عادل حبه
إن أحد هواجس التي كانت تثير القلق لدى العديد من الوطنيين العراقيين في العهد الملكي، هي موضوعة الطائفية. ولذا طالب العديد من هذه الأحزاب بإرساء مساواة حقيقية بين أبناء الشعب والتخلي عن نهج التمييز الطائفي الذي كان في جوهره السعي لاستحواذ النخبة الطائفية على الثروة بالأساس، باستثناء فترة الخمس سنوات التي أعقبت ثورة تموز. فالدولة العراقية التي نشأت بعد التحرر من ربقة السيطرة العثمانية، استمرت على اتباع نهج التمييز الطائفي العثماني. كما ورث العراق شكل البناء الاستبدادي الهش المغلف بالغطاء الديني والمذهبي الطائفي من الدولة العثمانية. وترك ذلك تأثيره السلبي على وعي الناس وأفكارهم وممارساتهم. ولقد حُددت هوية العراقيين بعد تأسيس الدولة العراقية في عام 1921 وشهادة الجنسية التي يحملونها وإلى الآن، بالجنسية العثمانية التي كان يحملها المواطن العراقي قبل قيام الدولة العراقية الحديثة. في الوقت الذي فضّل البعض من العراقيين حمل الجنسية الإيرانية لأسباب عديدة، ومنها التخلص من الخدمة العسكرية في الجيش العثماني “السفر بر”، الذي لم يتوقف لحظة في كل تاريخ الدولة العثمانية عن خوض الحروب والغزوات تحت راية “حماية الدين”. وهكذا اتُهم بعض العراقيين بتهمة “التبعية” وتعرضوا للتسفير في ظل عهدي البعث البغيضين في انقلاب 1963 وانقلاب 1968. لقد بلغ التمييز الطائفي حداً بحيث اعترف الملك فيصل الأول بهذا الواقع الطائفي بعد تشكيل الدولة العراقية في حديث خاص له حيث قال :”إن الضرائب على الشيعي والموت على الشيعي والمناصب للسني”.
ورغم ما يُقال ويتردد عن ضلوع أطراف في المؤسسة الشيعية الطائفية بإصدار فتاوى تحرّم على الشيعة المشاركة في مؤسسات الدولة العراقية الحديثة، وربما هناك قدر من الصحة في ذلك، إلاّ أن مشاركة أوساط واسعة من السياسيين الشيعة سواء إلى جانب الحكم أو الوقوف في صف معارضته ومنهم طيب الذكر الحاج محمد جعفر أبو التمن وشخصيات سياسية بارزة، يدحض ما يدّعيه عدد من المؤرخين حول مقولة أن التهميش الذي تعرض له الشيعة هو الخيار المذهبي والطائفي لجميع المكون الشيعي في العراق. ولقد بادر قادة وطنيون بارزون عراقيون التزموا بالهوية الوطنية العراقية إلى التصدي لكل مسعى طائفي في العمل السياسي. فإتجهت جهود الحاج محمد جعفر أبو التمن لتوحيد العراقيين على إختلاف منحدراتهم الطائفية والدينية والقومية في الحزب الوطني العراقي الذي شكله في مطلع العشرينيات. هذا الحزب الذي تعرّض للحظر، ثم تم نفي أبو التمن إلى جزيرة “هنگام” في الخليج.
كما لعب موقف أبو التمن السلبي من النزعة الطائفية” دوراً هاماً في تطويق محاولات تشكيل أحزاب طائفية شيعية بالرغم من سياسة التمييز الطائفي للنظام. فقد رفض الحاج محمد جعفر ابو التمن الدعوة التي قدمتها له قيادات عشائرية ودينية وسياسية لترأس حزباً طائفياً، لاعتقاده بأن مثل هذه الخطوة ستلحق الضرر بالوحدة الوطنية العراقية، إلى جانب أنها لا تشكل حلاً لمشاكل البلاد، بل هي إذا ما نجحت فستدق اسفيناً بين العراقيين وستجلب الكوارث للبلاد. وهذا ما نشهده في هذه الأيام. وهكذا لم يستطع آنذاك حزب النهضة الشيعي الذي تأسس في أواخر العشرينيات من أن يستمر في نشاطه السياسي.
