حازم الأمين
خُير حزب الاتحاد الديموقراطي (بي يو دي)، وهو الحزب الأوسع انتشاراً بين أكراد سورية، بين أن يدخل الجيش التركي مدينة عفرين، وأن تدخلها ميليشيات قريبة من النظام السوري، فاختار الأخيرة! هذا التبسيط ضروري في مرحلة أخرى من نقاش ما جرى أخيراً في تلك المدينة السورية، لكن قبل ذلك يجب التدقيق في حقيقة ما إذا كان الحزب فعلاً قد خُير، والعودة إلى المشهد السياسي الشديد التعقيد الذي جرت في ظله هذه المفاضلة.
فـ «التسوية» المتمثلة بدخول ميليشيات قريبة من النظام إلى عفرين لم تكن بعيدة عن حقائق التنسيق غير المسبوق بين موسكو وأنقرة وطهران، وأيضاً جرت في ظل رعاية واشنطن لقوات «قسد» الكردية تدريباً وتسليحاً وإشرافاً. ميليشيا النظام دخلت غير متحدية الحقائق الثقيلة التي يمليها هذا الاصطفاف، وهنا يصح القول إن أنقرة أيضاً اختارت أن يدخل النظام المدينة عوضاً عن دخولها هي إليه، وإن اعترى خطابها حيال الخطوة بعض الوعيد لجيش النظام ولميليشياته. فالمفاضلة الموازية بين أن يسيطر النظام على عفرين، وأن تكون المدينة بيد عدو أنقرة التاريخي، جاءت نتيجتها أن أنقرة أيضاً تفضل ميليشيات النظام على الميليشيات الكردية. وهذا ليس استنتاجاً، فأداء أنقرة منذ سنوات كشف أن الأخيرة ترى في النظام شراً أقل عليها، وسبق أن رأت في «داعش» أيضاً خياراً إذا ما لاح الخطر الكردي.
النظام السوري ليس في موقع يرشحه لخوض مواجهة مع الجيش التركي. لم يكن يوماً بهذا الموقع، وهو الآن ليس فيه أكثر من أي وقت مضى. ولا أحد يمكنه أن يصدق أنه دخل عفرين متحدياً الإرادة التركية. التحالف المنعقد في خلفية هذا المشهد بين أنقرة وموسكو وطهران لا يجعل المواجهة منطقية أصلاً، وعلى المرء والحال هذه أن لا يُغامر باستنتاج مفاده أن مواجهة قادمة على هذا الصعيد. فدخول ميليشيا موالية لبشار الأسد كان مخرجاً منطقياً لجميع الأطراف في عفرين. أما أن يُذهل ناشطون سوريون من استقبال عفرينيين لهذه الميليشيات رافعين صور بشار الأسد، فكان حرياً بهم أن يذهلوا أيضاً من مواكبة وفد من قيادة الائتلاف السوري المعارض للجيش التركي على تخوم عفرين، علماً أن الذهول صار وظيفة وحيدة لكثير من الجماعات السورية في ظل عجزها عن التأثير في مجريات الحدث في بلدها.
دخول الميليشيات الموالية للنظام في سورية إلى عفرين كان حلاً يرضي كل أطراف الحرب في تلك المدينة، لكنه أيضاً مثل إعلاناً عن اختناق كل المشاريع التي تستبعد النظام عن الحل النهائي. وبهذا المعنى مثلت الخطوة هزيمة فعلية لما تبقى من قوى المعارضة. فلم يعد في الأفق إلا بشار الأسد، وهذا ينطوي بدوره على فاجعة وعلى مأساة. ففي الوقت الذي دخلت فيه قوات النظام إلى عفرين بوصفها ملجأ المتحاربين، كانت هذه القوات تُقدم على قتل المئات في الغوطة الشرقية! وتزامن الحدثين يوحي بأن الحل في سورية ينطوي على قبول بالوظيفة الدموية للنظام. وأطراف هذا القبول هم القوى التي جرت في ظلها تسوية عفرين. أي موسكو وأنقرة وطهران، وأيضاً واشنطن التي لم تكن بعيدة عن مسارات التسوية. وبهذا المعنى لا أحد بريء من الدم السوري في الغوطة، وهو على كل حال ما يُفسر الصمت الذي قوبلت به المجزرة هناك.
إنها مأساة حقاً، والمرء إذ يستعرض مشاهدها تتكثّف في مخيلته عشرات الصور التي تحف بها، فيسقط في عجزه عن تفسير هذا الاستعصاء. فأن يكون النظام خياراً دولياً لحل معضلة عفرين في الوقت الذي يتولى فيه قتل مئات السوريين في الغوطة على نحو سافر ومن دون أي رد فعل دولي يذكر، وأن تقبل أنقرة بهذا الحل في الوقت الذي يُرابط الائتلاف الوطني السوري مع قواتها في محيط المدينة، فإن الأسئلة في ظل هذا المشهد تطال جدوى الاعتراض على الوظيفة الدموية للنظام. فأي معترض على قتل المواطنين في الغوطة سيكون خاسراً، ذاك أن الائتلاف نفسه يُشارك في هذه الغارات عبر مشاركته أنقرة في حربها في عفرين.
مسؤولية الأكراد، وحزبهم الأوجلاني، عن دخول النظام مدينتهم ليست والحال هذه في مستوى مسؤولية المعارضات السورية المقيمة في تركيا، وهي من دون شك لا توازي مسؤولية أنقرة ولا تنفصل عن مسؤولية واشنطن. وهنا تبدو العودة إلى السؤال الأول خاتمة منطقية لهذه التراجيديا، فإذا استبعدنا كل عناصر المشهد وأبقينا على حقيقة أن الـ «بي يو دي» قرر أن ميليشيا النظام أقرب إليه من الجيش التركي، فإن ما علينا استعادته هنا هو حقيقة العداء التاريخي بين أنقرة وبين أكرادها وأكراد سورية، وهذا ما سيفضي إلى أن الخطوة الكردية منطقية، وغير المنطقي فيها أن تكون تسوية يشارك فيها رعاة المعارضات السورية ممن قبلوا بتسليم المدينة للنظام، وسبق أن أهدوه مدينة حلب.
لم يعد مجدياً أن يُقاوم أحدٌ المسارات التي تخطها الدول الراعية للحرب في سورية. الهزائم تتتالى وهي قدر لا بد منه. البحث عن عدد أقل من القتلى هو الخيار الأسلم في ظل هذه الهزيمة المدوية. أن يذهب وفد الائتلاف السوري إلى دمشق بدل أن يذهب إلى محيط عفرين وأن يُعلن من هناك استسلامه، ربما كان خطوة مفيدة، فهذا قد يفضي إلى عدد أقل من القتلى، ناهيك عن أنه يُحرر الائتلاف من وظيفة المستتبع المُهان. ففي دمشق ستكون السجون في انتظاره، وربما المشانق، أما في أنقرة، فهو جزء من تحالف جرى قتل الناس في الغوطة تحت رعايته وقبوله، وهو هناك في أنقرة ينتظر نتائج هذا الموت ومردوده على سيده الذي أفسح للنظام في عفرين وفي الغوطة.
يجب الإسراع في إعلان الاستسلام، فقبل سنة كان الاعتراف بالهزيمة ضرورة، أما اليوم فلا شيء أقل من الاستسلام، وغداً إذا لم نسارع في إعلان استسلامنا، سيكون العرض أن لا بديل عن إقدامنا على الانتحار. النظام السوري سبق أن طلب ذلك من شخص أعرفه.
*نقلاً عن صحيفة “الحياة”