بقلم د. عماد بوظو/
شهدت مواقع التواصل الاجتماعي خلال الأيام الماضية سجالا حول مواقف والد الطفلة عهد التميمي التي اعتقلتها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية مؤخرا، والذي تبين أنه من مؤيدي نظام الأسد في سوريا حسب تدوينات عديدة له خلال السنوات الماضية، وهو ناشط معروف يشارك بندوات وفعاليات مختلفة يبدو فيها كصاحب خلفية ثقافية معقولة. وقبلها تناقلت مواقع التواصل الاجتماعي صورة لبطاقة تهنئة للقيادي بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين محمد ضهير بمناسبة قدوم مولوده الجديد بشار الأسد، لقد اختار هذا القيادي لابنه هذا الاسم بقناعة تامة ولم يكن هدفه التزلّف فهو خارج سيطرة النظام السوري ومقيم في قطاع غزة. وفي شهر تشرين الأول/أكتوبر 2017 أزيح الستار في مدينة قلقيلية بالضفة الغربية عن نصب تذكاري لصدام حسين، كما اطلق اسمه على أحد الشوارع فيها. وفي قطاع غزة أعلن أحد المطاعم مؤخرا تقديم تخفيضات بنسبة تصل إلى ثمانين في المائة من أسعار الوجبات للزبائن من مواطني كوريا الشمالية!، كما تم تعليق صورة بالحجم الكبير لكيم جونغ أون على واجهة المحل، وقال صاحب المطعم أعرف أنه لا يوجد أي كوري شمالي في قطاع غزة لكنني أردت شكر كوريا الشمالية على موقفها من القضية الفلسطينية. وفي شهر آب 2017 أرسلت السلطة الفلسطينية مساعدات طبية إلى نظام مادورو في فنزويلا عبارة عن ثلاث شاحنات تتضمن مضادات حيوية وأدوية للحالات المزمنة وحالات الطوارئ، علّق الجنرال الإسرائيلي يؤاف مردخاي على هذه المساعدات ساخرا: تبعد فنزويلا 10000 كلم بينما غزة مجاورة! وفي العام الماضي قال عباس زكي عضو اللجنة المركزية لحركة فتح من طهران: إن رهان الفلسطينيين كبير على إيران نتيجة دورها المتعاظم، وإن مصلحة فلسطين أن تكون إيران دولة مقتدرة. كما صرح القيادي في حماس محمود الزهار أن “علينا الوقوف مع الدول الصديقة وفي المقدمة إيران”. وفي 6 تموز/يوليو 2017 قال الكاتب الفلسطيني عبد الباري عطوان متحسّرا على القذافي: “تم التحضير في غرف الغرب السوداء لفبركة ما أسموه الثورة الليبية على يد ثوار الناتو لعدة أهداف لكن أهمها كان الاحتياطات الهائلة من الذهب 143 طن ومن الفضة 150 طن التي راكمها القذافي بهدف إصدار عملة إفريقية تعتمد على الذهب وتفك ارتباطها بالعملة الأوربية”. إن قيمة أطنان عبد الباري عطوان الخيالية هي ستة مليارات دولار، بينما تقدر بعض المصادر ما نهبته عائلة القذافي من ليبيا بين 100 و150 مليار دولار، وفكرة العملة الإفريقية الموحدة خرافة صعبة التصديق.
حكم صدام حسين كان دمويا إلى درجة لا يمكن إنكارها وأعداد ضحاياه من العراقيين كان بمئات الآلاف، وشملت جرائمه الجميع حتى عائلته. نظام حكم “الأخ العقيد” في ليبيا مشابه له تماما رغم أنّه أقل دموية، ونظام الأسد تجاوزهما في جرائمه بدرجة كبيرة، وقد جرّت هذه الديكتاتوريات العائلية على شعوبها كوارث هائلة. نظام مادورو في فنزويلا يعتمد في استمراره اليوم على تحكم الجيش في مؤسسات الدولة بعد قمع دموي للاحتجاجات الشعبية الواسعة وحلّ البرلمان المنتخب ديموقراطيا. في حين الصور القليلة التي تتسرب من كوريا الشمالية توحي بنظام مرعب يبدو وكأنه من كوكب آخر. والحكم الإيراني لا يختلف عن كل هذه الأنظمة ويرجع الفضل في بقائه إلى اليوم لحرسه الثوري والرافعات التي يستخدمونها كمشانق في كل المدن لتذكير الشعب الإيراني بمصير من يخرج عن طاعة الولي الفقيه.
