تخيلوا ولو للحظة أنه كان يوجد إنترنت وفيديو وفضائيات في عصر كارل ماركس. بل تخيلوا لو أن هذه الثورة المعلوماتية التي غيرت وجه الكون كانت موجودة في عصر سقراط وأفلاطون وأرسطو. كنا سنراهم عندئذ بالصوت والصورة وهم يتمشون ويتحاورون في شوارع أثينا… بل تخيلوا لو أننا نرى المتنبي بكل شخصيته الفذة حيا وهو يلقي قصائده في حضرة سيف الدولة من خلال اليوتيوب؟ كيف كان زعيم الشعر العربي يترنم بشعره وقوافيه؟ شيء مذهل. شيء يدوخ العقل. ولكن للأسف كل هذه الأشياء نحن محرومون منها إلى الأبد. ولم يبق لنا منهم إلا مؤلفاتهم المكتوبة بلا صوت ولا صورة ولا حياة ولا من يحزنون. بحياتنا كلها لن نراهم ولن نعرف صور وجوههم ولا نبرات أصواتهم. أما عباقرة هذا الزمن من أمثالنا فسيراهم الناس بعد مليون سنة بصورهم الشخصية كما كانوا. سوف يرونهم بكل ضحكاتهم وابتساماتهم وتكشيراتهم إلخ… ويا له من كنز لا يقدر بثمن وتحسدنا عليه كل الأجيال السابقة من اليونان إلى العرب إلى حكماء الهند والصين والغرب أجمعين. ولهذا السبب أقول: أكبر حظ في التاريخ أننا لم نمت قبل ظهور الإنترنت والإيميل وكل الثورة المعلوماتية الحالية.
ولكن هذا لا يمنعنا من التخيل. فالخيال يعوض عن الواقع الحقيقي إلى حد ما. وفي كل الأحوال لم تعد لدينا وسيلة أخرى لاستنطاق عظماء الماضي واستمزاج رأيهم فيما يحصل حاليا. وهذا ما فعله المفكر الفرنسي المرموق هنري بينا – رويز. وهو فيلسوف وأستاذ جامعي وأحد كبار منظري العلمانية في فرنسا. وقد أصدر مؤخرا كتابا ضخما بعنوان: قاموس عاشق للعلمانية. ويا ليته يترجم إلى العربية. ماذا فعل هذا الباحث؟ لقد أعاد كارل ماركس إلى الحياة مرة أخرى وحاوره وأجرى معه عدة مقابلات متواصلة شكلت كتابا ممتعا في نهاية المطاف بنحو المائتي صفحة إلا قليلا. وكانت أسئلته من نوع: ما رأي كارل ماركس بحاله وتجربته ومساره الفكري والنضالي إبان القرن التاسع عشر؟ بل ما رأيه بأحوال العالم اليوم لو أنه بعث حيا في بدايات هذا القرن الحادي والعشرين؟ وكذلك ما رأيه بكبار مفكري عصره وبالأخص أستاذه الكبير هيغل؟ ثم ما رأيه بأشياء أخرى كثيرة لا عد لها ولا حصر؟ هذا ما تجدونه في هذا الكتاب الخيالي الممتع الفريد من نوعه. وهو يشبه محاورات أندريه ميكيل مع أكبر خليفة مثقف في تاريخ العرب والإسلام: عنيت المأمون.
ولكن منعا لكل التباس تقتضي مني الأمانة منذ البداية أن أقول للقارئ ما يلي: في حياتي كلها لم أكن معجبا بماركس ناهيك بالماركسية والشيوعية وذلك لسبب بسيط: هي أنها مادية محضة أي تركز على العوامل المادية بشكل مسرف. وهو شيء يزعجني وينفرني منها. لهذا السبب لم يكن ماركس إحدى مرجعياتي الفكرية يوما ما. وذلك على عكس فولتير أو كانط أو بالأخص جان جاك روسو. فهؤلاء مثاليون روحانيون أكثر مما هم ماديون بكثير. وهذا ما يعجبني ويريحني فيهم. ولكن بما أن المؤلف مقتنع بما يقول فلماذا لا أعطيه حق الكلام والإعجاب بماركس. أقول ذلك وبخاصة أن هنري بينا – رويز شخص محترم ومفكر حقيقي لا يستهان به. أليست الديمقراطية تعني إفساح المجال لمن يختلفون معنا في الرأي والتحليل؟ يضاف إلى ذلك أنه يحب ماركس ويكره الماركسية. وهذا شيء يعجبني جدا فيه. إنه يكره الماركسية كعقيدة مغلقة أو متكلسة متحنطة متحجرة تلغي العقل والإبداع. ضمن هذا المنظور أقدم هذا الكتاب. في المقدمة التي تستهل الكتاب يقول لنا المؤلف ما معناه: هذا المحاورات التي ستقرأونها لم تحصل أبدا. فكارل ماركس مات قبل أن أولد أنا بأكثر من ستين سنة. ومع ذلك فهي حقيقية ولم أخترع شيئا من عندي. لم أكذب عليه ولم أرد تقويله ما لم يقله. الأسئلة الواردة هنا فقط مني. أما الأجوبة فهي مستمدة كليا من كتب كارل ماركس ومقالاته الكثيرة. ولذا أستطيع القول إن هذه المقابلات الخيالية مع شخص مات عام 1883 أي قبل قرن ونصف تقريبا ليست وهمية ولا خيالية على الإطلاق. وقد أردت من خلالها التسهيل على القارئ للدخول إلى فكر كارل ماركس الصعب والمعقد أحيانا. وهو فكر غير معروف جيدا على عكس ما نتوهم. وذلك لأنه مطمور تحت ركام من الأحكام المسبقة والأفكار الشائعة والشعارات الديماغوغية الخاطئة.
