يوسف نور عوض القدس العربي اللندنية
أحداث كثيرة تمر بالعالم العربي في هذه الأيام، خاصة بعد الثورات التي أطاحت أنظمة الحكم في تونس وليبيا ومصر واليمن وأشعلت الثورة في سوريا، ورغم ذلك لم يكن الفكر السياسي الذي تبع تلك الثورات في المستوى الذي يتلاءم مع هذه المرحلة الجديدة من تاريخ الأمة العربية، ذلك أن معظم الكتابات تركزت حول تغيير الأنظمة والبدائل المحتملة من منظور تقليدي يركز على كيفية الوصول إلى السلطة وليس كيفية إحداث التغيير في النظم السياسية، ولا ينفي ما ذهبنا إليه أن بعض المفهومات الحديثة طرحت دون أن تتم معالجتها بالمستوى المطلوب، ومن أهم هذه المفهومات مفهوم الديموقراطية الذي يعني عند الكثيرين ‘الانتخابوية’ التي تبرر للأحزاب أو الأفراد أن يصلوا إلى السلطة، إذ ظل الكثيرون يعتقدون أن مجرد انتخاب فرد أو جماعة يبرر له أو لها أن تفعل ما تريد بكون الديموقراطية في نظر الكثيرين هي مجرد عملية انتخاب فقط، ولا يقف هؤلاء ـ عادة ـ عند النظام الذي تتم فيه عملية الانتخاب، وتلك هي المشكلة الأساسية في العالم العربي، ذلك أنه إذا نظرنا إلى البلاد العربية التي توجد فيها برلمانات وجدنا هذه البرلمانات تتكون من مجموعات طائفية أو زعامات قبلية أو أصحاب وجاهة اجتماعية، وهم في معظم الأحوال لا يصلون إلى الحكم لأن لهم برنامجا خاصا يريدون تحقيقه لصالح المجتمع بصفة عامة بل لأن هدفهم الوصول إلى السلطة من أجل تحقيق نفوذهم وإقصاء الآخرين والاستفادة من مقدرات الدولة بصورة غير مشروعة ما يسبب انتشار الفساد بشكل واسع في هذه الأنظمة.
ويختلف هذا النظام عما هو سائد في الديموقراطيات الحقيقية في العالم .وأذكر في هذا السياق أن أحد الأشخاص من الذين حصلوا على الجنسية البريطانية قال لي أنه صوت في ستة انتخابات برلمانية أعطى فيها صوته لأشخاص لا يعرفهم، وعندما سألته لماذا؟ قال لأن المرشحين في الانتخابات البريطانية لا يستندون إلى نظم قبلية أو وجاهات اجتماعية إذ هم أشخاص يعملون في إطار نظام حزبي معترف به، وبالتالي فإن المواطن يصوت للمبادئ أو البرامج التي يعلنها الحزب ولا يهم من الذي يقوم بتنفيذها، ذلك أن الحزب له آليته التي يضبط بها سلوك نوابه، وبذلك لا يضع الحزب عبئا على المواطن. ولا يقتصر النظام الديموقراطي في بريطانيا على عملية انتخاب النواب فقط إذ هو نظام يستند أيضا على أسس اقتصادية قوية، ذلك أن الأغنياء في النظام الديموقراطي يحققون ثراءهم عن طريق العمل والجد وهم بعد أن يحققوا الثروة لا يرحلونها إلى العالم الخارجي بل يضعونها في المصارف الداخلية أو يوظفونها في مشاريع العمل بحيث يستفيد الجميع منها، ويوجد في النظم الديموقراطية كذلك نظام للضمان الاجتماعي الذي يوفر الحياة الكريمة لكل من يجد نفسه خارج الوظيفة أو العمل، وذلك ما يجعل الكثيرين يقبلون على دفع ضرائبهم ولا يتهربون منها، بكونهم يعلمون أن هذه الضرائب ستعود عليهم بالفائدة حين يتعطلون عن العمل أوحين يصلون إلى سن التقاعد. ولا يقتصر الأمر على ذلك، إذ نجد في النظام الديموقراطي أيضا نظام قضاء نزيه ومحايد لا يأتمر بأمر السلطة ولا يتدخل السياسيون في عمله، وذلك ما يجعل سائر المواطنين يحسون بالأمان لأنهم قادرون على أخذ حقوقهم كاملة إذا ما تعرضوا لظلم. ولا أريد هنا أن أقول إن هذه المفاهيم غائبة في العالم العربي لأنها موجودة كما تقول هالة مصطفى في كتابها القيم أزمة الليبرالية العربية، ولكنها موجودة في إطار فردي، ذلك أن العالم العربي لا يعدم الأشخاص الذين كتبوا كتابات مستنيرة في مفهوم الدولة من زوايا مختلفة، لكن تبقى معظم هذه الكتابات فردية التوجه ولم تتحول إلى نظم اجتماعية حقيقية كما تقول الكاتبة.
