كل ما لدينا ـ طيبه وخبيثه ـ مسروق من حقائب أمهاتنا!

30002446_mday09_w_RKIAa_20137مرة أخرى أجد نفسي مشغوفة بتقليب صفحات المجلة والإستمتاع بلذة من نوع آخر، لذة تمارسها دون الحاجة إلى أن تغرق في بحر من الإحساس بالذنب! كما هي اللذة التي تمارسها عندما تغرق في صينية كنافة نابلسية!
مرّة أخرى يتصدر كتاب

Blink
الواجهة، ليثبت صحة نظرية “غرفة القيادة المغلقة والقابعة في مؤخرة أدمغتنا”!
المجلة في كل صفحاتها تتناول أهمية “القصة” في حياة البشر، وكيف تساهم في تغييرهم!
هل هي الصدفة المطلقة أن يكون كتابي “دليلك إلى حياة مقدسة” عبارة عن ألف قصة وقصة أهديها إلى شهريار العربي في محاولة لتطهيره من شغفه بالقتل والانتقام، ومن ثمّ ألتقط مجلة تتحدث باسهاب عن أثر القصة في حياة الناس؟؟
لا، ليست الصدفة….
لكنها القيادة التي تقبع خلف الأبواب الموصدة في باطن عقلك….
تقودك باللاوعي إلى ما يعزز قناعاتك ويسهّل قرارتك…
لكنك لا تستطيع أن تسترق “صوتها الآمر” مالم تكن مزودا بالقدرة على التفكير الإيجابي….
…………..
لا أستطيع أن أختزل تجربتي مع هذا العدد من مجلة

بصحفة أو ببضع صفحات…

لأنني عندما استمتع بقراءة صفحة ما، أطبعها في ذاكرتي مائة صفحة…
آخذ كل عبارة أقرأها فأحولها داخل عقلي موضوعا كاملا، ثم أخزنه لأسقطه لاحقا فوق صفحاتي مئات العبارات…
أوبرا وينفري قابلت في هذا العدد من مجلتها بضعا من أشهر كتاب القصة في أمريكا وجمعت أزهارهم في باقة واحدة!
كنت أنتقل من قصة إلى أخرى، كما تنط النحلة من زهرة إلى أخرى…
في كل قفزة كان كيسي يمتلأ عسلا حتى بلغ حد الإنفجار، فراح ينفجر بذخيرته فوق صفحاتي….
ضحكت مرة…… وصمت مرة….. وبكيت مرات….
……
القصة التي أضحكتني حتى أنستني “كباب الدجاج وحمّص” السيدة الاثيوبية، كانت تلك اللتي روتها القاصة الأمريكية Elizabeth Gilbert،
قالت: جئت من عائلة تتقن فن رواية القصص وتأليفها، وكان والدي يتحفنا بقصص كثيرة عن تاريخ العائلة، منها وأهمها قصة أحد أعمامي. كان كحوليا، وفي كل مرة يسكر كان يقود شاحنته الصغيرة ليلا إلى بحيرة في الأدغال قريبة من بيته… يتعرى تماما من ملابسه ثمّ يغوص فيها ويسبح لساعة متأخرة في الصباح قبل أن يعود إلى بيته! أحد المرّات، خرج من البحيرة عاريا ليجد أنه قفل شاحنته ونسى المفتاح وثيابه داخلها.. حاول جاهدا أن يفتح الباب دون جدوى… نظر في مؤخرة الشاحنة فلم يجد سوى منشفة صغيرة ليست أكبر حجما من الكفّ بكثير، فحملها وتوجه إلى بيته عاريا وسيرا على الأقدام. كان وكلما لمح سيارة قادمة من الوراء يغطي بالمنشفة مؤخرته، وكلما رآها قادمة من الأمام يغطي بها عضوه الذكري… مرّة تصادف أن التقت سيارتان واحدة من الخلف وواحدة من الأمام بقربه، فراح ينتقل بالمنشفة من مؤخرته إلى عضوه.. عندما روى لأبي تلك القصة ـ تتابع اليزابيت ـ سأله أبي: أي جزء غطيت عندما التقت السيارتان بجانبك؟ فرد عمي: لا أعرف، ولكن دائما آمل أن أصنع القرار الصحيح في اللحظة الحرجة! تتابع اليزابيت: هذه القصة تركت في أذهاننا صورة جميلة وممتعة كذكرى تخلد عمي! 

هكذا هي القصص دوما تخلد أصحابها… مرّة تضحكنا ومرّة تُخرسنا ومرّة تبكينا….. والحياة ماهي إلا ضحك وبكاء وصمت طويييييييل بينهما….
……….
أما ما أبكاني في ذلك العدد من المجلة إلى حد القهر فكان قصة الرجل الأمريكي الأسود
Shaka Senghor،
الذي سُجن ١٩ سنة قضى ٧ سنوات منها في زنزانة انفرادية، ثم ألف بعد خروجه كتابا يضم مذكراته بعنوان
Writing my wrongs، “كتابة أخطائي”!
عندما سألته أوبرا: ماهي نقطة الإنعطاف الذي انتهت بك في الشارع؟ قال: عدت يوما إلى البيت وكنت طالبا في المدرسة الإبتدائية، عدت وأنا أرقص فرحا وأحمل بيدي نتيجة أحد الإمتحانات وكانت “امتياز”… لم أكد أفتح الباب وأخطو الخطوة الأولى داخل البيت حتى زأرت أمي كالوحش الجريح وضربتني بطنجرة كانت في يدها. يتابع شاكا: لحسن الحظ أو لسوءه لم تصبني الطنجرة بل أصابت حائط المطبخ خلفي وكسرت واحدة من بلاطات البورسلان، حتى تاريخ اليوم لا أعرف لماذا ضربتني! تسأله أوبرا: لماذا كنت تحلم أن تصبح طبيبا؟ أطرق رأسه طويلا ثم أجاب: لم أر أمي يوما لطيفة، باستثناء اللحظات التي كنا نقضيها في عيادة الطبيب، ولذلك حلمت أن أصبح طبيبا على أمل أن تصبح أمي لطيفة معظم الوقت!