إن كل محاولات تخطي الراية الطائفية المدمرة في النشاط السياسي لم يكتب لها النجاح للأسف. فقد استمر الحاكمون في العهد الملكي على نهج الطائفية لتشديد قبضتهم على الحكم والاستئثار به لتمرير مشاريعهم بدعم خارجي. كما تمسك المتطرفون من رجال الدين الشيعة أيضاَ بالنهج الطائفي والتلويح به أيضاً لتأمين المصادر المالية وضمان مبايعة أكبر قدر ممكن من الشيعة البسطاء لمآربهم، إضافة إلى الاستجابة لأجندات إقليمية. وظل التجاذب بين المتطرفين من كلا اللونين الطائفيين بترديد الفتاوى والقصص والروايات التي تزيد من الشحن الطائفي وتعمق الفرقة بين العراقيين وأتباع الدين الواحد. ولم يعد هذا التجاذب يأخذ صورة التجاذب المذهبي فحسب، بل اتخذ تجاذب سياسي كامل العيار ولا علاقة له بالدين والمذهب، بل هو تنافس النخب الطائفية على الغنائم والثروة.
لقد وقف رجال الدين المتطرفين من كلا الطرفين ضد أية نزعة لإعلاء شأن الهوية الوطنية وتجاوز الخلافات المفتعلة بين المسلمين الذين توحدهم أركان الدين الخمسة. فراحوا ينبشون في الروايات التاريخية للبحث عن ذرائع لتعميق الخصومة بين أبناء الدين الواحد، مثل رواية “قميص عثمان” ورواية قرية “فدك” أو اعتداء الخليفة عمر على السيدة فاطمة، وهي أحداث مشكوك بأصالتها. وحتى وإن صحت هذه الروايات حول هذه الصراعات التي كانت تدور حول الغنائم خاصة بعد الفتوحات، فما هي جريرة الأجيال اللاحقة في استمرار هذا الصراع العبثي الدنيوي الذي يجري أحياؤه وتأجيجه بين الحين والآخر. هذا في الوقت الذي التزم الامام علي الصمت أزائها، وبارك تولي أبو بكر وعمر بن الخطاب وعثمان بن عفان على التوالي كخلفاء للمسلمين، وتعاون معهم أثناء ولايتهم، ولم يرفع السيف ضدهم، وقام بالتصدي لمن قام باغتيال الخليفة عثمان بن عفان. كما دخلت ذُرية الأمام علي في مصاهرة مع جميع ذرية الخلفاء الأوائل. وسُمي البعض من هذه الذرية باسمائهم، بحيث أن الامام جعفر الصادق أشار عند الطلب منه شتم هؤلاء :” أَيَسُبُّ الرَّجُلُ جَدَّه، أَبُو بَكْرٍ جَدِّي، لاَ نَالَتْنِي شَفَاعَةُ مُحَمَّدٍ يَوْمَ القِيَامَةِ إِنْ لَمْ أَكُنْ أَتَوَلاَّهُمَا، وَأَبرَأُ مِنْ عَدوِّهِمَا”.
لقد نشط المتطرفون من كلا الجانبين على إحباط أي مسعى للحوار حول أمور مر عليها أكثر من 14 قرناً، وحرف الناس عن الشؤون الآنية التي تواحههم، وحرفهم عن التمسك بالهوية الوطنية. فعندما وحّدت وثبة كانون الثاني عام 1948 العراقيين من أجل إسقاط معاهدة بوتسموث الاسترقاقية مع بريطانيا، وسادت راية الوطنية العراقية والحماس الوطني في شوارع المدن العراقية بأجمعها، وتراجع “اللغو” الطائفي من شوارع المدن العراقية، أثار ذلك هلع المتطرفين الطائفيين من تنامي النزعة الوطنية لدى العراقيين على حساب النزعات الطائفية المتطرفة. فخرجت في بغداد بعد حين مظاهرات نظمتها حركة الأخوان المسلمون الفتية، تصدّرها زعيمها محمد الصواف رافعين شعارات تهدف إلى حرف الرأي العام العراقي عن مطالبه الوطنية، وطرحوا شعار “الشيوعيون أخوان اليهود” بذريعة الدفاع عن حرمة فلسطين.
