سافرت قبل أيام إلى ما يسمى مخيم الضباط في الريحانية، حيث التقيت لأول مرة بعد الثورة فئتين من العسكريين: مدني من جبل الأكراد، مسقط رأس آبائي وأجدادي، يلعب دورا قياديا في واحد من تشكيلات الجيش الحر هناك، وعسكريين انشقوا عن جيش السلطة، لكنهم ظلوا خارج هذا الجيش، شأن أغلبية من انشقوا عن عسكر الأسدية والتحقوا بالثورة، وتفرقوا أيدي سبأ في تركيا والأردن ومصر، مع أن بعضهم لعب دورا تأسيسيا فائق الأهمية سواء في تأسيس الجيش الحر أم في قيادته.
هناك كلمة أولى لا بد من قولها، هي أن مؤسسات الثورة لا تشعر أن عليها واجبا تجاه أحد من الشعب السوري المظلوم، عسكريا كان أم مدنيا، وسواء كان داخل سوريا أم خارجها. هذه الظاهرة تفقأ العين وتعد معلما محيرا من معالم ثورة ما كان لها أن تحدث إلا بإرادة شعب يزعم «ائتلاف قوى الثورة والمعارضة السياسية» أنه ممثله الشرعي الوحيد، لكنه لا يقوم بأي دور إيجابي تجاهه ويتركه لمصيره، الذي صار على درجة مخيفة من البؤس.
هذه الملاحظة من عندي ولا علاقة لها بما قاله من التقيتهم، ومنعتهم كرامتهم وعزة نفوسهم من التطرق إلى أحوالهم الشخصية والخاصة، وركزوا خلال ساعات ست من اللقاء على الشأن العام، وخاصة منه أوضاع الثورة وما يريدونه لأنفسهم من أدوار فيها.
بعد هذه الملاحظة المؤلمة، لا بد من ملاحظتين إضافيتين:
– أن الجيش الحر كيان غريب وصعب الفهم، لذلك تشعر أنه كلي الوجود وغير موجود في آن معا، وأنه يضم أخلاطا متنوعة من البشر دون أن يكون له تراتب يشبه تراتب الجيوش، أو تكون له بالتالي إمرة ملزمة على أحد من الذين ينسبون أنفسهم إليه، أو يكون قوامه صافيا لا يخالطه فيه أحد من الذين هم خارج صفوفه. لا عجب أنه هيكل قليل التنظيم على مستوى قيادته، ويكاد يكون عديم التنظيم على صعيد قاعدته، وأن قيادته تأمر قطاعات دون أخرى من الوحدات المنتمية إليه، فالانتماء لا ينطلق هنا من فوق، من القيادة، وينزل إلى تحت، إلى الأفراد، بل هو يمر بسياق معاكس، بمعنى أنه يرتبط بالأشخاص وباستعدادهم لإطاعة أوامره، وتاليا بالانصياع لنمط الصلة التي تشدهم إليه بصفته مصدر قسم من عتادهم وذخائرهم، فالحال إذن مزيج من تسلسل قيادي جزئي أو ضعيف غالبا، ومن تجاوب قاعدي كيفي في حالات كثيرة، ولولا إرادة المقاتلين وتصميمهم على إسقاط النظام لما كان هناك قوة تستطيع إرغامهم على القتال، كما هي الحال في الجيوش العادية. يقود هذا إلى نتيجة محددة هي أن من انشقوا عن جيش السلطة لم يكونوا بحاجة إلى إذن من أحد كي ينضموا إلى الجيش الحر أو إحدى تشكيلاته الكثيرة، مع أن رتبهم الرفيعة قد تكون هي التي حالت دون تولي قيادة تشكيلات صغيرة. كما أن تربيتهم العسكرية لعبت دورا في إحجامهم عن التعاون مع مدنيين نظموا كتائب تابعة لهم، هم فيها مستشارون لا قادة. بالمقابل، لعب من وصلوا إلى قيادة الجيش الحر دورا في إبقاء معظم الضباط المنشقين رفيعي الرتب خارج صفوفه، لأسباب بينها خوفهم من أن يتولى ضباط أكثر منهم دراية وخبرة بالقضايا العسكرية والقيادة الميدانية، ويشكلوا جسما متسقا ومتكاملا يستطيع بعلمه ودوره الميداني إضعاف دورهم وربما الاستغناء عنهم.