تذكرت بعد قراءة تلك المقابلة الرجل الأمريكي الذي كان في ثمانينياته ومصابا بسرطان الرئة، وكان يحاضر في جمع من الناس عن خطورة التدخين، فقال في سياق حديثه: أول سيجارة دخنتها كنت قد سرقتها من حقيبة أمي! كل ما لدينا ـ طيبه وخبيثه ـ مسروق من حقائب أمهاتنا!
….
من منكم يرى نفسه ـ بشكل أو بآخر ـ في قصة الرجل الأمريكي شاكا؟؟ ألم أقل لكم: لو روى كل منا قصته لرأى كل منا نفسه في مرآة الآخر، ولتوحدنا انسانيا؟؟؟ 

ليت ذلك الداعشي الذي فتح صدر رجل سوري وأكل قلبه، ليته يقصّ عليّ حكايته من ألفها إلى يائها مرورا بحضن أمه…
وليتني أقص عليه حكايتي من ألفها إلى يائها مرورا بحضن أمي أيضا.. لو تسنى له وتسنى لي أن نفعل ذلك، لرأى كل منّا نفسه في مرآة الآخر رغم تناقض القصيتين كتناقض الليل والنهار…. عندما يروي لي قصته وأروي له قصتي يتعرف كل منّا على الآخر مطهرا من كل اعتباراته، ونظيفا إلاّ من روحه الكونية! تلك الروح اللتي تربطنا بكوننا، والأهم: تربطننا ببعضنا البعض!
نحن، أنا وذلك الداعشي، أخوة في الروح وأعداء في الإعتبارات…..
…..
في موقع آخر من تلك المجلة يقول القاص الأمريكي ـ الإيرلندي الأصل ـ والحاصل على عدة جوائر في كتابة القصة
Colum McCann،
يقول:
Step into My Shoes and I’ll Step into Yours
“امشِ في حذائي ودعني أمشي في حذائك”
وهو مثل أمريكي يعني: دعني أعيش حياتك وتعيش حياتي ولو بضعة لحظات، كي يتعرف كل منا على تجارب الآخر!
ليتنا في هذا الشرق المعذب نمارس يوميا تلك “الرياضية” الإنسانية… عندما نتبادل الأحذية فيمشي كل منا في حذاء الآخر، سيتعرف كل منا على دقائق الأمور وتفاصيلها في حياة ذلك الآخر.. سيقودنا حذائه إلى عرسه…إلى غرفة نومه…إلى مطبخه….إلى مطبّاته….إلى آلامه…..إلى دموعه….إلى نجاحاته وابتساماته… سنرى “بلاطة البورسلان المكسورة على جدار مطبخه”، وسندرك سرّ انحرافه! سنفتش حقيبة أمه كي نرى علبة السجاير مضبوطة بالجرم المشهود، ونرى السيجارة المسروقة منها مطبوعة بكل سمومها فوق رئتيه…
…..
هل أحد منكم يستطيع أن يدلني على بيت ذلك الشاب الذي فجر نفسه في مدرسة للأطفال، فحصد باقة من الأزهار في عزّ ربيعها؟؟؟ علني أجد حذائه فأستعيره! علني أرى بلاط مطبخه فأعثر على ضالتي المنشودة… وأدمغ بختم الحقيقة قناعتي من أنه فجرّ نفسه لا حبّا بنبيه وإنما هربا من أمه! لا يهرب الإنسان من الحياة حبا بأحد، وإنما كرها بالحياة نفسها! لكن، لا بد أن يتبنى سببا يَعتقدُ أنه “نبيل”، كي يخفي حقيقة مطبخه، فوجد في سيرة نبيه “العطرة” ذلك السبب! لابد أن يتذرع بذلك السبب، كي يعطي مماته بعدا “روحانيا” لم يستطع أن يصله في حياته!
….
كم مرّة تبهرنا الأضواء من حولنا ونحن في لحظة تعري حقيقي…. ولا نملك سوى منشفة صغيرة كي نغطي بها عوراتنا….
في تلك اللحظة بالذات نأمل أن تقودنا غرفة القيادة في مؤخرة رؤوسنا إلى قرار سليم يحفظ ماء وجهنا… للناس عوراتهم ولك عورتك… فلا تشير إلى عورة غيرك بالبنان، قبل أن تتفحص جدران مطبخك…

كلنا نولد من أمهات… وكل أمّ ـ مهما كانت عظيمة ـ تملك طنجرة وتمرّ بلحظة غضب! كما تترك الطناجر على جدران مطباخنا آثارها، كذلك تترك على جدران عقولنا…
المهم… أن ترتفع بمستوى وعيك إلى مستوى اللاوعي كي تنظف تلك الآثار فتصبح قادرا على أن تقود حياة منتجة وفعالة، حياة نظيفة من الضغية والحقد والكراهية ومفعمة بالحب واحترام الآخر مهما اختلفت مع ذلك الآخر!
…..
سأنقلكم لاحقا إلى زيارتي لشلالات نياغرا… ألم أقل لكم: بأن القادم أجمل؟؟؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in الأدب والفن. Bookmark the permalink.

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.