جزء من المشكلة الفكرية الكبرى التي نعانيها اليوم هي الحرب على المباح. هذا أسس للكثير من الإرهاق الوجودي لدى الجيل الجديد من الشباب والفتيات. تدخّل الحكم بكل شيء، مع أن المباح ليس موضوع سؤالٍ أو استفتاء، بل منطقة متاحة، يسميها الفقهاء «منطقة العفو»، والشريعة تحذّر من السؤال عن المباحات، والرسول عليه الصلاة والسلامّ طالما ذكّر صحابته بأن الله سكت عن أشياء رحمةً بعباده غير نسيان، ومن هنا فإن تضخّم المحرّم على حساب المباح الذي هو الأصل في الأمور الدنيوية شكّل خطراً فكرياً على المجتمعات الإسلامية.
الأصل في الأمور الدنيوية هي الإباحة، كل ما تراه أمامك هو مباح إلا ما ورد نصّ في تحريمه وهو الاستثناء والقليل جداً، أما العبادات فهي مبنيّة على التوقيف والأصل فيها التحريم إلا ما ورد الدليل على تشريعه، هذه قاعدة أساسية يدرسها طلاب الفقه وأصوله بالكليّات، لكن لا أدري لماذا تمّ تغييبها عن الجيل الحالي؟!
لم يكن إهمال المباح مقتصراً على عصرنا الحاضر، بل أرّق حتى الإمام الشاطبي صاحب كتاب (الموافقات)، والذي تبلور على يديه مجال «مقاصد الشريعة» فقد أولى المباح عنايةً خاصة من بين بقية الأحكام كالمندوب، والمكروه، والحرام.
يشير المفكّر المهم عبدالمجيد الصغير في كتابه: «الفكر الأصولي وإشكالية السلطة العلمية في الإسلام ـ قراءة في نشأة علم الأصول ومقاصد الشريعة» إلى أن سبب اهتمام الشاطبي بالمباح يعود إلى «الغموض المعرفي الذي يشكو منه المباح، سواء في الكتب الأصولية أو حتى في التداول اليومي في الحياة العمليّة، ذلك الغموض الذي يجعل معناه متردداً بين المندوب والواجب من جهة، وبين المكروه والمحرّم من جهةٍ أخرى».
ثم يشير إلى التشويش الذي حدث بوجه المباح، لهذا كان بحث الشاطبي بهذا الفضاء الرحب المتروك للإنسان ليتحرّك فيه بهذه الدنيا دون تثريب، إذ المباح كما يعرّفه الشاطبي هو: «المخيّر فيه بين الفعل والترك، من غير مدحٍ ولا ذم، لا على الفعل ولا على الترك». يقوم الشاطبي بجهدٍ معرفي ثري، لأنه أدرك أن الخمول قد أصاب المسلمين، وأن الجمود تسبب ببطء حركتهم، وأراد للفضاءات الرحبة المفتوحة في الشريعة أن تدرس وأن ترى النور.
من دون فهم أصالة المباح في الحركة الدنيوية التي بين أيدينا سيكون الوسواس والقلق، الرعب والخوف، كلها سمات العيش والتحرّك، وهذه أسس لنمو فكر التطرف، إذ يوحي البعض من خلال خوفه أن الأصل في الحركة كلها وفي الممارسات اليومية التحريم، فلا يمكنك أن تقوم بتناول مأكل أو مشرب إلا بعد السؤال عنه، يلخّص الإمام الشاطبي الأحكام الشرعية «إن الالتزام بالتكاليف الشرعية يتضمن إقراراً بعلاقة مناسبة، ومعقولية المعنى بين الأفعال والمشروعية، الواقع عليها التكليف، وبين جلب المصالح ودفع المفاسد، فما عظّمه الشرع من المأمورات فهو من أصل الدين، وما جعله دون ذلك فهو من فروعه وتكميلاته، وما عظّم أمره من المنهيات فهو من الكبائر، وما كان دون ذلك فهو من الصغائر، وذلك على مقدار المفسدة والمصلحة».
هذا التقدير المنطقي والمقاصدي للمعنى الشرعي ضروري فهمه للأجيال التي تتناقل قصاصات الفتاوى من دون فهمٍ لمعاني التعليل، وأساليب الاستنباط وطرق قراءة النص، ووسائل الإثبات ومستوى الاستدلال، لقد انتشر التطرف بسبب السحق لمفهوم المباح والإلغاء له وتهميشه في الخطاب الديني المطروح بشتى وسائل الإعلام وكأن المباح خارج منطقة الاهتمام الشرعي!
نعم في الشريعة الأصل بالأشياء الإباحة، عش ودع غيرك يعيش، والوساوس الدينية هي جذر التطرف، أما التهميش للمنطق في الاستدلال فهو سبب تصدّر الفتيا من قليلي العلم والمعرفة. هل ننصف المباح بعد أن غرقنا بالتحريم المفتعل؟!
* نقلا عن “البيان”