– هذه العوامل ذات الأبعاد الموضوعية أضيفت إلى عوامل ذاتية تضافرت معها، فحالت دون انخراط ضباط رفيعي الاختصاص في الجيش الحر، الأمر الذي أدى إلى حرمانه من قدراتهم، وحرمانهم من إطار عسكري وطني جامع يضمهم. والآن، والثورة على وشك الدخول في مرحلة تتطلب قدرة حقيقية على التخطيط الواسع، والتنسيق المنظم، والجمع الحتمي للطاقات المبعثرة، يصير من الضروري وجود هؤلاء على رأس العمل العسكري، وتمكينهم من وضع قدراتهم في إطار ملائم. لهذا، أقترح على رئاسة أركان الجيش الحر دعوتهم إلى تولي مسؤولياتهم على مختلف الأصعدة: من قيادة فصائل إلى قيادة جبهات، لأن من غير المعقول أن ينحى بعد اليوم جانبا ضباط قادوا وحدات عسكرية ميدانية، ومروا بدورات تدريبية تخصصية، وأن لا يسهموا في معركة مصيرية تمس حاجتها إليهم، هم على استعداد للانخراط فيها على أي صعيد يتطلبه الخلاص من النظام القائم وكسر شوكته.
أخيرا، في حال انهار النظام تحت الضربات العسكرية القادمة، أو كان هناك سعي جدي إلى تقصير فترة صراع يسبب آلاما مخيفة للشعب، يغدو من المحتم أن نفيد من خبرات هؤلاء الضباط وغيرهم من منتسبي الجيش والقوات المسلحة السابقين عبر انضمامهم أو ضمهم إلى الجيش الحر، حيث سيكون لهم دور فائق الأهمية في اتجاهين:
أولا: الإمساك بالجهاز العسكري الشديد اللامركزية والقليل الانضباط الذي تنتمي فصائله المتناقضة الغايات والهوية والسلوك إلى «جيش» ليس هو الجيش الحر الذي انشق ضباطه وجنوده عن النظام، ولعبوا دورا كبيرا في حماية الشعب ومقاتلة جيش السلطة. هذا الجيش الآخر لا تتبنى كثير من فصائله أي مدونة وطنية أو مهنية في تعاملها مع الشعب والثروات الوطنية والقوى المسلحة الأخرى، وتحفل بالاختراقات، السلطوية وغير السلطوية، وظهر بين ظهرانيها عدد لا يستهان به من أمراء الحرب والخارجين على الثورة وقيمها، فلا بد من بناء مستوى قيادي يستطيع منعهم من مواصلة جنوحهم وفلتانهم، سواء بالتي هي أحسن أم بوسائل أخرى. لا مفر من أن يكون الضباط العاطلون اليوم عن العمل من صميم قوام هذا الصعيد العسكري والقيادي، لما يمكن أن يلعبوا من دور في مرحلة ما بعد إسقاط النظام، التي لن تكون أقل خطورة من المعركة الدائرة منذ نيف وعامين لإسقاطه.