ثم يضيف المؤلف قائلا: ينبغي العلم بأن فكر كارل ماركس أبعد ما يكون عن تلك الصورة المشوهة التي قدمها ستالين والستالينيون الشيوعيون عنه. إنه شخص آخر. ويمكن القول بأن كارل ماركس هو شخص رؤيوي يرى إلى البعيد وبعيد البعيد. نعم لقد تنبأ ماركس بالعولمة الرأسمالية المجنونة السائدة حاليا والمهيمنة على العالم. لقد رآها بأم عينيه وعرف أنها قادمة لا محالة. وهي عولمة تزيد الغني غنى والفقير فقرا. ولهذا السبب ساءلته عن عبادة المال في عصرنا، وعن العذاب البشري لمعظم الشعوب المحرومة من ثمار العولمة، وعن الدين، وعن الاستغلال، وعن التضامن مع الفقراء والمحتاجين، إلخ… لقد أردت أن أعرف رأيه في كل هذا. وعن ذلك نتج هذا الكتاب.
ولكن ماذا يقول بعض معاصرينا عنه؟ إنهم يتهمونه بالمسؤولية عن الغولاغ الستاليني المرعب. وهذا ظلم ما بعده ظلم. فهل يسوع المسيح مسؤول عن محاكم التفتيش السيئة الذكر؟ هناك المبادئ المثالية الرائعة وهناك التطبيقات السيئة أو المنحرفة الضالة. وبالتالي فرجاء لا تخلطوا هذه بتلك. ولا تظلموا ماركس أكثر مما يجب. فقد كان فيلسوف التحرير لا القمع. لقد ناضل طيلة حياته كلها من أجل تحرر الناس والشعوب. وأكبر دليل على ذلك مساندته لأبراهام لنكولن في معركته الهادفة إلى تحرير الزنوج في أميركا. وهي معركة دفع ثمنها الرئيس الأميركي العظيم غاليا لأن غلاة البيض المتطرفين قتلوه كما هو معروف. لقد اغتالوه بطلقة مسدس من وراء ظهره وهو يجلس في قاعة السينما منهمكا بمشاهدة أحد الأفلام. ودافع ماركس أيضا عن حرية الصحافة ضد الرقابة البروسية القمعية. ودافع بالطبع عن طبقة العمال المسحوقين المستغلين من قبل الرأسماليين الشرهين.
ولكن ماركس كما يقول المؤلف لم يشهد إلا المرحلة الأولى من الرأسمالية: أي رأسمالية القرن التاسع عشر. وهي ما يمكن أن ندعوه بالرأسمالية البدائية. ومعلوم أنها كانت بلا إيمان ولا قانون إلا قانون الربح السريع على ظهور العمال البائسين الذين يشتغلون أكثر من عشر ساعات في اليوم بأجور زهيدة جدا ودون ضمان صحي ولا تأمينات اجتماعية ولا أي أمان من أي نوع كان. ولكن بعد هذه الرأسمالية الأولى المتوحشة واللاإنسانية بالمرة حلت الرأسمالية الثانية في القرن العشرين. وقد لعبت تنظيرات ماركس وإنغلز دورا كبيرا في تخفيف وطأتها على الطبقة العاملة. فقد وجهت هذه التحليلات والتنظيرات المضيئة نضالات الطبقة العاملة وجعلتها تفرض على الرأسماليين بعض التسويات والتنازلات لصالحها. وهكذا حصل العامل في أوروبا على الضمان الاجتماعي والصحي وتقليص ساعات العمل وزيادة الأجور. وهكذا أصبح العامل يمتلك البراد والغسالة والسيارة. ودخل حياة الاستهلاك والاستمتاع بالحياة إلى حد ما. ويرى المؤلف أنه لولا تنظيرات ماركس المضيئة التي قادت النضالات العمالية والنقابية لما تحقق كل ذلك. وبالتالي فمن يقول إن الفكر مجرد كلام في كلام لا معنى له ولا قيمة مخطئ. الفكر أقوى من الرصاصة إذا كان فكرا حقيقيا مضيئا.
