أيها الأخوة الحضور،
أسعد الله أوقاتكم.
نجتمع اليوم لنطالب بدين مستحق الدفع منذ قرون. الدين الذي نجتمع اليوم لنطالب باسترداده هو كرامة مغتصبة وحقوق مسلوبة!
لقد أثبتت أربعة عشر قرنا من الزمن استحالة التعايش الإنساني في العالم الإسلامي بين الأكثرية والأقليات بما فيها الأقليات الإسلامية. يحاول البعض عبثا أن يكذب تلك الحقيقة بإدعائه أن وجود أقليات في البلاد الإسلامية هو برهان أكيد على احترام الإسلام لتلك الأقليات وهذا يعني باختصار طالما لم تتم إبادتهم إذا هم يستمتعون بكافة حقوقهم. خلال تلك الحقبة الطويلة من الزمن عاش الناس ضمن أقلياتهم مجرّدين من أبسط حقوقهم وفي حالة رعب دائم، وتمّ قتلهم وتهجريهم من حين إلى آخر كما تمّ القضاء على لغاتهم الأم وطمس حضاراتهم وثقافاتهم وفرض الأعراف والثقافة الإسلامية بقوة السيف.
تجاهل العالم الغربي كله قضية الأقليات في ظل الثقافة الإسلامية. حاجة ذلك العالم إلى نفط السعودية أعمت بصره فتجاهل تلك القضية عامدا متعمدا. لكنّ أحداث أيلول الإرهابية أزالت بعض الغشاوة عن عينيه فراح يتلمس جراحه ويعترف بجراح غيره.
متى سمعنا في تاريخنا عن مؤتمر ما كان قد عقد لمناقشة حقوق الأقليات في العالم الإسلامي؟
إنه فائدة جنيناها من مصائب غيرنا!
إن مجرد عقد مؤتمر كهذا هو فائدة بحد ذاته ومهما كانت نتائجه، فالمطالبة بحق مغتصب هي بحدّ ذاتها انتصار لذلك الحق!
من كان يجرؤ، وعلى مدى أربعة عشر قرنا من الزمن، أن يفتح فمه للمطالبة بحقه؟ كل من يطالب بحقوق طائفته كان يتهم بأنه طائفي قذر، ولكن عندما تتهم الأكثرية المسلمة اليهود والنصارى بأنهم أبناء القردة والخنازير، ناهيك عن اتهاماتهم البذيئة لغيرهم، فهم ليسوا عنصريين وإنما ينفذون قرارا إلهيّا وهم دون غيرهم مسؤولون عن تنفيذ القرارات الإلهية.
……..
في مصر يشكل الأقباط المسيحيون أكبر أقلية في العالم الإسلامي، تعيش تلك الأقلية كسواها على هامش الحياة وتعتبر دون مستوى الأكثرية المسلمة في الحقوق والحريات بكثير، ولكن ما يميّز تلك الأقلية شجاعتها واصرارها على انتزاع حقوقها وحرياتها. هي مثل نأمل أن تحتذي به باقي الأقليات كي لا يبقى حق مهضوم ولا حرية مسلوبة!
نحن هنا لا لنطالب الحكومة المصرية باصدار قوانين تسمح للأقباط بترميم دورة المياه في كنيسة….فتلك ليست القضية!
نحن هنا لا لنطالب مخلوق كالسيد محمد عمارة بالإعتذار عما أساء به إلى الأقباط في عقر ديارهم لكننا هنا لنطالب بإعادة ترميم الجهاز التربوي والأخلاقي والعقائدي الذي أنجب السيّد عمارة كي نضمن في المستقبل أن لا يسيء أحد إلى أحد في الوطن الواحد لمجرد أنه لا يؤمن بنفس العقيدة.
كي نحل أزمة الأقليات نحتاج انسانا سويا متوازنا أخلاقيا وعقليا قبل أن نحتاج إلى قوانين. لا تستطيع القوانين أن تفعل شيئا في مجمتع يفتقر إلى سلطة أخلاقية وعقلية.
استرداد الكرامة المغتصبة والحقوقة المسلوبة لا تتم فقط عبر القوانين، وإنما بإعادة تأهيل الإنسان الذي اغتصبها وسلبها أخلاقيا وعقليا وتربويا.
أزمة الأقليات في البلاد الإسلامية ليست أزمة قوانين، لكنها أزمة أخلاق وأعراف وعقيدة.
يحتج أغلب المسلمين على كتاباتي برسائل تشتمني بالنصرانية واليهودية. عندما ينحدر إنسان الأمة إلى درجة يشتم من لم يتفق معه بنعته باليهود والنصارى تصبح القضية أعمق من كونها ترميم لدورة مياه أو قبول اعتذار.
