الألواح والرقم الأثرية العربية الشمالية
تشير المصادر التأريخية الى تحالف الأمير العربي ” جندب ” لـ ” هدد عزيز” ملك دمشق الآرامي لمواجهة الملك الآشوري ” شلمناصر الثالث في الحرب التي شنها الملك الآشوري 851 ق.م شمالي حماه في موقعة ” القرقار”. وقد أشار علماء الأثريات الى الرُقم التأريخية التي ظهرت نتيجة التنقيبات في المواقع العربية الأثارية الى العلاقات المتداخلة ، ومما يؤيد حجم العلاقة بين العرب والآراميين .
فهذه قبائل ثمود وما حولها في شمال الحجاز ، حيث لاحظ خبراء اللغات السامية أن خطوطها وتعابيرها كانت مستعملة عند قبائل عربية أخرى , كبلاد نجد وهضاب طور سيناء , ولا يُعلم هل انتقل هذا الخط من الثموديين الى تلك المناطق أو القبائل ؟ أو أن الثموديين أخذوا منهم ؟ . ومهما يكن الأمر فالمهم هي وجودها لا أماكنه .
وأهم رقيم من الرُقم الثمودية ، وتأريخه سنة 156 م ، كان مزيجاً من الكلمات العربية والآرامية . و حسبما ما ذكره عالم اللغات الألماني “اينو لتمان “
والذي فكّ رموزه ، والنص كالتالي:
(( دنه قبور صنعه كعبو برحرتب للقص برث عبد منوتي أمه دو هلكت في الحجر شنة ماه وشتين وترين بيرج تموز ، ولعن مرى علما من يشنا القبور ومن يفتحه حشى يلده ، ولعن من يغير دا على منه )) .
وترجمته الى العربية :
(( هذا القبر صنعه كعب بن حارثة للقيط بنت عبد مناة أمه التي هلكت في الحجر سنة مئة واثنتين وستين من شهر تموز ، ولعن رب العالمين من غيّر هذا القبر ، ومن فتحه يمس بأولاده ولعن من غيّر الذي كتبه اعلاه …)) .
في هذا الرقيم ثمان وثلاثون كلمة ، عشر كلمات منها آرامية صرفة ، والبقية عربية وثمودية .
فالكلمات ” بر ، برث ، شنة ، شتين ، ترين ، بيرح ، شنا ، وحشى ” كلها كلمات آرامية ، وما عدا ذلك ففي هذا النص ورد عدد السنين بالاسلوب الآرامي وهو تقديم العدد الكبير على الصغير كقوله ( شتين وترين ) ، وعن الآرامية أخذت العربية هذا الاسلوب في العدد واستعمله العرب القدماء كثيراً .
ولدى تأمل بسـيط في هذا الرقيم نجد العربية والآرامية متّحدين فيه كأنهما لغة واحدة . وقد نجد رُقماً أخرى غيره قد أخذت هذا المنحى ، وربما نفس الشيء ينطبق على اللغة العبرية ، فمزج بين اللغات الثلاث العربية والآرامية والعبرية . ولكن مما لا شك فيه أنه في القرن الرابع الميلادي كانت اللغة الأدبية لم تزل اللغة الآرامية.
وهنالك في منطقة بين جبل الدروز وتلول أرض الصفا ( تسمى الحرة ) وُجدت كتابات عربية كثيرة اتفق علماء الساميات على ان يصطلحوا عليها ( الكتابات الصفوية ) نسبةً الى الصفا حيث عمل الكثير من المستشرقين فجمعوا قسماً كبيراً من هذه الكتابات وعرفوا أبجديتها ، ولكنها بقيت غامضة الى أن زارها العالم ( ليتمان ) وجمع منها أكثر من الف وأربعمائة كتابة ، وعاد الى بلاده المانيا ودرسها ، فتوصل الى نتائج هامة عجز عنها غيره ، فحلّ جميع رموزها وفك طلاسم أبجديتها التي تتألف من ثمانية وعشرين حرفاً كما هي في العربية . ويعتقد ليتمان ان هذه الكتابات ترجع الى القرون الثلاثة الاولى بعد الميلاد ، وعرف ان أصحابها كان لهم اتصال بالحضارات المعاصرة لأنهم يؤرخون بحوادث مشهورة كحروب النبط ، أو حرب الفرس مع الروم ، أو تاريخ بصرى.
ان الكتابات الصفوية هذه هي بلا شك كتابات عربية الا أنها تحوي كلمات آرامية كثيرة ، وتذكر آلهة آرامية واصطلاحات آرامية لا عهد للعربية بها .
ففي أحد النقوش الصفوية مثلاً كلمة ( داد ) معناها ( عم ) وهذه مادة آرامية قديمة .
