الرسالة الثانية: ماهي الروح
هناك من يؤمنون بوجود الروح وهم لا يعرفون ما هي الروح؛ وقد جاء في القرآن: ويسألونك عن الروح قل هي من أمر ربي وما أوتيت من العلم إلا قليلا؛
وهناك من يؤمنون بعدم وجود الروح ولكنهم لم يوضحوا لنا لماذا يؤمن الآخرون بوجود الروح؛ ومن أين جاءت الفكرة أصلاً؛ ونسمعهم أحياناً يقولون أنه لا وجود للروح وأن الموجود هو حالة وعي يشعر بها الإنسان؛ ولم يوضحوا لنا ما هي حالة الوعي هذه؛ ومن أين جاءت.
ربما أكون الوحيد الذي يدرك السر في هذا الإحساس الذي يجعلنا نشعر أننا أحياء؛ والذي يسميه البعض بالروح ويسميه الآخرون بحالة الوعي.
إن إدراك ذلك السر هو نقطة فاصلة في تاريخ الفكر البشري؛ حتى أنه في المستقبل سيتم تقسيم تاريخ الفكر البشري إلى فكر ماقبل إدراك ماهي الروح وفكر مابعد إدراك ماهي الروح؛ إن عدم إدراك ماهي الروح هو نقطة ضعف الفكر العلماني؛ فالروح كما نفهمها هي شئ غيبي (ويسألونك عن الروح قل الروح هي من أمر ربي) أي أنها شئ يغيب عن إدراك البشر؛ لأنها شئ موجود ولكن ليس له بنية أي ليس له جسم فلا نستطيع إدراكه؛ وطالما ان الفكر العلماني حتى ذلك الذي لا يؤمن بوجود الروح لم يقدم لنا تفسير واضح عن حالة الوعي الموجودة عند الإنسان والتي تجعلنا نشعر أننا أحياء ومن أين جائت ومن أين جائت فكرة الروح اصلاً فهو فكر عاجز عن تقديم الدليل المانع القاطع على عدم وجود غيبيات في هذا الكون الذي نعيش فيه؛ ولهذا فالجدل بين الذين يؤمنون بوجود غيبيات في هذا الكون وبين الذين يؤمنون بعدم وجود غيبيات في هذا الكون جدل عقيم؛ لا يستطيع أحدهم أن يدحض الرأي الآخر طالما أن أحداً لم يقدم تفسيراً واضحاً يبين لنا ماهي الروح؛ وإذا كانت غير موجودة فمن إين جاءت الفكرة أصلاً؟
لكي نفهم ذلك السر علينا أن نتخلى أولاً عن أفكارنا السابقة بخصوص الحياة والروح وحتى تصورنا عن العقل نفسه ولننظر من جديد إلى الكون الذي نعيش فيه؛ إننا نولد ونموت وكل الكائنات التي يطلق عليها كائنات حية تولد وتموت اي لها بداية ونهاية وبالتالي فالحياة المزعومة هذه لها بداية وطالما أن تطور الكائنات الحية ملحوظ فلنا ان نتصور أن أول كائن حي قد ظهر على الأرض كان في صورة أولية بسيطة يتكون من خلية واحدة؛ ولو تأملنا المواد التي تكون جسم الإنسان وجدنا أنها مواد مركبة من نفس عناصر المواد الموجودة في الأرض؛ وبذلك فلنا أن نفترض أن هذا الكائن الحي قد نشأ من الأرض ويصبح السؤال هنا كيف تحولت المادة الغير حية الموجودة في الأرض إلى مادة حية؟
الحقيقة أننا لسنا أحياء ولا توجد كائنات حية كما نتصور؛ وهنا يصبح السؤال لماذا نشعر أننا أحياء إذاً؟ فلنترك هذا السؤال مؤقتاً وسنعود إليه بعد قليل ولنبحث كيف تحولت المادة الموجودة في الأرض لتصبح ذلك الكائن الذي نظن أنه حي.
