأن المرجعية الشرعية الوحيدة للدولة هي مؤسسات وقوانين وقيم الحداثة العالمية ليس إلاّ.
المعلم الثاني على طريق العقلانية الدينية، هو ضرورة تبني الإسلام لحقوق الإنسان الأساسية، اللواتي لا يكون الإنسان حقاً إنسانا في غيابهن؛ سيكون نصف إنسان كالمرأة في الإسلام، أو ما تحت إنسان، كالعبد في الإسلام أيضاً. الرق مازال موجودا في بعض البلدان العربية والإسلامية…
حقوق الإنسان كونية، لأن العقل المنتج لهن كوني، نفس العقل المنتج للعلوم الكونية أي الصالحة لكل إنسان في أي مكان كان؛ فهذه الحقوق إذن تتعالى على الخصوصيات الثقافية كما يتعالى عليهن العقل. هذه الحقوق كونية لأنهن طبيعيات، أي من المفروض أن يتمتع بهن الإنسان بما هو إنسان، مهما كان دينه او جنسه…إلخ. فكل إنسان، بما هو إنسان، يتمتع بالضرورة بضمانات أساسية غير قابلة للتفريط؛ كالحق في الحرية، في الكرامة، في المساواة، في الأمن، في السلامة البدنية، في الحياة وأيضاً بحقوق إجتماعية مساوية للأولى في الأهمية، كالحق في العمل، في السكن وفي الملكية الخاصة…
المعلم الثالث على طريق العقلانية الدينية هو إصلاح التعليم: التعليم اليوم هو طوق النجاة لكل أمة. كل أمة في أرض الإسلام، مدعوة منذ الآن لتبني أرقى نظم التعليم، في أي بلد كان. العلم لا دين له، ولا قومية له، هو، كالعقل الذي ينتجه، كوني. هو ضالّة الإنسان المتعطش، لأرقى وأحدث أشكال المعرفة، يأخذها حيث وجدها. أفضل المناهج التعليمية اليوم، هي في الصين البوذية العلمانية وفي فنلندا المسيحية العلمانية، فلماذا لا نستعير منهما مناهج التعليم وطرق التدريس وكيفية تكوين المدرسين؟
التعليم المطلوب اليوم في أرض الإسلام، ليس التعليم، الذي يضمن للمسلم الحزين، مستقبله بعد موته، بل هو الذي يساعد المواطن على حل مشاكله، اليومية العملية، لتأمين مستقبله في حياته: عمل، مسكن وأسره.
من دون هذه الأسس الأولية، لن يكون لأي أمة من أمم أرض الإسلام، لا المكان ولا المكانة المأمولين في عالم القرن الـ 21.
المَعْلَم الرابع على طريق العقلانية الدينية، هو تبني الإسلام للديمقراطية وثقافتها. فالإسلام مازال أمام الديمقراطية وثقافتها، يتراوح بين موقفين: التردد والرفض، كما يفعل أقصى اليمين الإسلامي، محتجاً بأن الديمقراطية هي انتقال من سيادة العقل الإلهي: سيادة الشريعة وفقهائها؛ إلى سيادة العقل البشري: الشعب السيّد وممثلية.
حاولت، كخلاصة للكتاب، أن أقدم بعض المقترحات المذكورة أعلاه، للوصول إلى دين العقلانية الدينية، كبديل عن الإسلام المدني، وإدخال الإيمان كرهان بسكالي على أنقاض إيمان “التصديق” الساذج والأعمى السلفي.