ويشعر الكثيرون بالأسف لأن الناس في العالم العربي كانوا يتطلعون دائما إلى مصر ويرون أنها القلعة التي سيحدث منها التحول، فقد انفتحت مصر منذ عهد محمد علي باشا على العالم العريض وبدأت تدق باب الحداثة بعنف وكان العالم العربي ينظر بإعجاب لما يحدث فيها ويتمنى أن تكتمل تجربتها وتكون أنموذجا يحتذيه العالم العربي، وبدأت مصر تضع أولى خطواتها في طريق الديموقراطية من خلال التعددية الحزبية التي لا تستند إلى أسس طائفية أو عرقية، ولكن جاءت ثورة يوليو وأوقفت كل هذا المد، وحولت البلاد في عهد عبد الناصر والسادات ومبارك إلى دولة بوليسية تعادي الشعب وتفتح له المعتقلات وتطارده بأجهزة المخابرات، وحتى بعد أن سقط هذا النظام وظن الكثيرون أن مصر مقبلة على عهد جديد خاب ظن الكثيرين عندما رأوا أن البلاد تدخل في جدل عقيم حول قضية واضحة المعالم ولا تحتاج لأن يختلف الناس حولها في إطار نظام ديموقراطي سليم.
ويبدو المشهد العربي في ضوء ذلك مشهدا يتسم بالفوضى والقصور الفكري، ذلك أن المطلوب في هذه المرحلة ليس تزاحم التيارات التي تريد أن تصل إلى السلطة بل بدء التفكير في كيفية إنشاء الدولة الحديثة.
وفي ضوء ذلك لابد أن يقلع الكثيرون عن التفكير بالأساليب الطائفية والعرقية والعقدية بكون هذه الأساليب لن تقيم نظام الدولة القويم، وهو النظام الذي يحتاج إلى تفكير عريض يستند إلى الأسس التي تبنى عليها الدول الحديثة، ولا شك أن هناك نماذج كثيرة في عالم اليوم يمكن الاستفادة منها مثل النموذج البريطاني والنموذج الفرنسي والنموذج الأمريكي، وهنا يجب أن يتوقف التفكير التقليدي في العالم العربي الذي لا يرى في النظم المتقدمة إلا نظم استعمار واحتلال، إذ يجب أن تعرف الشعوب العربية أن مواقف الدول الغربية منها ليس بسبب رغبتها في المصالح والتحيز فقط بل أيضا بسبب الواقع العربي ذاته الذي يشجع على مثل هذا التعامل، وقد رأينا في نموذج مقاومة حماس للاعتداءات الإسرائيلية دليلا على ذلك، إذ عندما صمدت حماس وأدرك العالم أن صمودها سيكلف الطرف الآخر كثيرا وقف العالم معها من أجل أن ينهي تلك الحرب، وذلك ما يجب أن يحدث في المواقف العربية كلها لأن حالة الضعف والتشرذم السائدة في العالم العربي هي التي تشجع على مواقف العالم الغربي من العرب وتجعل الخصومة حاجزا دون إقامة الدولة الحديثة في هذا المكان من العالم، ولا شك أن الكثيرين يعتقدون أن التغيير يعني فقط قلب أنظمة الحكم وذلك خطأ كبير لأن العالم فيه النظم الجمهورية والنظم الملكية وغيرها، وليس المهم أن يكون الحاكم رئيسا أو ملكا بل المهم أن يكون هناك نظام يحقق الأسس الديموقراطية التي تحدثنا عنها، وبالتالي يجب أن تكون المرحلة المقبلة هي مرحلة التفكير السوي بحيث لا يصبح مشروع إقامة الدولة الحديثة في العالم العربي مشروعا محدودا في أذهان بعض الأشخاص يسطرونه بأقلامهم في كتبهم، لأن المطلوب هو أن يتحول المشروع إلى واقع بحيث يحدث التغيير الحقيقي في العالم العربي.