لم أكن اعرف ان الله يملك مسمارا.

ستستغرق الرحلة ست ساعات، هذا في أفضل الأحوال… ادرت البيت قبل السابعة صباحا، على امل ان انهي مهمتي واعود قبل ان تشتد زحمة مابعد الظهر، بدا الطريق مفتوحا الى حد ما وشعرت بالراحة… قطعت اكثر من نصف المسافة باتجاه لوس أنجلوس، بينما أنا في غمرة أفكاري أيقظني صوت زمور مرعب، لا احد في أمريكا يزمّر إلا لينبّه سائقا من خطر ما! نظرت الى يساري فأشار السائق المجاور الى عجلة سيارتي صارخا
flat tire
……………
(فال الغراب ولا فالك)!!!! ياربييييي….. يالهويييييي…. وينك ياشيخ العريفي؟؟؟؟ فعلا الرجال هم القوامون!!! لا أعرف كيف أملئ خزان الوقود، واترك تلك المهمة للـ ” قوّام في بيتي”، فكيف سأغير العجلة؟!! شعرت انني فعلا في ورطة! أخذت أول مخرج وانحرفت عن الطريق السريع. وقفت في مكان آمن، ورحت ابحث في الـ
GPS
عن اقرب محل ميكانيك. اشارت البوصلة على أنني في مدينة تعتبر الاخطر في كالفورنيا، حيث توجد أعلى نسبة جرائم في الولاية. لا يهم، فالخوف لم يعرف الطريق يوما إلى قلبي…. احتفظ دوما بسكينتي حتى ولو بلعني إعصار…
……….

قادتني البوصلة الى اقرب محل… رحب بي العامل بلطف وأبلغني ان العجلة قد صارت للزبالة ولَم تعد قابلة للإصلاح بعد أن سقت بها لمسافة طويلة، ثمّ بدأ بتركيب عجلة جديدة. بينما أنا أعد الثواني قلقة ومضطربة خوفا من أن يفوتني الموعد، سمعت صيحة قوية، التفت الى الوراء لأرى صبية تومئ لي من وراء سياج المحل. اقتربت منها لأراها شابة صغيرة القد، نحيلة وشاحبة الوجه، تبدو وكأنها قفزت لتوها عبر الحدود المكسيكية الأمريكية حاملة معها هموم الارض كلها، وعلى صدرها رأيت الله يغفو….
نعم رأيت الله بشحمه ولحمه ووسخه ومخاطه!
…..
عندما تمعنت في وجهه لم أعد ارى أشعة الشمس تهبط باتجاه الارض، بل رأيت النور في ذلك الوجه يشع باتجاه الشمس…
مدت تلك الصبية يدها داخل السياج وحاولت ان تناولني زجاجة بلاستيك وهي تمتم بالسبنيولية التي لا أجيدها.. بين الكلمة والكلمة سمعتها تردد كارو… كارو، فهمت على الفور انها تحاول ان تبيعني منظفا لزجاج السيارة، فرأيت نفسي فيها قبل ثلاثين عاما….
ناولتها من محفظتي ما سمحت به نفسي، فاندهشت وارتبكت، لكنني اشرت اليها ان تحتفظ بالمبلغ كله! راحت تركض باتجاه البوابة ودخلت الى ساحة المحل ثم عانقتني بشدة. أدارت رقما وراحت تتكلم مع احد ثم ناولتني التلفون على الخط الآخر سيدة تحدثت معي بالانكليزي لتنقل لي شكر هذه الشابة وامتنانها وحاجتها الملحة الى ذلك المبلغ، ثم سألتني ان كنت بحاجة الى سيدة تساعدني في تنظيف البيت، فهي على استعداد أن تأتي إلى بيتي عبرت عن اسفي لأنني أعيش في مقاطعة اخرى، ثم قلت: هذا عنواني ورقم تلفوني، قولي لها ان انتقلت يوما قريبا مني، أو احتاجتني لظرف طاريء ان تتصل بي على الفور!
…………….
اليوم كان لي شرف ان أحمل الله بين يدي، بعد ان حملني على ظهره منذ ولدت وحتى هذا الْيَوْمَ.. تسرب شخاخه من حفاضه فطهر ثيابي، ثم عمّد وجهي بمخاط قبلة تسللت حرارتها الى شغاف قلبي….
……….
لم أكن اعرف ان الله يملك مسمارا.. مسمارا يثقب به عجلة سيارتي، غير آبه بجدول أعمالي… يثقبها متى أراد ان يطبع قبلة على خدي أو ان أطبع قبلة على خده!

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.