لن تدوس الجنة مالم يسامحك كل الأطفال الذين مروا في حياتك وتركت عندهم اثرا سيئا

اتصلت بي فرح:
ـ ماما اليوم عيد ميلاد بنجي، وانا وابوه نشتغل،
لقد استنفذنا كل الاجازات والعطل، مارأيك ان تحتفلي له به مع جازي وآدم؟
ـ وهل أملك خيارا آخر؟؟!!
رغم أنه كان يوما مزدحما بالضغوطات!
…..
جاء والده بعد الشغل وأخذه وأخته، وجاءت زوجة ابني وأخذت آدم،
فرميت نفسي على الصوفا أترحم على اعصاب من ابتلى بالأحفاد بعد الأولاد
ولَم يمت بعد!
لم أكد أتنفس الصعداء، حتى عاد اليّ صوت فرح وهي غارقة في الضحك:
– ماما لماذا لم تحتفلي لبنجي بعيد ميلاده؟
– لم احتفل بعيد ميلاده؟؟!!
ثم تابعت أقول:
تناولوا وجبة الظهيرة في مطعم من خياره، ولما عرفوا انه عيد ميلاده ارسلوا لنا عاملة كي ترسم وتلون معه،
ثم ذهبنا الى محل لبيع الآيس كريم بناءا على طلبه، ماذا يريد اكثر من ذلك ابن الـ……؟؟؟
فترد: وأين قالب الكيك؟ لا يصلح عيد بدونه!
ثم تستأنف: هو يظن انه لم يبق معك ثمنا لقالب الكيك، ولذلك سامحك!
– ابوكي لأبوه، ناقصني، منيح سامحني، وإلا لما كنت سأدوس الجنة!!!
…..
طبعا لو لم يسامحني لن أدوسها،
وانت لن تدوسها مالم يسامحك كل الأطفال الذين مروا في حياتك وتركت عندهم اثرا سيئا،
وكل الأطفال الذين كان بإمكانك ان تترك لديهم اثرا طيبا ولَم تفعل!
……
في عطلة نهاية الأسبوع توجه الوالدان مع بنجي وجازي، واصطحبوا في طريقهم آدم، كي تكتمل الشيطنة،
توجهوا لقضاء يومين في ربوع ديزني لاند، المكان الأسعد على سطح الارض،
والتي قال عنها نزار قباني: جئتها متأخرا خمسين عاما!
في فندقها مارسوا بعضا من شيطنتهم، وفِي مطعمها قطعوا القالب وغنوا له،
وفِي معالمها الساحرة صبوا ما تبقى من طاقاتهم لذلك اليوم ثم عادوا منهكين،
بعد ان انحفرت على جدران ذاكرتهم بهجة ذلك العيد!
…….