أي لا يوجد نظام ديكتاتوري في الشرق الأوسط والعالم إلّا وتعلن السلطة ومختلف المنظمات الفلسطينية عن تأييدها له، ويشاركها هذا الموقف أغلب الوسط الثقافي وجزء معتبر من الشارع الفلسطيني. ودفع الفلسطينيون خلال السنوات الماضية ثمنا باهظا نتيجة هذه المواقف، فبعد الإطاحة بنظام صدام حسين فقَدَ بضع مئات من الفلسطينيين حياتهم هناك نتيجة اتهامهم بالتعاون مع النظام السابق، كما غادر بضعة آلاف منهم إلى خارج العراق وبعضهم بقي محتجزا في مخيمات مؤقتة على الحدود العراقية السورية لأشهر طويلة. وبعد تحرير الكويت من الاحتلال العراقي تم ترحيل قسم كبير من الأربعمئة ألف فلسطيني الذين كانوا يعملون هناك قبل الغزو بتهمة وقوفهم مع الاحتلال، ولم يكن حال الفلسطينيين أفضل في ليبيا بعد الإطاحة بمعمر القذافي حيث فرّ أيضا عشرات الآلاف منهم.
الحالة السورية هي أوضح مثال على تفضيل قسم كبير من الفلسطينيين للتحالف مع الطرف السيئ. فالفلسطينيون يعرفون تماما حقيقة نظام الأسد الذي قتل منهم آلافا واعتقل عشرات الآلاف، وإذا ادعى قسم من الفلسطينيين بأنهم كانوا يصدقون ما يقوله صدام والقذافي حول رغبتهم بمحاربة إسرائيل، فإنهم لا يستطيعون قول الشيء نفسه عن نظام الأسد الذي له جبهة مباشرة مع إسرائيل، لكنها كانت الأكثر هدوءا وأمنا، حتى أن إسرائيل لم ترى حاجة لإنشاء استحكامات أو عوائق عليها مثل أسلاك مكهربة أو حقول ألغام، كما اتّضح عندما توجه بضع عشرات من الفلسطينيين والسوريين من عين التينة وعبروا خط الجبهة إلى مجدل شمس في الجولان المحتل بكل سهولة في شهر أيار-مايو 2011 في محاولة وقتها رتّبتها المخابرات السورية للتشويش على بداية الحراك الشعبي ضد حكم الأسد، ورغم ذلك فقد التزمت المنظمات الفلسطينية الصمت خلال الأيام الأولى للثورة السورية، ولكن موقف نسبة كبيرة من المثقفين الفلسطينيين في سوريا وخارجها كان التشكيك في هذه الاحتجاجات الشعبية، ثم سرعان ما تبنت حركة حماس موقفا أقرب للنظام. واختارت بعض المنظمات القتال عسكريا معه مثل منظمة أحمد جبريل، كما نجحت أجهزة المخابرات السورية في اختراق المجتمعات الفلسطينية وتوظيف آلاف الشبيحة من بينهم. وعندما ظهرت مؤشرات على أن النظام السوري باق على المدى القريب بدأت السلطة الفلسطينية وحركة فتح ترسل إشارات التودد لنظام الأسد مثل رسالة حركة فتح الموقعة من مفوض العلاقات العربية والدولية عباس زكي بمناسبة عيد الجلاء 2017 والتي تتضمن: “نحن واثقون بأن سوريا منتصرة بإذن الله بقدرات شعبها وجيشها الباسل على العصابات المسلحة وسيعود الأمن والأمان على ربوعها.. وأن يعيدها موحدة وآمنة ومستقرة تحت قيادتكم الحكيمة”.