وكذلك هناك في نقش آخر اسماء آلهة آرامية مثل ( بعل شمين ، اوشر دسر و وشيع القوم ) . ومعنى ( بعل شمين : آلهة السـموات ) و ( أوشر دسر : حارس المزروعات ) ، و ( شيع القوم ) من آلهة الأنباط وهو لا يشرب الخمر ( دى لاشتا حمر ) . وقد اختلف المستشرقون في معنى هاتين الكلمتين ، فذهب ( ليتمان ) الى أن الأولى ( آرامية ) والثانية ( عربية ) . وقال غيره أنهما عربيتان .
والملاحظ ان ليتمان وجد في هذه النقوش مادة آرامية لا تمت الى العربية بصلة ، وهذا ما يؤيد تلاقي اللغتين العربية والآرامية في هذه المنطقة أيضاً شأنها في غيرها . وان ليتمان وجد في تحرياته الكثيرة للهجة الصفوية هذه مادة غزيرة غير مألوفة في العربية ، أخذت من الآرامية والعبرية ، ولاحظ أسماء أعلام كثيرة غير معروفة في العربية . كما وجد أفعالاً غريبة عن العربية ، وأساليب أعجمية كلها استمدت من الآرامية او العبرية أحياناً.
اكتشف الأثريان فريدريك ماكلير
Fredric Macler ورينيه دوسو Rene Dussaud
نقشاً مهماً آخر في منطقة الحرة نفسها ، في وادي الشام بالنمارة ،وذلك في الرابع من نيسان سنة 1901 ، وهذا النقش بالأبجدية النبطية وباللغة العربية تتخلله بعض كلمات آرامية ، حيث جاء فيه :
1 – تي نفس مر القيس بر وملك العرب كله ذو أسر التاج .
2 – وملك الأسدين ونزارو وملوكهم وهرب مذ حجو عكدي وجاء .
3 – بزجاى في حبج نجران مدينت شمر وملك معدو ويمن بنيه .
5 – عكدي هلك نة 223 يوم 7 بكسلول بلسعد ذو ولده .
و ترجمته الى العربية :
1 – هذا قبر امرىء القيس بن عمرو ملك العرب كلهم الذي عقد له التاج .
2 – واخضع الأسدين ونزاراً وملوكهم وهزم مزجج و ( منعه أو عطلّه أو صدّه ) وجاء .
3 – شتت ( بزج ) وأسقط نجران مدينة شمر واخضع معداً وسلّط بنيه .
4 – ( على ) الشعوب فسموا الى العلى فلم يبلغ ملك مبلغه .
5 – وذريته وهلك سنة 322 في اليوم السابع من شهر كسلول ( كانون الاول ) . فليسعد الذين خلفهم ( فليسعد ولده ) .
الألواح والرقم الأثرية العربية الجنوبية
اذا تقدّمنا صوب الجنوب ، اي في ارض الجزيرة العربية ، نجد هناك مدينة كاملة آرامية وعربية هي مدينة الأنباط التي ظهرت في شبه جزيرة طور سيناء على أنقاض المملكة الآدومية ، وكانت عاصمتها ( سلع ) وهذه كلمة آرامية وعبرية معناها ” الصخرة الناتئة “. واصطلح عليها الاغريق ” بترا ” كما عرفها العرب بـ ( البتراء ) ، حيث توسعت مملكة الانباط ( او النبط او النبيط ) فانحدرت الى بلاد الحجاز من جهة ، ثم صعدت شمالاً حتى بلغت الصحراء السورية وشملت دمشق ووصلت الى أطراف نهر الفرات .
تاسست هذه المملكة ما بين القرنين الرابع والخامس ق. م وأجهز عليها الرومان سنة 106 م ، حيث لعبت أدواراً هامة في التاريخ العربي .
يعتقد علماء الساميات ان النبط خليط من اقوام آرامية وعربية . لانتشارهم في بلاد عربية واسعة حتى عرفت مملكتهم في طور سيناء باسم “بتراو العربية” .
ولأن لغتهم الآرامية تتخللها ألفاظ عربية كثيرة ، ولوجود أعلام كثيرة شبيهة بالعربية في تاريخهم ، وكذلك أسماء الأصنام العربية .
أما لغة حضارتها فهي الآرامية رغم تغلب العناصر العربية على العناصر الآرامية المؤسسة لهذه الدولة في أيامها الأخيرة ، واذا أضيفت الى كل أسماء الأعلام المستمدة من العربية : كأذينة ، وعبده ، وأوس ، وأسد ، ومعن ، وجزيمة ، وأوس ، وعمرو ، وعمر ، وعميرة ، وبرغوث , وبكر ، وحنضل ، ورجب ، ولظم ، وكعب ، و وهب . (وقد ذكرها جميعاً ليتمان في بحثه في الأعلام النبطية بالاضافة الى جملة أعلام مستمدة من مصادر يونانية ورومانية وفارسية ) .
