فهد سليمان الشقيران
منذ أحداث إيران في بحر شهر يونيو (حزيران) من عام 2009، والأصوات تعلو ضمن سياق «مناقشة إصلاحية» لفكر الراحل الخميني، ذلك أن البنية التي خلّفها، والتركة التي ورّثها، تنوء بحملها جبال إيران، التي كانت تلمع بالشمس والثلج. نقاش تجديد الفكر الديني بإيران يتتالى، بينما تنتشر الأصولية ويتفسّخ الجسد الإصلاحي الفكري فيها. يجب ألا نهمل محاولات أساسية لضرب الانحطاط الأصولي بمعول النقد والتشقيق والتفريع على صلابة تلك التركة المخيفة في تشددها وتطرفها، وهي تركة تتفرع إلى نوعين؛ الأول سياسي، ذلك أن الحرب العراقية الإيرانية (1980 – 1988) كانت مفصلا تاريخيا، وسببا في نشوب الحروب التي تلتها، منها الحربان في الخليج؛ الثانية 1990، والثالثة 2003، وسبّب هذا الإرث قيام «الجماعات الانفصالية» النزّاعة نحو «مقاومة جسم الدولة»، على النحو الذي يجري في فلسطين ولبنان والسودان.
أما التركة الأكثر شراسة فهي التركة الفكرية، التي أسست لنمط سلوكي اجتماعي كارثي في إيران، وأثّر المعنى الأصولي المبثوث في الظاهرة الإيرانية على أنماط العيش في الخليج، وارتدّت حتى بعض التشكيلات الشيوعية إلى التشدد الديني، ولعل هذا هو السبب في تأكيد «الإصلاحيين» على براءة الخميني من أفكار التشدد. ولعل آخر الصيحات ما قالته حفيدة الخميني زهرا إشراقي، في الحوار الذي أجراه معها فرهمند عليبور، وقد نُشر في هذه الجريدة في 12 أكتوبر (تشرين الأول). وصفها فرهمند باختصار بأنها أشهر أحفاد آية الله الخميني مؤسس الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهي زوجة محمد رضا خاتمي، الأمين العام لحزب «مشاركت» (الشراكة) وشقيق محمد خاتمي، الرئيس الإيراني الأسبق.
في عدة دورات انتخابية كانت زهرا أشراقي المسؤولة عن هيئة «جوانان إصلاح» (شباب الإصلاح)، وهي تشارك على الصعيد العام والاجتماعي بصورة فاعلة، وهي مشهورة بآرائها الجريئة.
ركّزت في حوارها على المسألة الاجتماعية، وحرية المرأة، والثورة في «اللباس والألوان»، وعلى أن جدها الخميني كان يكره اللون الأسود، ويحب أن لا يُلبس. غير أن هذا المنطق من حفيدة بالتأكيد سيكون ضمن المثل المعروف: «كل فتاة بأبيها معجبة»، وهي تحث الإيرانيات على كسر الحواجز والتقاليد، لكن حين نأخذ شهادات من فتيات بعمر الزهور عاصرنَ مرحلة الخميني، وجرى تعذيبهنّ بسبب عدم ارتداء الحجاب، ومضايقتهنّ في تفاصيل العيش، سنكتشف أن الصورة التي لدى زهرا هي صورة الخميني «الجد الحاني»، لا صورة «الخميني» قائد الثورة والسياسي والمقاتل الشرس الذي خاض حربا ضحاياها قاربوا المليون إنسان، وهي من أشرس النزاعات التي تشهدها المنطقة على طول القرن الـ20.
تزامنت تصريحات الحفيدة مع صدور ترجمة لرواية «سجينة طهران»، وهي معاناة طويلة وحقيقية، وما ورد فيها هو شهادة خطّتها الإيرانية مارينا نعمت، وعلى مدى 344 صفحة، تبث مارينا المعاناة الطويلة مع سجن «إيفين»، وهي بسن السادسة عشرة من عمرها في عام 1982، اعتبرتها الصحف الأميركية والكندية من الروايات المرشحة لأن تتحول إلى فيلم، ذلك أنها توافرت على «الواقعية» وعلى نشدان «الحرية»، أرادت مارينا أن «تكسر الحواجز» (على طريقة مطالبة حفيدة الخميني)، لكنها لم تستطع. عُذبت، لأنها متهمة بالارتباط بالشيوعيين في مدرستها، وحين اقترحت على معلّمتها أن تلتزم بالدرس بعيدا عن الحديث في السياسة قُبض عليها، وأودعت السجن لأكثر من عامين، وحُكم عليها بالإعدام، ثم حين عشقها «علي» العامل في السجن، تم تخفيف العقوبة إلى السجن مدى الحياة، وحين قبلت باعتناق الإسلام «مرغمة»، ومن ثم بالزواج منه أطلق سراحها، وحين استقال زوجها علي من السجن جرت تصفيته، لتتزوج مرة أخرى وتهاجر إلى كندا التي تقيم فيها منذ عام 1991.
مشكلة الأصوليات في نفسها، فهي لا تستطيع إلا أن تكون صلبة، وإصلاح الأصوليات مستحيل إلا من خلال ممارسة القطيعة مع المفاهيم التي تربط بخيوطها المجتمع مرغما، ليمارس «التدين العلني»، بينما يمارس تحت السطح كل أنواع الخطايا. الفكر الأصولي في أي مكان من الصعب إصلاحه، لأنه يؤسس للنفاق العام، وكل إصلاح في الفكر الديني لا يمكن أن ينجح من دون ترك «التأصيل» المستديم للمسائله، وترك هذه المسائل للمجتمع ضمن حواراته العمومية وخياراته التي تبث عبر المؤسسات المدنية.
إصلاح إرث الخميني ليس ببث الآراء حول بعض «الألوان والألبسة»، بل هو جزء من إرث طويل من الأزمات الجوهرية في الفكر الديني عموما، وبما يخص الفكر الديني بإيران يمكننا أن نعود إلى محاولات الإصلاح منذ بدايات القرن العشرين، ولنأخذ مثلا الميرزا محمد حسن النائيني، منظّر الحركة الدستورية وصاحب كتاب «تنبيه الأمة وتنزيه الملة»، الذي كان متأثرا بإصلاحية جمال الدين الأفغاني، الذي عاش إشكالية الدين والسياسة، والذي خصص له مجيد حميدي فصلا مهما في كتابه: «اتجاهات الفكر الديني المعاصر في إيران».
كان عبد الرحمن بدوي في مذكراته «سيرة حياتي» ينتقد من يصف الشيخ محمد عبده بـ«الإصلاحي»، ذلك أن الإصلاح «ليس بإباحة ارتداء القبعة»، وهذا ما نريد أن نوضحه هنا. تجديد الفكر الديني يجب أن يجري «جوهريا»، من خلال إعادة النظر بالمفاهيم التي تعيق حركة المجال العام، وتؤسس لأنماط من الخراب الاجتماعي والسياسي. حين نمتلك هذه الشجاعة، نستطيع أن نتحاور حول التجديد أو الإصلاح الفكري.
لو أن زهرا إشراقي قرأت لمارينا نعمت، أو قرأت مذكرات آذر نفيسي «أن تقرأ لوليتا في طهران»، وعشرات الشهادات الأخرى، لعلمت أن الراحل الخميني ترك إرثا ممتدا يحتاج إلى نقاش جوهري، يتجاوز موضوع «ثورة الألوان» وشكل الألبسة ومسائل «الحجاب».
منقول عن الشرق الاوسط