إن المواد الموجودة في الطبيعة في حالة حركة وتفاعل وهذه الحركة والتفاعل يمكن أن ينشأ عنها تكوينات بعينها أي تكوينات مستقلة مثل الجبل أو النهر أو البحر وهذه التكوينات مستقلة عن أي شئ آخر بمعنى أننا يمكنا أن نشير إليها أو حتى نعطيها إسم؛ ومن الممكن أيضاً لهذه التكوينات أن تنمو بفعل الحركة والتفاعل الموجود في الطبيعة فنجد مثلاً أن هذا النهر قد تفرع وكبر بفعل المزيد من الأمطار وهذا الجبل قد صار أضخم بسبب بركان أو زلزال أسقط عليه كتل حجرية أخرى فصار حجمه أكبر؛ فلا غرابة إذاً إذا قلنا أن الحركة والتفاعل يمكن أن تنشأ تكوين مستقل ويمكن لهذا التكوين أيضاً أن ينمو؛ الفرق الوحيد الجديد الذي أحدثه التفاعل فيما يطلق عليه التكوين الحي هو أن ميكانيزم الحركة والتفاعل جعلت هذا التكوين الجديد ينمو عن طريق الإمتصاص من الوسط الخارجي أى أن هذا التكوين أصبح بمثابة مركز يمتص مواد من الوسط المحيط ثم ينمو في جميع الإتجاهات ولكن يظل المركز هو المسيطر على الحركة والتفاعل؛ هذا المركز هو مايسمى بالنواة وهو ما تطور عند الإنسان ليصبح المخ؛ وإذا تأملنا هذا النمو الذاتي الذي أحدثه التفاعل نجد أنه معاكس للجاذبية الأرضية ولا غرابة في ذلك فنحن نجد في الطبيعة أشكال من الحركة المعاكسة للجاذبية الأرضية كأن تحمل الرياح بعض الأتربة مثلاً وتحركها عكس الجاذبية الأرضية؛ إن هذا التكوين الجديد الذي نسميه التكوين الحي قد تجمعت فيه عدة خصائص أولها أنه تكوين أي وحدة مستقلة عن أي شئ آخر؛ ثانياً أنه ينمو عن طريق المركز أو النواة عن طريق إمتصاص مواد من الوسط المحيط وقد يخرج الفضلات الناتجة عن التفاعل الذي يحدث بداخله؛ ثالثاً أن نموه معاكس للجاذبية الأرضية؛ وهذه الخصائص لم تتوفر لشئ آخر غير هذا التكوين الجديد؛ ونظراً لتعقد ميكانيزم الحركة والتفاعل وصعوبة الإستمرار في هذا النمو الذاتي فقد كان هذا التكوين يسقط مرة أخرى ويتفكك ولكن ميكانيزم التفاعل جعله ينقسم قبل السقوط والتفكك وبالتالي فالقسم يكون لديه فرصة أخرى في الإستمرار إلى حين لينقسم أيضاً وهكذا؛ وهذا هو التكاثر بالإنقسام وفي وقت ما لم يكن القسمين متساويين تماماً فتميز الذكر والأنثي وتحول التكاثر إلى تكاثر بالتزاوج وعندما لا تستطيع الوحدة أو التكوين في الإستمرار في النو المعاكس للجاذبية الأرضية فهي تسقط وتتفكك وهذا ما نسميه بالموت أي أن العملية برمتها هي عملية ميكانيكية بحته ولا وجود لهذه الحياة التي نتخيلها؛ وهنا يبقى السؤال إذا كانت هذه هي الحقيقة فلماذا نشعر أننا أحياء وأن بداخلنا روح؟ وماهو العقل؟
إن السر يكمن في النمو المعاكس للجاذبية الأرضية. كيف؟
لكي نفهم ذلك علينا ان نكون على درجة عالية من القدرة على التجريد؛ وعلينا أن نفهم الفرق بين المخ والعقل؛ فالمخ فقط هو الذي له وجود فعلي؛ فإذا فتحنا جمجمة أحد الأشخاص فسنجد المخ ولن نجد ذلك الذي يسمى بالعقل؛ فالمقصود بالعقل هو قدرة المخ على التكيف مع الوسط الخارجي؛ ونظراً لأن قوانين الوجود أو الكون الذي نعيش فيه منتظمة فقد تشكل المخ وفقاً لهذه القوانين التي يقوم برصدها ويتفاعل مع الوسط الخارجي بمقتضى ما قد وصله منها؛ فالعقل إذاً هو التصرف وفقاً لهذه القوانين المنتظمة؛ ولولا إنتظامها لما كان هناك مايسمى بالعقل.