وعندما اندلعت ثورة الرابع عشر من تموز عام 1958، وبادرت السلطة الوطنية إلى اعتماد الوطنية في التعامل مع العراقيين، وباشرت بطي صفحة على التاريخ المقيت للطائفية في بلادنا، جنّ جنون فرسان الطائفية من كل الألوان وناصبوا الثورة ورموزها وأنصارها الخصومة والعداء، ورفعوا رايات “الشيوعية كفر وإلحاد” السيئة الصيت، لسبب أساسي هو أنها سحبت بساط الطائفية من تحت أقدام المتطرفين الطائفيين وحرمتهم من المنافع التي تدر عليهم جراء التلويح بالراية الطائفية. والغريب أن هؤلاء الطائفيين اختلفوا في كل شيء، وتنكروا لايمان كل الأطراف بالأركان الخمسة في الاسلام. ولكنهم وضعوا القشور في الواجهة، وأضحت بمثابة أركان لمذاهبهم، وابتكروا النصوص وفبركوا الروايات حول أمور دنيوية وفرعية قياساً بالأمور الروحية التي لا خلاف عليها، لتأصيل وتبرير منهجهم. وعلى الرغم من الخلافات بينهم، إلاّ انهم اتفقوا على مناهضة ثورة 14 تموز. وبدأ الغزل والتعاون المشترك بين ألوان التطرف، والتنافس على اصدار الفتاوى التكفيرية ضدها وتشكيل الأحزاب الطائفية والمشاركة في التحضير للانقلاب الذي دبرته دوائر الاستخبارات الأمريكية والبريطانية وشركات النفط، بهدف وقف الحملة التي شنها النظام لاجتثاث جذور الطائفية في البلاد وآثارها الضارة.
ونجح هؤلاء بالاجهاز على ثورة 14 تموز في الثامن من شباط علم 1963، وتوقفت المساعي لتحديث البلاد والحفاظ على الهوية الوطنية والتخلي عن الموضوعات الطائفية البالية، وعادت الطائفية من جديد بقوة لتبث سمومها في المجتمع، وتحرق الأخضر واليابس وتعرقل التطور الحضاري للمجتمع العراقي. ومنذ ذلك الحين، أي انقلاب 8 شباط 1963، بدأت صفحة مشينة في العراق تمثلت في الترويج المحموم للطائفية، وتمثلت في إبعاد الآلاف من العراقيين عن وطنهم ونهب ممتلكاتهم بدعوى التبعية والطائفية، ووصلت أبشع صورة للمرض الطائفي أثناء الحرب العراقية الإيرانية التي انتشرت أثناءها سموم هذا المرض الخبيث. كما تحول حزب البعث نفسه من حزب علماني إلى حزب طائفي كامل العيار.
وهكذا ورث العراقيون خلال هذه العهود أكداس من الهوس الطائفي الذي لم يعد يقتصر على الفئة الحاكمة فحسب، بل أمتدت شروره إلى المجتمع العراقي برمته. فبدلاً من التصدي لهذا المرض الخبيث وفلب صفحة عليه، رفع متطرفون في المكون الشيعي أثناء انتفاضة الشعب العراقي في عام 1991 ضد النظام الطائفي السابق شعار “ما كو ولي إلاّ علي ونريد حاكم جعفري”، بدلاً من رفع شعار المطالبة بـ”الحاكم العراقي العادل والديمقراطي” في مسعى لانقاذ البلاد من شر الطائفية. وبذلك أضاع العراقيون الفرصة الذهبية من أجل خروج البلاد من هذه الدوامة. وكان هذا الشعار هو الذي أدى إلى انهيار الانتفاضة والشروع بدق الأسافين بعمق أكثر بين مكونات الشعب العراقي ، وسهّل على الحكم قمع الانتفاضة.
