طوال عمري وأنا أقرأ عن الرجال الصالحين والقديسين والقديسات وكان كل فكري أنهم ماتوا منذ أن مات(دون كيشوت) وانتهى عصر الفرسان وأخلاق الفرسان وانقطعت أخبار أولئك الشجعان وأصبحوا يعيشون فقط في ذاكرة القصص الخيالية والفانتازية حين نحكي للأطفال عن الماضي ليتحسروا على الزمن الجميل, لأول مرة في حياتي أشاهد ملح الأرض على أرض الواقع فلطالما كنت أحن لتذوق طعمه الذي فعلا يختلف عن ملح مائدة الطعام, لأول مرة ألامس القديسين والقديسات كما تلامس الغيوم سطح الأرض ولكن هذه المرة بدون ضباب ولا غبار المنخفضات الجوية الخماسينية, رأيتهم بأم عيني في قرية السماكية في محافظة الكرك, وطوال عمري وأنا أسمع عن رجال محبين للثقافة وللأدب وعاداتهم وتقاليدهم أوروبية حتى شاهدت(عيد بوالصه)-(أبومايكل), حين تختلط بهذا الرجل تشعر أولا بفجوة كبيرة بينك وبين هذا الرجل ومن ثم تُؤمن بصدق نواياه وتشعر بأن هنالك شيء في العالم اسمه النظام والترتيب والأتيكيت الذي تطيق عنه صبرا لسبب وجيه وهو أننا جميعا نكره النظام والترتيب ليس لأننا فوضويين ولكن لأننا نشعر بأن النظام والترتيب جزء من السلطة التي نحب التخلص منها, طبعا سمعت كثيرا عن الأتيكيت ولكنني لم أشاهده ولم أتعلمه إلا من عيد بوالصه أبو مايكل, وكلمة أتعلمه فيها كثير من المبالغة فأنا في أغلب المواقع فوضوي ولكن ليس بزيادة عن اللزوم وإنما بحياتي فوضه ولا أستطيع تعلم الترتيب في يوم ويومين, الأتكيت عنده يبدأ من عتبة باب المنزل حتى طريقة وضع بيض الدجاج في المقلاة حتى قصة شعر رأسه وطريقة تنظيف أسنانه وغرفة النوم, أبو مايكل رجل مهذب كل شيء يفعله بوقته ولكل شيء وقته ولا يخلط المفاهيم ببعضها ولا المصطلحات, النظام جزء من حياته في البيت إلى درجة أنه يشعرك وكأنك في سجن صغير من كثرة الأبواب والأقفال فأينما وجهت وجهك تجد بابا وقفلا, رجل لا يحب أن يطلع الناس على خصوصياته بشكل كبير, وحين يغادر منزله يأخذ معه أتيكيته إلى الشوارع وبيوت الجيران.. كل شيء له أنيق ومرتب وحسب الأصول, كل شيء له نظام وترتيب وساعة وقت ولو تحدثت عن منزله المكون من طابقين لساعتين فلن أستطيع أن أصف كل ما شعرت به, ولكن يكفيني أنني شاهدت النظام والترتيب والأتيكيت لأول مرة بحياتي لدرجة إحساسي بالخوف. يعني بصراحه برستيجه فوق طاقتي لدرجة أنني شعرتُ بالتعب,وفي بعض المواقع مشيت على رؤوس أصابع قدمي لكي لا أتسبب بشيء يخربط برستيج هذا الرجل أو أن أفعل شيئا مخالفا للأنظمة واللوائح والإرشادات والتعليمات.
