في قاعة المحكمة كل شئ واضح ، لا يوجد سوى أبسط أشكال الحقائق وأكثرها وضوحا ، حيث التجلي المبين للحقيقة ، و المرجعية المضبوطة ، واللغة المستخدمة الواحدة ، والسلطة المطلقة ، والمعيار الأحادي لتحديد ماهو حقيقي ما هو باطل ، حيث الحقيقة مجرد أرقام تحدد للمتخاصمين من هو على حق ومن هو على باطل (( المتهم خالف المادة 29 ، المتهم مدان بموجب المادة 16 …الخ )) حتى المجال الهامشي والضيق للتقدير في قاعة المحكمة متروك لسلطة معينة تُحدّد وفق شروط أكثر تعيينا ، كل شئ محدد سلفا ، الحقيقة أسيرة للأرقام ، وصياغة القانون وتأويله محتكر لفقهاء القانون ، والتقدير مِلك للقضاة .
كل ما عليك فعله كمحامي بحثا عن الحقيقة هو الدخول لمبنى المحكمة حيث كل ما يلزمك للدفاع عن فكرتك هو العمل على جعلها مطابقة لتلك الأرقام ، وتقنع ذلك البدين مكفهر الوجه الذي يحمل المطرقة ويتربع على كرسي وثير خلف منضدة بذلك ، الأمر لا يتطلب منك إبداع ، فالإبداع إن وجد يظل كذلك أسيرا لأرقام مواد القانون ، ينعدم الجمال وتنعدم النسبية فكل شئ محدد و الحقيقة محض قانون رياضي دقيق ، تزول العواطف والتحيزات والمشاعر ، والأخلاق ، والبقاء فقط للأكثر إنسجاما مع تلك الأرقام الباهتة الصماء ، أرقام مواد القانون .
بالمقابل يبدوا طريق الفيلسوف أكثر وعورة وملئ بالمعيقات والحواجز ، ينعدم المعيار ، وتزول الأحكام المطلقة ، حيث القانون محتقر ومدان ومتهم ، حيث القاضي الذي يدعي أنه يملك بل ويحدد الحقيقة ويفصل بينها و بين الأكاذيب قابع في قفص الإتهام على الدوام محاط بتساؤلات المرجعية والمشروعية والتعريف ، وحيث المتهم ينعم بالحرية مستفيدا من تخبطات الفلسفة في بحر التساؤلات الوجودية ، ففي الفلسفة تبدوا الحدود بين الحقائق والأكاذيب رمادية اللون ، باهتة ، هشة للغاية ، حيث العدمية والشكوكية المطلقة تحتفظ بكلمتها قوية في سوح الفلسفة ، حيث الاثار المدمرة لزلزال ديفيد هيوم تتيح مهربا وتوفر ملجأ للعدمية والعبثية والشكوكية المطلقة ، وحيث القنبلة التي ألقاها كانط والتي أسماها الأشياء بذاتها والأشياء كما تبدو لنا لا تزال نيرانها مؤججة تشعل كافة اليقينيات والثوابت .
تختفي الأحكام المطلقة ، التحيزات والعواطف وإكراهتهما على الدوام محل كشف وفضح ، لا يقين ، حتى المنطق محل سؤال متعلق بشرعيته ومنطقيته ، أبسط القيم و القواعد الأخلاقية محل تساؤلات وشكوك ، حتى النسبية تواجه بسؤال متعلق بمطلقية نسبيتها .
في الفلسفة لا يوجد مباني للحقيقة كقاعات المحاكم ، لا يوجد لغة واحدة يتحدث بها الجميع ، بدأ البشر في التفلسف قبل أكثر من ألفي عام وإلى اليوم لا تزال الفلسفة إلى اليوم مليئة بالتساؤلات ، بل لا تزال لا تعدو عن كونها محض تساؤلات إستعصت حتى اللحظة على الإجابة ، تشتغل الفلسفة في مباحث الجمال والخير والحقيقة والأخلاق ولا زالت كل تلك الميادين محل تنازع وجدال فكري وفلسفي عاصف .
الادوات المعرفية لدى الفيلسوف كلها مشكوك فيها ، والمحامي لديه أدوات واضحة ، شهود ، بصمات ، إعترافات ، قرائن ، وقائع ، بينات .
حواسنا ضللتنا ولا ندرك إن كانت تضللنا إلى اليوم أم لا ؟ بالنسبة للمحامي الدليل الحسي هو عين اليقين ، هو الدليل والإثبات القطعي ، هو الحقيقة الوحيدة والكبرى .
حلم تكوين لغة واحدة منطقية تنطق بها الفلسفة تلاشى وتبخر بإعلان برتراند رسل وفيتجينيشتاين إستحالة ذلك وتحولهما لفلسفة اللغة المدقعة في النسبية ، رجال القانون لغتهم احدة ومصطلحاتهم متفق عليها .
تيارات الفلسفة كلها تصل إلى نقطة تعجز فيها عن التبرير المنطقي لمرتكزاتها ومضامينها الأساسية ، المنطق نفسه يفتقد للتبرير النهائي ، الفلسفة تقلص دورها اليوم إلى محاكمة أو شرطة مكافحة لكافة الأفكار واليقينيات الدوغمائية ، والقانون محكمة للدفاع عن الأفكار واليقينيات ، الفلسفة هي فن صناعة السؤال ، والقانون هو وسيلة التحايل لإيجاد الجواب