لذا يمكن القول بأن اللغة العربية سارت مع الآرامية في هذه المملكة جنباً الى جنب كل تلك المدة الطويلة ، وتأثرت كل منهما بالأخرى ، وانها لألفة طويلة المدى استطاعت أن تقدم للتاريخ مدينة خاصة آرامية عربية أو عربية آرامية .
وقد قررعلماء الساميات أن لغة النبط الآرامية والأبجدية الآرامية واتصالها بالعرب اتصالاً مباشراً أثّرت تاثيراً واضحاً في الحضارة العربية الوثنية القديمة ، وأفادت منها اللغة العربية فوائد جمّة في شمال الجزيرة .
ووجدت آثار اللغة النبطية ( الآرامية والعربية ) في جميع المناطق التي تبوأتها هذه الدولة ، وظهر بعضها في منطقة بصرى الشام ، وبعضها في منطقة البتراء نفسها ، وبعضها الآخر في منطقة العلى بالحجاز ، وهي آثار متشابهة الاّ ان الرُقُم المكتشفة في بصرى تمتاز عن بقية الرُقُم بظهور مسحة رومانية عليها ، وهذا لا يشوه كيانها الخاص الآرامي العربي . ويستدل من هذه الآثار على أن اللغة الآرامية ، وان تخللتها عناصر عربية هامة قد حافظت على كيانها ، بل طبعت العناصر العربية بطابعها الخاص . مما أدى الى إمداد العربية بمادة آرامية غزيرة . واقدم الرُقُم النبطية يعود تاريخه الى سنة 33 ق. م . وأحدثها بعد زوال الدولة سنة 106 م .
درس ” ليتمان ” آثار النبط دراسة دقيقة ، وخرج بنتائج هامة تاريخية ولغوية ، ومن هذه الآثار :
رُقيم فهر وجزيمة :
يتكون هذا الرقيم من ثلاثة أسطر قصيرة . وقد وُجد في ” أم الجمال ” في شرقي الاردن ، وذهب ليتمان الى أنه دوّن في عهد غير بعيد من العهد الذي دُوّن فيه رُقيم النمارة ، وقريء في الأصل وترجمته كالتالي :
الأصل وترجمته
1 – دنه نفشو فهرو ………. 1 – هذا قبر فهر .
2 – برسلّي ربو جزيمة . ……. 2 – ابن المحارب العظيم
3 – ملك تنوخ ………3 – ملك تنوخ .
وهنالك لون جديد آخر من أنماط اللغة في المدينة الآرامية العربية ، وكما يظهر في آثار مدينة تدمر ، وهي احدث عهداً من المدينة النبطية ، فان نقوشها الأثرية لا تتجاوز القرن الأول قبل الميلاد ويمتد تاريخها الى القرن الثالث الميلادي .
ان كلمة “ تدمر أو تدمور ” آرامية معناها ” الأعجوبة ” ، وهي من المدن القديمة جداً ، وكانت روما سيدة العالم القديم آنذاك تهاب جانبها فمنحتها حقوقاً خاصة لم تمنحها لغيرها من مدن الشرق الخاضعة لسلطانها .
وقد كانت القبائل التدمرية من العنصر الآرامي امتزجت به بعض العناصر العربية ، وهو ما أبقى من لهجتها الآرامية آثاراً عربية بيّنة ، كما اثّرت لغتها الآرامية باللغة العربية تاثيراً مهماً .
ظهرت معظم الآثار التدمرية في منطقة تدمر ، ووجدت نقوش تدمرية في افريقيا ، روما ، المجر وانكلترا ، لأن كثير من التدمريين تطوعوا وانضّموا الى صفوف الجيش الروماني .
ومما تجدر الاشارة اليه أن الباحث البريطاني ” ولفنسون ” ذهب الى أن لغة تدمر ” تشبه اللهجات الغربية الآرامية على أن الفاظاً كثيرة كانت في نطقها قريبة من النطق المألوف في الآرامية الشرقية ” .
ان لغة تدمر الاولى ، وان كانت خالية من الالفاظ العربية ، بعكس اللغة النبطية , لكن هناك اعتقادا بان عناصر عربية دخلتها بعد امتزاج العناصر العربية بقبائلها الآرامية ، وعلى الأخص بعد سنة 272 م حينما انتهت سيادة المدينة بأسر ملكتها ” الزباء ” ، اذ كثرت العناصر العربية رويداً رويداً ، وتحوّل الشيء الكثير فيها الى اللون العربي . ومن الطبيعي ان تتأثر اللغتان الآرامية والعربية بهذا التمازج العنصري الشديد .
وقد درس علماء الساميات لغة تدمر الآرامية دراسة وافية ، واستنتجوا منها عناصر لغوية وتاريخية هامة ، وأشهر الذين درسوها ونشروها ” ليدزبارسكي “، ” وكلير” و “مونكانو ” ، و ” وود ” الذي نشر رُقماً تدمرية هامة , و ” دي فوغويه ” ، وغيرهم .