وبعد الاجهاز على نظام البعث إثر الغزو الأمريكي، كان المجتمع “جاهزاً” للولوج في دهاليز الطائفية وعواقبها، وهو ما شهده العراق خلال السنوات التي تلت عام 2003، وما لحق به من خراب مادي وروحي، علاوة على ارزهاق أرواح عشرات آلاف الضحايا من كل المكونات العراقية تحت شعارات طائفية ومذهبية. وراحت طبول المتطرفين تدق من أجل تعميق التناحر المتبادل بين أبناء الوطن الواحد، كما أخذنا نشهد نوازع مريضة في المجتمع التي لا تبني البلاد ولا توّحد العراقيين، بل تمزّق نسيجه.
والآن حيث يخوض العراقيون وإبناؤهم في القوات المسلحة والأجهزة الأمنية صراعاً مريراً ومصيرياً ضد المجاميع التكفيرية الإرهابية التي تلقى الدعم المالي واللوجستي والإنساني من دول إقليمية وشبكات إرهابية عالمية، فما على العراقيين إلاّ التبصر والتدقيق في أسباب هذا الإعصار الخطير والمدمر، الذي أدى إلى احتلال أجزاء ومدن مهمة من العراق، في ظل رايات وشعارات طائفية والتي أصبحت الغذاء الروحي والمحرك لهؤلاء الأشرار.
ولذا يجب على العراقيين التحلي باليقظة والوعي والحذر من عدم الانجرار واللهاث وراء فخ الطائفية “سنية كانت أم شيعية” عند مواجهة التطرف الطائفي لداعش وأمثال داعش. كما يجب على العراقيين التخلي عن “لعبة الشيعة والسنة” التي تعد الغذاء الروحي لداعش وأضرابها، وأن يسحب البساط من تحت أرجل هؤلاء الذين يتاجرون بالطائفية ويقبضون الملايين لدق أعناق العراقيين جراء ذلك. إن رفع الشعار الطائفي لا يؤدي إلى إزالة الإرهاب مهما بلغ حشد العراقيين له، ومهما تلقوا من دعم دولي خارجي. فالأمر هو في يد العراقيين وفي كيفية معالجة الحواضن التي يتمتع بها الإرهابيون داخل العراق جراء هذا الشحن الطائفي المحموم الذي يجيش في الموصل والأنبار وصلاح الدين وديالى مواطنين عراقيين نخر الشر الطائفي في عقولهم بسبب هذا التبشير الطائفي من قبل جميع فرسان التطرف الطائفي شيعة وسنة على حد سواء. ومهما بذلت الحكومة
من جهود للمصالحة المزعومة، فلا أمل فيها من
بدلاً من أن تكون عراقية ضد أعداء العراق والعراقيين بكل ألوانهم
دون معالجة الممارسات الطائفية والشعارات الطائفية والعمل السياسي الطائفي والأحزاب الطائفية والطقوس الطائفية التي أصبحت ممارسة رسمية في دولتنا المنخورة بالفساد والطائفية والتناحر العبثي.
إن تجربة العشر سنوات الماضية وما رافقها من مآسي وخراب وركود اقتصادي، لهي كافية بأن تدفع كل وطني عراقي إلى السعي لوقف هذا النزيف الرهيب والتصدي لتجارة الطائفية التي لم يجن منها الشيعي والسني و المسيحي والكردي والعربي والأيزدي أية مكاسب سوى الخراب. فهدف أشرار داعش هو القتل والتخريب والنهب وإثارة موجات الحروب في المنطقة والعالم. ففي الموصل لا يقتل الشيعي وفي الانبار لا يقتل الشيعي، ولم ينج حتى الطيار الأردني من الحرق على يد هؤلاء. آن الأوان أن يعي العراقيون بمخاطر ما ينتظرهم ويتخلوا عن ثوب الطائفية “المهلهل”.
6/2/2015