ثم انتقلنا الآن إلى المرحلة الثالثة من مراحل الرأسمالية. وهي ما يمكن أن ندعوه بالعولمة الرأسمالية المصرفية. ويرى المؤلف أن هذه المرحلة الثالثة تتميز بهيمنة الفلوس التي أصبحت معبودة كالعجل الذهبي. فأصحاب المليارات يتحكمون بالعالم ويستعرضون عضلاتهم، أي فلوسهم دون أي خجل أو حياء في بحر من الفقر المدقع. ولا يوجد عندهم أي إحساس ولا ضمير ولا أي ذرة من النزعة الإنسانية. هنا تكمن أصولية الغرب المتوحشة والباردة والصقيعية. وهذه المرحلة الثالثة كان كارل ماركس قد تنبأ بها في كتاب الرأسمال الشهير وبالأخص في الفصل المكرس لتحليل عبادة السلعة وتقديسها، وكذلك عبادة المال، والرأسمال المؤدي إلى المزيد من المال عن طريق الفوائد الناتجة عنه.كل هذا تنبأ به كارل ماركس. بل وتنبأ بالانحرافات الخطيرة التي طرأت على الرأسمالية مؤخرا وأدت إلى المضاربات المصرفية في البورصات العالمية. وهي مضاربات أدت إلى الأزمة العالمية الشهيرة عام 2008 حيث حصلت أكبر عملية سطو على مدخرات الناس العاديين في البنوك. ولا ننسى الأضرار التي طرأت على البيئة بسبب هوس الرأسماليين المجنون بالإنتاج وزيادة الإنتاج غير عابئين بمصلحة الأرض والطبيعة ناهيك بالإنسان. كل هذا ندفع ثمنه غاليا الآن بسبب شراهة الرأسمالية الغربية المتوحشة واللإنسانية. فالتلوث أصبح يملأ الأجواء والاضطرابات المناخية أصبحت تهدد مصير الجنس البشري كله.
– كيف قابل المؤلف كارل ماركس؟
إليكم هذا السيناريو الطوباوي الخيالي: بما أنه أصبح معجبا كل الإعجاب بروائع ماركس الخالدة والمجهولة على حد قوله، فإنه قرر السفر إلى لندن لمقابلته هناك حيث يقيم. وقد التقاه في أواخر حياته لا بداياتها. التقاه في بيته عام 1882 بعد أن فقد زوجته وحبيبة قلبه جني ماركس عام 1881. التقاه بعد أن أنهكه المرض والحزن ولم تبق له إلا سنة واحدة لكي يعيش. فهذه الزوجة رافقته طيلة حياته كلها ولم تتركه على الرغم من الفقر المدقع والحرمان المادي الرهيب. ومعلوم أنها ولدت في عائلة غنية وشبعانة لا تعرف الجوع ولا الحرمان. فكيف صبرت على تلك الحياة البائسة مع شخص عاطل عن العمل ولا يدخر شيئا تقريبا؟ لقد أقنعها بفكره وبذلك الحلم الرائع الهادف إلى تحرير البشرية وتحقيق الجنة على هذه الأرض. ثم إن الحب أعمى كما يقال. لحسن الحظ فإن الصديق الغني إنغلز موجود، وهو الذي أنقذ العائلة من شر مستطير. ومعلوم أن ماركس وزوجته فقدا ثلاثة أطفال بسبب الجوع والحرمان وعدم القدرة على معالجتهم طبيا. ولكن ذلك كان قبل التعرف على إنغلز.
ثم يقول المؤلف إن صحة كارل ماركس تدهورت كثيرا في الفترة السابقة على الرغم من أن عمره لم يتجاوز الثالثة والستين. ولكن الحياة البائسة التي عاشها والآلام الجسدية والمعنوية قضت على صحته. يضاف إلى ذلك أن رحيل زوجته الغالية دمر ما تبقى… وكل الذين قابلوه في الآونة الأخيرة قالوا بأنه منهك تماما. ومع ذلك فلا يزال يواصل العمل على كتابه الأساسي: الرأسمال. وهو رائعته الفكرية التي لم يستطع إنجازها كليا. وقد استقبله في مكتبه المليء بالأوراق والمراجع والجرائد وكل الفوضى العارمة لمفكر من حجم كارل ماركس. وكانت إلى جانبه صورة إنغلز رفيق دربه في النضال والكفاح من أجل عالم أكثر عدلا أو أقل ظلما. لقد ناضلا فكرا وممارسة من أجل تجاوز هذا العالم الرأسمالي الظالم واستهلال عالم آخر جديد. ولم تذهب نضالاتهما سدى. فقد تحسنت أوضاع الطبقة العاملة كما ذكرنا حيث نالت بعض حقوقها في عهد الرأسمالية الثانية.
*نقلا عن “الشرق الأوسط”.