الأمة الإسلامية أمة تحتاج إلى ترميم أخلاقي وعرفي وعقائدي قبل أن تحتاج إلى ترميم قوانينها.
نحن بحاجة إلى إنسان خلوق يثبت إنسانيته باحترامه لإنسانية الآخرين، أكثر مما نحتاج إلى قانون يفرض على هذا الإنسان احترام الآخرين بالقوة.
أحتاج إلى جار يعترف بحقي أن أكون من أكون ويحترم هذا الحق أكثر مما أحتاج إلى قانون يحمي ذلك الحق. مالم نحترم بعضنا البعض في الوطن الواحد لن تستطيع قوانين أن تلزمنا بهذا الإحترام.
الأغلبية والأقليات في العالم الإسلامي تحتاج إلى إعادة تأهيل عقلي ونفسي. قرون طويلة من الظلم والإضطهاد قولبت عقلية الإنسان المظلوم ليقبل ويتعايش مع ظلم الآخرين له، وقولبت عقلية الظالم كي يستمتع بظلمه للآخرين. نحن الآن أمام معضلة الإنسان في البلاد الإسلامية سواء كان ينتمي إلى الأغلبية في تلك البلاد أم إلى الأقلية.
المطالبة بإعادة تأهيل ذلك الإنسان يجب أن تكون على قمة جدول أعمالنا اليوم.
يجب أن نطالب بتبني ثقافة جديدة ترفض احتكار الحقيقة وتسمح لكل إنسان في الوطن الواحد أن يكون حرا في معقتده وأفكاره وطريقة حياته طالما لا تسيء عقائده وأفكاره وطريقة حياته إلى حرية غيره.
يجب أن نطالب بتنظيف مناهجنا الدراسية والثقافية من التعاليم التي تحض على كره الآخر وعلى إرهاب الآخر.
الوطن يجب أن يكون للجميع، والدين يجب أن يبقى رهينة العلاقة الغيبية التي تربط من يتبناه مع إله ذلك الدين.
الدين ليس هوية، الوطن هو الهوية. وإنتماء الفرد إلى وطنه يحدد قيمته في مجتمع ذلك الوطن.
عندما يدرك الإنسان المسلم في بلادنا الإسلامية بأن النصرانية واليهودية وغيرها من العقائد ليست شتائما وإنما معتقدات يحق لأهلها اعتناقها سيكون الإنسان أكثر سعادة وقدرة على العطاء والإنتاج.
ليس ذلك الحلم مستحيلا، لكنه ليس سهل المنال. لا أرى أملا في أن نقطف ثمرة جهود هذا المؤتمر وغيره من المؤتمرات خلال حياتنا، ولكن ليس لدي أدى شك بأنها خطوة لا بد منها، وخطوة كانت مستحقة منذ قرون.
سقط الإنسان في تلك البلاد رهينة سجن عقائدي، لم يتسن له أن يعرف الحياة خارجه، فعاش عمره يظن بأنه وحده على حق وغيره على ضلال واستهلكت عقله وطاقته ثقافة تحضه على قتال، من كان حسب مقياس تلك الثقافة، على ضلال.
فتح المجتمعات الإسلامية على العالم كله واجب العالم كله، لكي يستطيع إنسان تلك المجتمعات أن يقارن بين الغث والثمين ويختار ثقافة تستطيع ان تنقذه من جحيم حياته.
نعيش اليوم في عصر الإنترنيت الذي خطى الخطوة الأولى والأهم في هذا الطريق. فتح ذلك العصر لأول مرة في التاريخ نافذة كبيرة في الجدار الذي يحيط بعالمنا الإسلامي. الوضع في هذا العالم وخلال العشر سنوات الماضية ليس كما كان من قبل. عملية تأهيل الإنسان المسلم عبر الإنترنيت قد بدأت وهي، وإن بدت بطيئة، جديرة بأن تؤخذ بعين الإعتبار.
مسؤوليتنا هنا أن نبحث عن طرق تسهل وتسرع تلك العلمية كي تنضج ثمارها في أقرب وقت.
قبل عشر سنوات منذ اليوم لم أكن أحلم أن أتبادل أطراف الحديث بحرية مع امرأة مسلمة مبرقعة من رأسها حتى أخمص قدميها وهي داخل غرفة نومها. عندما يروون تلك المرأة تمشي في الشارع يطمئنون بأنّ برقعها يفصلها عن العالم كله، دون أن يدروا أنّها حرّة داخل عقلها لأنّ وفاء سلطان قد أعادت تأهيلها العقلي والأخلاقي.