تأييد هذه الأطراف الفلسطينية لأنظمة ديكتاتورية على هذه الدرجة من الإجرام، يعني أنها لا تقيم وزنا للاعتبارات الأخلاقية والإنسانية، إذ يكفي أن تدّعي هذه الأنظمة أنها تقف مع قضية فلسطين حتى ولو كان هذا الموقف للاستهلاك الإعلامي حتى تتغاضى الأطراف الفلسطينية عن كل ممارسات هذه الأنظمة بحق شعبها أو جيرانها، كما أن هذا الموقف قصير النظر، فكما انهار الاتحاد السوفييتي وما كان يدعى المنظومة الاشتراكية، وكما ذهب صدام حسين ومعمر القذافي ونظامهما، فالمصير نفسه ينتظر بشار الأسد والنظام الإيراني ومادورو وكيم جونغ وبوتين وإن طال الزمن، لأن هذه الأنظمة لا تحمل عوامل للاستقرار والبقاء على المدى الطويل،، كما أن هذه الدول المحكومة من هذه الديكتاتوريات بمجملها فقيرة ولديها ما يكفي من الأزمات الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، لذلك فإن إمكانياتها لتقديم مساعدات فعّالة للقضية الفلسطينية محدودة، كما أن هذه الديكتاتوريات خارجة عن الإجماع الدولي وتصنّف باعتبارها مارقة، والوقوف معها تحت أي ذريعة يعقّد العلاقات مع المجتمع الدولي والدول المحيطة بها. فالإشادة بديكتاتور كوريا الشمالية قد لا يروق لليابان وكوريا الجنوبية، والعلاقة المتينة مع النظام في إيران ستكون على حساب العلاقة مع بعض دول الخليج، والأهم من كل ذلك هو أن التضامن مع مثل هذه الأنظمة يعني معاداة شعوب هذه الدول التي تعتبر الضحية الأولى لها.
في مؤتمر دعم القدس الأخير في تركيا ظهرت مؤشرات على تراجع الاهتمام بالموضوع الفلسطيني، فقد كان عدد ومستوى الحضور منخفضا بشكل لافت، حتى عندما حاولت الجهات الداعية للمؤتمر الترويج لنجاحه بقولها أن 16 رئيسا حضر هذه القمة، فقد تبين أنهم قادة فلسطين والأردن ولبنان واليمن والصومال وأذربيجان وطاجيكستان وكلها دول صغيرة ذات وزن دولي محدود، بالإضافة لرئيس فنزويلا مادورو الذي لا علاقة له بالمؤتمر الإسلامي من الأساس، أي أن المشاركة الحقيقية في هذه القمة اقتصرت على حكام دول الإسلام السياسي تركيا وإيران، والذين لا نعرف إذا كانت القدس تعنيهم فعلا أم أن ما يهمّهم هو استخدام قضيتها في صراعاتهم الإقليمية وأزماتهم الداخلية، والذي أهداهم قرار الرئيس ترامب فرصة للعودة إلى المتاجرة بالقضية الفلسطينية كما كان حالهم دائما.
خلال العقود الماضية كانت المنظمات والأوساط الثقافية الفلسطينية تستخدم في أدبياتها عبارات من نوع المراهنة على الشعوب باعتبار الأنظمة والحكومات خاضعة للهيمنة الدولية، ولذلك من المفيد لهذه الجهات أن تتابع مواقف هذه الشعوب بعد أن أصبح بالإمكان أخذ فكرة مقبولة عن توجهاتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي، وإذا ما اتّضح أن الرأي والمزاج الشعبي حول القضية الفلسطينية في دول الخليج ومصر وسوريا والعراق ولبنان وإيران وتركيا يشهد تغيّرا أو تراجعا، فعلى هذه الجهات محاولة معرفة أسباب ذلك والبحث عن طرق مناسبة لتلافيها، وقد يكون لسياسة التحالف مع الأنظمة الديكتاتورية والمعزولة نتائج سلبية على تعاطف الرأي العام الشعبي في هذه الدول مع القضية الفلسطينية، وربما لم يفت الأوان لتدارك ذلك.
شبكة الشرق الأوسط للإرسال