وهذه أيضا أول مرة لي بحياتي أدخل فيها مدينة الكرك في جنوب الأردن, وأيضا هذه أول مرة لي بحياتي أشاهد فيها أخلاق الفرسان منذ أن انقطعت أخبارهم في أواخر القرون الوسطى, السماكية قرية أردنية في الكرك صغيرة جدا ولكن فيها المحبة بما يكفي مدينة كبيرة مثل بكين الصينية أو واشنطون الأمريكية, قرية فيها 5 خمسة شوارع وقلوب محبة تتسع لأربع أو خمس جمهوريات في العالم, ولكن كيف عرفتُ ذلك؟: لنعد إلى حيث بدأنا من القديسين ..الطريقة سهلة جدا, قبل أن أرى أبونا (أيهم زيادين) عرفت أنه ينفق دخله بالكامل على إطعام الفقراء واللاجئين السوريين والعراقيين والفقراء الأردنيين, لدرجة أنه يستدين من الدكاكين ويعطي الفقراء والمشحرين والكادحين, إنه شاب بمقتبل العمر من المفترض به أن يتمتع هو وزوجته القديسة برواتبهم الشهرية ويذهبوا في سفريات خارجية سياحية ليشاهدوا العالم, من المفترض بهم أن يهتموا بأنفسهم وأن يحلموا بالسياحة يعني بعبارة أخرى(لازم يعيشوا حياتهم) حتى سن الشيخوخة وبعد ذلك يصبحوا قديسين, بعد أن يشبعوا من الكيف والانبساط, من المفترض به أن يضع رجلا على رجل في شوارع باريس ويستمتع وهو يشاهد خيوط الدخان تنبعثُ من فمه العطر وأن يشرب ويستلذ بشبابه ولكنهم بدل أن يشاهدوا هو وزوجته ملذات الحياة يأتيهم العالم الفقير إلى باب منزلهم فلا يسمح لهم الفقراء في نهاية الشهر بأن يستمتعوا برواتبهم في خليج العقبة أو فنادق البحر الميت فيمنحونهم من رواتبهم الشهرية غير مبالين بحياتهم وشبابهم, أناس بجد لم أرَ مثلهم, وحقيقة أنني سمعت عن القديسين وقرأت عنهم ولكن هذه أول مرة لي بحياتي أشاهد فيها القديسين وأصافحهم يدا بيد, ومن المعروف جيدا أن ظاهرة القديسين تأتي على الأغلب بعد سن متأخرة حين تذهب الصحة ويذهب معها الشباب, ولكن هنا شيء مختلف تماما, في السماكية القديسون بعمر ال25-26- سنة وهذه ظاهرة مهمة, الشباب دوما لديهم الرغبة الجامحة بإنفاق المال على الملذات والمشروبات وحب السفر ومشاهدة العالم الآخر, وأقصد هنا السفريات الخارجية نحو بلدان أخرى مثل مصر والأهرامات, فأبونا أيهم هوايته إنفاق راتبه الشهري على العطشى والثكلى والأرامل وثقيلي الأحمال, تشعر حينما تلامس يدك يده بأنك تريد أن تضع اصابع يديك في فمك لتتذوق طعم ملح الأرض..تشعر وكأنك تلامس تلاميذ المسيح الذي قال: تعالوا إلي يا ثقيلي الأحمال وأنا أريحكم, وهذا ما يحصل حينما يأتي آخر الشهر ويتجمع الفقراء حول الكنيسة لينفق عليهم أبونا راتبه الشهري هو والقس الإيطالي الآخر والذي تقع كنيسته بجوار الكنيسة التي يقيم فيها أبونا أيهم زيادين.
ومن بداية وصولي التقيت بعادل نصراوين أبو علاء الذي فرح جدا بمشاهدتي وجها لوجه وأخذني في جولة عبر القرية لرؤية كافة معالمها واستمتعت معه بالإفطار بمنزله الجميل على أطراف القرية, بعد ذلك اتصل بي الأستاذ (بشير العوابده) الذي أكد لي أنه أعد وليمة خاصة تليق بمقامي في منزله, كنت أظنُ حقيقة أنني ذاهب إلى تناول الطعام, ولكن فوجئت بعد الطعام بجلسة ممتعة لم أجلس مثلها منذ ربع قرنٍ على الأقل, تجمع الأهل وبدأنا نتحدث عن هموم العالم العربي والعادات والتقاليد والشعر وكافة الفنون الأدبية, وشعرت أنني في صالون ثقافي وليس بمنزلٍ أتناول به المنسف الكركي لأول مرة بحياتي, جلسنا لساعتين جلسة لن أنساها ما حييت وسأبقى عاجزا عن تقديم الشكر للأستاذ بشير ولأمه وأبيه وزوجة أخيه وأخيه وأخواته, شعرت أثناء الجلسة أنني اعرفهم ويعرفونني منذ عشرات السنين.