ليس شرطا ان تزور ديزني لاند،
او ان تأكل في مطعم،
او حتى أن تقطع قالبا من الكيك كي تصنع لطفل عيده…
كلمة حلوة تكفي…
لمسة جبين، ربتة على كتف…
قبلة حارة أو ضمة الى صدر حنون قد تؤدي الغاية،
فلا تبخل بها لأنك حكما تملكها!
مهما شحت حياتنا لن تشح قلوبنا مادمنا نملأها محبة!
علما بأنني اؤمن ايمانا قطعيا بأنه لا تشح الحياة إلا عندما تشح القلوب!
…..
لي صديق عاد لتوه من لبنان.
قال لي: دخلت محلا لبيع الكنافة في أحد أزقة بيروت الشرقية، وإذ بطفل يقف على الباب مادا اليّ يده!
تقطع قلبي من نظراته الغارقة في الحزن، فوضعت يدي على كتفه، وسألته:
ما اسمك حبيبي؟
رد: محمد
تساءل صديقي: من أتى بهذا الطفل المسلم ليتجول بمفرده في تلك الأزقة؟
فسأله: أين اهلك؟
انفجر في البكاء وراح يقول:
أبي طلق أمي، وكل يوم يأتي بي الى هنا ويتركني، ثم يذهب ليعود في المساء ويأخذ ما أجمعه من نقود!
اشترى صديقي للطفل سندويشة وقطعة كنافة وزجاجة ماء، وعاد الى امريكا ومزقة من قلبه هناك (على حد تعبيره)
لا يوجد فقر على سطح الارض يبرر لوالد أن يفعل بولده ما يفعله هذا المجرم،
لو كان يرافقه في مهمته اليومية لما لمته،
لكنه ـ وعلى الأغلب ـ راح يبحث عن ملكة يمين أخرى كي ينكحها، ويفرّخ مزيدا من الشحادين
علّه يباهي بهم الأمم،
فالمحيطات مازالت قادرة على بلع المزيد….
….
منذ فترة كنت أدردش على الماسنجر مع رفيقة طفولة، لم ارها منذ أكثر من أربعين عاما.
أبلغتني أن أمها ماتت، فترحمت عليها بشق الانفس،
اذ لم أزل أذكر ذلك اليوم الذي سحقتني فيه عبارة غبية لها.
كنّا أربع طفلات لاتتجاوز أعمارنا العاشرة،
وكنا نجلس على الارض في احدى غرف بيتها نكتب وظائفنا،
اذ كانت تشجعني دائما على ان ادرس مع ابنتها لعلمها بتفوقي الدراسي!
دخلتْ الغرفة مع ابن اختها وكان شابا في عشرينياته، فنظر إلينا، وسأل: من منكم الأشطر؟
ردت السيدة بلا أدنى تفكير، وهي تشير اليّ: هذه المسخة هي الأشطر!
وتابعت: بشعة وقصيرة لكنها ذكية!
كما يقول المثل السوري “إجت تكحلها عمتها”
عمتني وبس؟
لعنت ابو الي خلفني!
كانت اليزابيت تايلور واحدة من أقصر نساء أمريكا، ولو صادفت في طفولتها
مجنونا قيّم موهبتها وجمالها من خلال طولها، لما أصبحت اليزابيت تايلور،
ولكن لحسن حظها مجانينهم قليلون جدا، وربّما بعدد عقلائنا،
ولحسن حظي أيضا حباني الله بواحد من هؤلاء العقلاء على قلتهم.
لم يزل عاشقا ولهانا بعد أربعين عاما من قصة حبنا،
وكل يوم أزداد في نظره قامة وجمالا!
ويبقى السؤال:
هل هناك طفل بشع؟؟؟؟
مازال مفهومهم للجمال عصي على فهمي،
ومازالت جرائمهم التي يرتكبونها بحق الطفولة فوق قدرتي على التصور!
………
أذكر قصة قرأتها منذ أكثر من ثلاثين عاما ولن أنساها،
تعلمت منها أن أفعل ما أستطيع فعله عندما يتعلق الأمر بطفل، مهما كان ضيئلا.
كانت القصة عن الأمين العام للأمم المتحدة خافيير بيريز دي كوييار، وذلك في الثمانينيات
من القرن المنصرم
قام بزيارة مع زوجته إلى اثيوبيا
تقول زوجته: كنا محاطين بغفير من الأطفال الجياع،
شعرت
عندها بعجزي على أن أفعل شيئا.
اقتربت مني طفلة ونظرت إليّ، فرأيت في عينيها كل آلام الأرض،
ازداد إحساسي بالاحباط،
ولكي اخفف من ارتباكي مددت يدي إلى
حقيبتي، والتقطت قطعة سكاكر صغيرة لم أكن أملك غيرها، ثم ناولتها اياها.
التهمتها بسرعة البرق فارتسمت على وجهها ابتسامة لن انساها مدى الحياة،
ابتسامة خففت من احباطي وأشعرتني أنني فعلت في تلك اللحظة ماكنت قادرة عليه
……..
زارني مرة صديق سوري متقدم في السن،
وكان على طاولة الغداء صحن محشي باتنجان، فالتقط واحدة وراح يلتهمها بشهية،
وهو يقول: هل تعرفين أنني أموت بمحشي الباذنجان؟
فقلت مازحة: ومن لا يموت فيه؟
ألقى الشوكة من يده، وراح يمسح دموعه وهي تنهمر بغزارة على خديه!
– يا الهي، ما القضية؟ هل ذكرتك بالسيدة والدتك؟
بعد تنهيدة عميقة سحبت كل هواء الغرفة، بدأ قصته:
عشت يتيم الأب وفِي حالة فقر يرثى لها. كانت أمي تشتغل في مصنع للسجاد،
وكنت ايّام الصيف انتظرها حتى تعود من الشغل بفارغ الصبر، والجوع يقتات على أمعائي.
كان بقرب بيتنا ثكنة عسكرية من مخلفات فرنسا في دمشق.
أحد الأيام وقفت بقرب سُوَر الأسلاك الذي يفصل الثكنة عن بيتنا،
ورحت الهي نفسي بمراقبة شلة من العساكر يتدربون ويركضون بجانب السور.
فجأة مد عسكري يده من بين الأسلاك وناولني شيئا،
وعندما التقطته، اكتشفت انه بتنجانة محشية، فالتهمتها وكدت التهم أصابعي معها.
منذ يومها وطعمها اللذيذ يزوروني بين الحين والآخر،
ليذكرني بقهر طفولي، وبلمسة عطاء خففت منه!
……
تصرف عابر وعفوي وتلقائي صبغ طفولة داكنة بألوان قوس قزح….
فلا تستهر بأي تصرف حيال طفل، سلبيا كان أم إيجابيا…
من يدري؟
قد ينقذ تصرف ما روحا مهزومة،
او قد يرمي نفسا في محيط من الآلام!
……
تؤكد الدراسات، بما لا يدع مجالا للشك، أن لمرض الكآبة الذي يصيب البالغين أسبابا متجذرة في طفولتهم
وخصوصا الأشكال الحادة جدا منه، والتي لا تعالج إلا بالصدمة الكهربائية
،على الصعيد الشخصي، لم ألتق يوما بشخص كئيب واكتشفت أن طفولته سعيدة
فالطفولة الطبيعية والسعيدة تشكل درعا واقيا ضد الكثير من الاضطرابات النفسية
ومهما صادفتنا لاحقا في الحياة مصاعب وانتكاسات، لا يمكن أن تترك نفس الأثر السلبي عند من عاش طفولة مقهورة.
……………
أتساءل:
هل سيذكر بنجامين وجبة الظهيرة وكأس الآيس كريم احتفالا بعيد ميلاده؟
وهل سينسى ان التاتا لم تشتر له قالبا من الكيك لضيق ذات اليد؟
لن يضيع جميلا أينما زرع، وخصوصا عندما نزرعه في ذاكرة طفل،
حتى ولو كان مجرد بتنجانة محشية
أو قطعة سكاكر صغيرة
فأحسنوا زرعكم، وليس شرطا أن يكون طفلكم،
فكل طفل يستحق حياة كريمة،
وسعيد ذاك الذي يمنحها…..

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن, دراسات علمية, فلسفية, تاريخية. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.