هاشم صالح
أخيرا عدت من روما وأنا معجب بهذه الندوة التي فاقت كل التوقعات. كنت أخشى أن تكون سطحية نتبادل فيها الابتسامات البلهاء أو المجاملات المنافقة والخطابات الإنشائية، فإذا بها تدخل في صلب الموضوع! وهذا من توفيق الله في الواقع أو ربما من بركة الفاتيكان، لأن الندوة تمت في الجامعة الفاتيكانية الهادئة والنظيفة جدا. لا تتوقعوا مني أن أنقل لكم كل ما دار فيها من مداخلات ومناقشات، لأن ذلك يتطلب عشرات الصفحات. سوف أختصر وأوجز مركزا على المحاور الأساسية أو بعضها على الأقل. لقد شارك فيها من الجانب العربي كل من رجاء بن سلامة والعفيف الأخضر وشاكر النابلسي وعبد الحميد الأنصاري وعبد الخالق حسين وكامل النجار وأشرف عبد القادر والعبد الضعيف كاتب هذه السطور. وأما من الجانب الغربي فقد شارك بشكل أساسي كل من سيباستيان غوركا الأستاذ في جامعة الدفاع الوطني بأميركا، بالإضافة إلى زوجته الشقراء الجميلة كاترين غوركا المديرة التنفيذية لمعهد ويستمنستر في واشنطن. وشارك أيضا روبرت ريلي الباحث في معهد السياسة الخارجية الأميركية. ولا ينبغي أن ننسى السيد ستيفن أولف رئيس المؤتمر، وسكرتيرته الناعمة التي قد تذكرك بالممثلة الفرنسية مارلين جوبير. وعندما غازلتها أكثر من مرة قائلا إنها حلوة كالفرنسيات ردت بعصبية: أنا إنجليزية! وأعجبت جدا بهذا الغضب الأنثوي العارم والاعتداد القومي بالذات. وتذكرت عندئذ أن الفرنسيين والإنجليز كانوا أعداء على مدار التاريخ ثم أصبحوا أصدقاء مؤخرا بفضل الاتحاد الأوروبي والاستنارة العقلية.. فهل يمكن أن نحلم بالمصالحة السنية – الشيعية بعد مليون سنة؟! دعوني أحلم!
افتتح المؤتمر الأستاذ شاكر النابلسي بمحاضرة عنوانها: «الإصلاح الإسلامي.. العقبات والفرص». وقال لنا إننا أصحاب تركة ثقيلة لا نستطيع تجاوزها بسهولة.. فنحن نتاج قرن ونصف القرن من حكم المماليك وبعدهم مباشرة أربعة قرون من حكم العثمانيين التعسفي الاعتباطي. باختصار نحن نتاج عصور الانحطاط والظلام.. هذا ناهيك عن الأمية والفقر وبقية العوامل التي تدعم شعبية الأصوليين وتجعلهم ينتصرون علينا بسهولة. يضاف إلى ذلك أن المساجد لهم وكذلك الاحتفالات الدينية والفضائيات الأصولية والزعماء العرب الميالون إلى الفكر الأصولي أيضا. هذا في حين أننا نحن الحداثيين حفنة صغيرة ولا سند لنا.. فكيف يمكن أن نقلب موازين القوى في مثل هذا الجو؟! وفاجأنا النابلسي عندما قال إن شيخ الإسلام عزل السلطان العثماني وقتله لأنه حضر حفلة موسيقية في دار الأوبرا بباريس. وبالتالي فسطوة رجال الدين على مجتمعاتنا لا يستهان بها. واقترح كحل أن نصل إلى السلطة لكي يهابنا الآخرون وقال: الحداثة بحاجة إلى سلطان! أين هو سلطان الحداثة وسيفها المسلول؟!
ولكن الدكتور عبد الحميد الأنصاري رد عليه قائلا إن التغيير لا يحصل من فوق عن طريق السلطة وإنما من تحت، وإلا فإنه يظل مغامرة غير مضمونة العواقب ولا يرسخ في الأرض. وسوف يظل سطحيا ويتم الانقلاب عليه بسهولة كما حصل لإرث أتاتورك وإرث بورقيبة مؤخرا على يد الإسلاميين. ولكن في ذات الوقت قال لنا الأنصاري إن جهود التنويريين العرب على مدار مائة سنة لم تضع ولم تذهب هباء منثورا بدليل ما يحصل حاليا في مصر.. فالإسلاميون أنفسهم أصبحوا يتكلمون بلغة الحداثة والديمقراطية بعد أن كانتا مجرد كفر بالنسبة لهم قبل عشرين سنة فقط. أليس هذا انتصارا للتنوير والأفكار الليبرالية؟! وهذا ما قاله أيضا عبد الرحمن الراشد في إحدى مقالاته المضيئة هنا في «الشرق الأوسط». هذا وقد وافقه على هذا التوجه الباحث الأميركي سيباستيان غوركا الحائز على شهادة الدكتوراه في الفلسفة وعلم اللاهوت. وقال: بالأمس كنت في تركيا ولاحظت أن الأصوليين يفككون إرث أتاتورك العلماني حجرة حجرة. وبالتالي فالتغيير الفوقي كما فعل الزعيم التركي عندما فرض العلمانية على المجتمع التركي قد يكون سريعا وفعالا للحظة ولكنه يظل سطحيا. التغيير ينبغي أن يكون من أسفل إلى أعلى وليس العكس. وقال إن ما نحتاجه اليوم هم تفكيك الانغلاق اللاهوتي والعقائدي في الإسلام.