نعود الآن لذلك التكوين الذي يسمى بالتكوين الحي سواء كان وحدة أولية أو حيوان وحيد الخلية أو إنسان وقد عرفنا أن خصائصه هي:
الخاصية الأولى
أنه مستقل أي عبارة عن وحدة مستقلة؛ صحيح أنه في حالة تفاعل مع الوسط المحيط ويمتص مواد من الوسط المحيط ويلقي فيه فضلاته ولكنه وحدة مستقلة لها كيان مستقل؛ وهذه الوحدة التي تطورت حتى أصبحت إنسان عندما تتحدث عن نفسها تقول أنا فلنسميها إذاً الأنا؛ وهي مستقلة عن كل ما عداها وعندما تتحدث عن أي شئ آخر سواها تقول الآخر أي هذا الذي ليس هو أنا؛ وهنا نجد أنفسنا أمام شيئين متقابلين هما الأنا والآخر؛ فالأنا هي الوحدة المستقلة والآخر هو كل ما هو غيرها؛ ويجب علينا ألا ننسى أن هذه الأنا كانت جزء من الآخر وإستقلت عنه.
الخاصية الثانية
أنه ينمو ذاتياً أي من داخله عن طريق إمتصاص المواد من الوسط المحيط.
الخاصية الثالثة أن هذا النمو الذاتي معاكس للجاذبية الأرضية؛ أي أن الأنا ينمو عكس الجاذبية الأرضية أي أن هناك مقابلة بين الأنا وبين الجاذبية الأرضية أي بين الأنا وبين كل مايقع تحت الجاذبية الأرضية؛ ولكن بنية الأنا أي جسمها هي مواد مثل بقية المواد التي تقع تحت الجاذبية الأرضية؛ أي أننا هنا نجد مقابلة بين الأنا أي الوحدة الحية أي الإنسان وبين جسمها؛ وهذه ظاهرة فريدة لم تكن موجودة في الطبيعة من قبل؛ فلا نستطيع مثلاً أن نقول أن هناك مقابلة بين الجبل وبين الأحجار التي يتكون منها هذا الجبل.
إن هذه المقابلة بين الإنسان وجسده جعلت جسد الإنسان يبدو له على أنه جزء من الآخر أي أن الجسد قد إنتقل من الأنا ليصبح جزء من الآخر وهنا تبدو الأنا وكأنها أصبحت بلا جسد؛ وما هو الشئ الذي ليس له جسد؟ إنه الروح؛ فهنا تبدو الأنا للإنسان – أو للمخ على إعتبار أنه المركز- أي لنفسها – فالأنا هي الإنسان – على أنها روح؛ فيشعر الإنسان أنه حي في حين أن الأنا في حقيقة الأمر لا وجود لها بدون الجسد؛ ولنضرب مثلاُ يوضح ذلك: لو أننا أحضرنا ألف طوبة ورصيناها بجوار وفوق بعضها لتكون عندنا حائط ولكن عندما نبعثر الطوب مرة أخرى على الأرض فأين تكون الحائط؟ لا وجود لها؛ هكذا هي الأنا لا وجود لها بدون الجسد ولكن بسبب أنها تنمو عكس الجاذبية الأرضية بدت لنا وكأنها شئ موجود بالفعل؛ فتصورنا أن بداخلنا روح وأننا أحياء.