حين دخلت القرية شعرتُ وكأني أدخل عاصمة أوروبية, كل شيء مختلف عن ما شاهدته في القرى الأردنية
-
بحث موقع مفكر حر
-
أحدث المقالات
-
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟بقلم مفكر حر
- تلغراف: تأثير #الدومينو علی #ملالي_إيران وتحولات السياسة الغربيةبقلم حسن محمودي
- الميلاد آتٍبقلم مفكر حر
- قوانين البشر تلغي الشريعة الإسلاميةبقلم صباح ابراهيم
- ستبقى سراًبقلم عصمت شاهين دو سكي
- #إيران #الولي_الفقيه: تأجيل قانون العفة والحجاب… ما القصة؟!بقلم مفكر حر
- إشكالية قبول الأخربقلم مفكر حر
- موسم إسقاط الدكتاتوريات في #الشرق_الأوسط!بقلم مفكر حر
- ردود فعل مسؤولي #النظام_الإيراني على #سقوط_الأسد: مخاوف من ملاقاة نفس المصيربقلم حسن محمودي
- ** من وراء محاولة إغتيال ترامب …إيران أم أذرع الدولة العميقة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل إغتيال هنية في طهران … فخ لهلاك الملالي وذيولهم أم مسرحية **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هَل فعلاً تمكّن إبليس مِن العاصمة بَاريس … في عهد ألمسخ ماكرون **بقلم سرسبيندار السندي
- ** كَيْف رصاصات الغدر للدولة العميقة … أحيت ترامب وأنهت بايدن **بقلم سرسبيندار السندي
- ** العراق والمُلا أردوغان … ومسمار حجا **بقلم سرسبيندار السندي
- ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **بقلم سرسبيندار السندي
- ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.بقلم مفكر حر
- ** تساءل خطير وحق تقرير المصير … هل السيّد المَسِيح نبي أم إله وما الدليل **بقلم سرسبيندار السندي
- ابن عم مقتدى الصدر هل يصبح رئيساً لإيران؟ طهران مشغولة بسيناريو “انقلابي”بقلم مفكر حر
- ** ما سر تبرئة أل (سي .آي .أي) لبوتين من إغتيال نافالني ألأن **بقلم سرسبيندار السندي
- هل تعديل قانون الأحوال الشخصية يعالج المشاكل الاجتماعية أم يعقدها.. وأين القيم الأخلاق من هذه التعديلات ………..؟
أحدث التعليقات
- منصور سناطي on من نحن
- مفكر حر on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- معتز العتيبي on الإنحراف الجنسي عند روح الله الخميني
- James Derani on ** صدقوا أو لا تصدقو … من يرعبهم فوز ترامب وراء محاولة إغتياله وإليكم ألأدلة **
- جابر on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- صباح ابراهيم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- س . السندي on ** هل تخلت الدولةٍ العميقة عن باْيدن … ولماذا ألأن وما الدليل **
- الفيروذي اسبيق on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- س . السندي on مقارنة بين سيدنا محمد في القرآن وسيدنا محمد في السنة.
- عبد الحفيظ كنعان on يا عيد عذراً فأهل الحيِّ قد راحوا.. عبد الحفيظ كنعان
- محمد القرشي الهاشمي on ** لماذا الصعاليك الجدد يثيرون الشفقة … قبل الاشمزاز والسخرية وبالدليل **
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- عزيز الخزرجي فيلسوف كونيّ on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- س . السندي on رواية #هكذا_صرخ_المجنون #إيهاب_عدلان كتبت بأقبية #المخابرات_الروسية
- صباح ابراهيم on ** جدلية وجود ألله … في ضوء علم الرياضيات **
- س . السندي on الفيلم الألماني ” حمى الأسرة”
- Sene on اختلاف القرآن مع التوراة والإنجيل
- شراحبيل الكرتوس on اسطورة الإسراء والمعراج
- Ali on قرارات سياسية تاريخية خاطئة اتخذها #المسلمون اثرت على ما يجري اليوم في #سوريا و #العالم_العربي
- ابو ازهر الشامي on الرد على مقال شامل عبد العزيز هل هناك دين مسالم ؟
- س . السندي on ** هل سينجو ملالي إيران بفروة رؤوس … بعد مجزرة طوفان الاقصى وغزة والمنطقة**
- مسلم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- الحكيم العليم الفهيم on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :
- المهدي القادم on قراءة الفاتحة بالسريانية: قبل الاسلام
- Joseph Sopholaus (Bou Charaa) on تقاسيم على أوتار الريح
- س . السندي on النظرة الفارسية الدونية للعرب المسلمين أصولها، أسبابها ونتائجها/3
- س . السندي on اوبنهايمر
- محمد on مطالعة الرجل لمؤخرة النساء الجميلات
- ألعارف الحكيم : عزيز الخزرجي on أفضلية الإمام عليّ (ع) على آلرُّسل :