وأما الأستاذ عبد الخالق حسين فقد لام الغرب على تساهله مع قادة الأصوليين المقيمين في إنجلترا والغرب عموما. وأعطى أمثلة كثيرة على ذلك. وطالب المثقفين والمسؤولين الغربيين بدعم أصدقاء الحرية لا أعدائها.
من جهتها، ركزت رجاء بن سلامة، رئيسة موقع «الأوان»، مداخلتها على التجربة التونسية الجارية حاليا. وكان كلامها مرفقا بالأمثلة العملية لا التنظيرات المجانية. وفهمنا منها أن التغيير ممكن على الرغم من أن قوى المجتمع المدني مضطرة للدفاع عن دولة الحق والقانون والحريات العامة في كل لحظة وبشكل يومي. ولولا هذا الدفاع المستميت لاستطاع الأصوليون نسف مكتسبات المرأة التونسية التي تحسدها عليها المرأة العربية عموما.
ليعذرني الإخوة المتبقون إذا كنت سأقفز على مداخلاتهم القيمة بسبب ضيق المكان. فقط سوف أقول إن العفيف الأخضر لخص الموضوع كله بعبارة واحدة عندما نبش تلك المقولة الشهيرة لبرتراند رسل: التنوير الفكري قام به مائة شخص ولو تم اغتيالهم لتأخر هذا التنوير الحضاري الأوروبي عدة قرون!
وأخيرا سوف أقفز على مداخلتي أنا أيضا ولن أتحدث إلا عن نقطة واحدة تخص السجن اللاهوتي أو الانغلاق العقائدي في الإسلام.. فنحن جميعا مسجونون داخل طوائفنا ومذاهبنا شئنا أم أبينا.. لماذا؟ لأننا تربينا عليها منذ نعومة أظفارنا وتشربناها مع حليب الطفولة بصفتها عقائد مقدسة معصومة لا تقبل النقاش. وبالتالي، يصعب جدا التحرر منها، اللهم إلا إذا قلدنا ديكارت الذي دمر في لحظة من اللحظات (بعد أن نضج وكبر) كل أفكاره السابقة! وفي ذات الوقت ترسخ في أذهاننا أن ديانات الآخرين ومذاهبهم كلها ضلال في ضلال. وبالتالي فكيف يمكن أن نحبهم أو نحترمهم؟! إنهم لا شيء بالنسبة لنا هم وكل دياناتهم. هنا يكمن الخطر الأعظم الذي يتهدد العالم الإسلامي برمته، لأنه لا يزال يعيش مرحلة ما قبل الحداثة، أي ما قبل التنوير العلمي والفلسفي. ولكني في ذات الوقت قلت لنظرائنا الغربيين: لا تتوقعوا أن نحقق في أربعة أيام ما حققتموه أنتم في أربعة قرون! لن نستطيع هضم كل الثورات اللاهوتية والعلمية والفلسفية التي توالت على أوروبا منذ أربعمائة سنة وحتى اليوم. فرفقا بنا أيها السادة وأعطونا بعض الوقت.. وقد وافقني على ذلك كل الموافقة الباحث الأميركي روبرت ريلي الذي عمقت معه الحديث في جلسة خاصة ببهو الفندق وأراني كتابه الصادر حديثا تحت عنوان: «إغلاق العقل الإسلامي.. كيف أدى الانتحار الفكري إلى الأزمة الإسلامية المعاصرة». هل نعلم أن مصطلح «الانتحار الفكري» مأخوذ من أقوال المجدد الباكستاني الشهير فضل الله الرحمن؟ فكرة الكتاب أصبحت متفقا عليها من قبل علماء الغرب والشرق، وهي أن حركات التطرف والظلام ناتجة مباشرة عن انتحار الفلسفة والعقل في أرض الإسلام منذ الدخول في عصور الانحطاط الطويلة. منقول عن الشرق الاوسط
منذ متي كان العقل الاسلامي منفتحا حتي يجري اغلاقه؟