ثانيا: زيادة وتعظيم القدرات العسكرية المنضبطة، المستعدة للتضحية من أجل نجاح وطنها في نيل حريته، على أن يتكون معظمها من رجال يؤمنون بالدولة الديمقراطية والجيش المهني اللاسياسي، ويريدون العمل لإقامتهما ضد كل من يرفضهما من منظمات مذهبية: أصولية ومتطرفة، قد تحاول الانقضاض على الدولة والمجتمع بعد إسقاط الأسد وتقاتل لوضع يدها عليهما ولإقامة حكم يتناقض في بنيته وآليات اشتغاله وأهدافه مع نظام لحمته وسداه الحرية والدولة الديمقراطية، خرج الشعب منتصف مارس (آذار) عام 2011 مطالبا به، وقدم مئات آلاف الشهداء في سبيل بلوغه. لا يجوز أن يبقى 80 في المائة من الضباط خارج العمل الوطني، عسكريا كان أم سياسيا، وأن لا يجدوا مكانا لهم في معركة تخلوا عن كل شيء كي يشاركوا في خوضها، ولم يتركوا النظام وجيشه كي يعيشوا في خيام وبيوت بلاستيكية يشكر كثيرا من قدموها، لكنها لا تليق بهم ولا توفر لهم أي قدر من العيش الكريم. وللعلم، فإن بين هؤلاء الضباط من تعادل خبرته خبرة أي ضابط في أي جيش متقدم ومقاتل، ويمتلك بعد نظر سياسيا ويتبنى خيارات لن تقوم للدولة في سوريا قائمة من دونها، فهم جزء تكويني ليس فقط من الجهاز العسكري الواجب القيام لتخليص الثورة من الذين يريدون انتزاعها من أيدي الشعب، صاحبها الأصلي والوحيد، بل كذلك من الطبقة السياسية الواعية، مع أنهم يرفضون أن يتحولوا إلى سياسيين، ويفضلون الانتماء إلى الجيش الوطني على أي خيار آخر.
أخيرا: يجب إصدار قرار مشترك من الائتلاف الوطني والجيش الحر يضع هؤلاء الضباط في مواقعهم من الجيش الوطني، الذي سينبثق بمشاركتهم عن الجيش الحر الحالي. ومن الضروري عقد لقاءات معهم تحدد خلالها شروط وظروف التحاقهم به، وأدوارهم التي سيلعبونها، وخدماتهم للدولة ومؤسساتها الشرعية، وإسهاماتهم في كسر شوكة كل من يعارض أو يقاوم قيامها أو يتحداها، أو يعمل على حرف الثورة عن هدفها الرئيس: الحرية للشعب السوري الواحد الموحد في دولته المستقلة والسيدة، وبالتالي إنزال القصاص العادل والقانوني بكل من يثير نعرات أو صراعات طائفية، أو يعتدي على أي مواطن سوري لأسباب انتقامية، أو يهدد وحدة الشعب والدولة، أو يحمل ويستخدم السلاح، أو يرابط في المدن والقرى أو حولها بعد إسقاط النظام وقيام الجيش الوطني، الذي ستعمل قيادته تحت إشراف وإمرة الحكومة الانتقالية وستحمي حياة المواطنات والمواطنين، وتصون الأمن والسلم الأهلي وتسهر على الممتلكات العامة والخاصة، وعلى نيل جميع السوريين حقوقهم كاملة غير منقوصة.
ستواجه سوريا الحرة تحديات لا شك في أنها لن تقل جسامة وخطورة عن التحديات التي واجهت الشعب خلال ثورته ضد الطغيان الأسدي. إنها تحديات لن تكفي قوى الجيش الحر الحالية لمواجهتها والتغلب عليها، ولا بد من أن تواجه بجهد وطني شامل وموحد، على الصعيدين السياسي والعسكري. وإذا كنت أدعو منذ عامين ونيف إلى تشكيل حكومة وحدة وطنية تعبر عن وحدة المجال السياسي وتضم أطراف العمل الوطني السوري جميعها، فإنني أدعو الآن إلى وحدة المجال العسكري وبناء جيش وطني جامع لا يستبعد أحد منه، تتسع صفوفه لكل ضابط وصف ضابط وجندي ترك الجيش الأسدي بالأمس، أو يتخلى اليوم عن الأسد وينضم إلى الثورة ليشارك في إسقاطه وبناء سوريا الحرة والديمقراطية، ولا يتوانى عن ردع ومقاتلة أي طرف يريد سرقة الثورة من السوريات والسوريين.
لنخرج من الحسابات الشخصية والصغيرة إلى الحسابات الوطنية الكبرى، ولنبدأ بتصحيح ما وقع من أخطاء في المجال العسكري، إن هي تلازمت مع تصحيح خطايا المجال السياسي خرج وطننا من مأساته ونال شعبنا حريته.
منقول عن الشرق الاوسط