لم يعد باستطاعتهم أن يبرقعوا النساء فأنا وغيري، ممن بدأوا عملية التأهيل، ندخل حتى غرف نومهن بدون إستئذان. لقد صارت الإنترنيت مصباح علاء الدين السحري الذي يقتحم بنا كل الحصون والقلاع.
قد لا تسطيع تلك المرأةأن تغير شيئا من جحيم حياتها في المدى المنظور، لكنني على ثقة مطلقة بأنها سترضع لبان الحرية لطفلها أكثر مما رضعتها هي، وسيخرج هذا الطفل إلى الحياة رجلا يحترم حق المسيحي واليهودي وغيرهما من الأقليات الأخرى أكثر بكثر مما يحترم محمد عمارة وأمثاله تلك الحقوق.
وعلى المدى البعيد، ستكون النتيجة لصالح الإنسانيّة جمعاء.
نحتاج إلى وقت، لكننا نستطيع أن نختصر ذلك الوقت. قيل لي أن 3% فقط من سكان سوريا يملكون مدخلا إلى الإنترنيت. وأعتقد بأن 90% من هؤلاء هم من الرجال. وسؤالي الذي أطرحه أمامكم في هذا المؤتمر: هل هناك طرق نستطيع من خلالها أن نزيد ذلك الرقم ونصل إلى الغالبية الساحقة من تلك الشعوب؟
تلك مسؤولية ضخمة وتبدو معقدة لكنها ليست مستحيلة، علينا أن نصل من خلال هذا المؤتمر إلى الجهات العالمية الكبيرة والمعنية بتلك الشؤون كي تقوم بتلك المسؤولية على أكمل وجه.
أعرف أنّ بيننا اليوم الكثيرين من الكتاب والنقاد الذين لعبوا دورا إيجابيا كبيرا في إعادة تأهيل الكثيرين من القراء عقليا وفكريا. ويبقى السؤال: كيف نضمن أن يصل هؤلاء الكتاب والنقاد بفكرهم إلى معظم الناس؟
نحتاج أن نعيد تأهيل السيد محمد عمارة قبل أن نلزم السيد الرئيس حسنى مبارك بإصدار قوانين جديدة تنصف أقليات مصر.
الإنسان قبل القانون، هو الذي يصدر القوانين وهو الذي يعمل على حمايتها وليس العكس.
نحتاج إلى إنسان جديد، قبل أن نحتاج إلى تشكيل حكومات جديدة. تغيير الحكومات هو تحصيل حاصل لتغيير الإنسان.
أزمتنا في الشرق الأوسط أزمة عقل وإنسان قبل أن تكون أزمة حكم وحكام!
تقوم الحكومات بحجب كل المواقع الإلكترونية التي تساهم في خلق ثقافة جديدة، والسؤال هل نستطيع أن نقف في وجه عملية الحجب تلك. كلنا يتذكر كيف دخل التلفزيون عالمنا وكيف واجهته العقلية المتعصبة ردحا من الزمن، ثم فشلت فشلا ذريعا مع الوقت ولم يبق اليوم شيخ من شيوخ الإسلام لا يستمتع بكل القنوات.
الإنترنيت أقوى تأثيرأ وأكثر فعالية لأنها تسمح بالحوار وبتبادل الآراء، ونفس الجهات التي حاولت في الماضي حجب التلفزيون تحاول اليوم حجب الأنترنيت، وأنا على ثقة بأنّ محاولاتها ستنتهي إلى نفس المصير. على كلّ حال، مهمتنا اليوم أن نجد طرقا تسرع إجهاض تلك المحاولات كي نقطف ثمار الإنترنيت أسرع مما نتوقع. لماذا لا نشكّل طاقما يسعى للإتصال بالمسؤولين عن الإنترنيت في أنحاء العالم علهم يساعدوننا على إيجاد طرق تعيق عملية الحجب وتجعل المعرفة في متناول أيدي الجميع.
الحياة في المجتمعات الإسلامية كانت ولم تزل جحيما لأبنائها سواء كانوا من الأكثرية أو من الأقليات. العقيدة التي تحلل ظلم الأقلية هي وبالا على معتنقيها أيضا. الظلم يقضي على الظالم قبل أن يقضي على المظلوم. العدل وحده هو الذي يدفع ركب المجتمع إلى الإزدهار والإنتعاش. لن تقوم لأمة تظلم أقلياتها كيان، والواقع في العالم الإسلامي خير دليل على تلك الحقيقة، فما نراه من إنحطاط معيشي ماهو إلا لعنة الطبيعة على مجتمع يحلل ظلم أقلياته.
ما لم ينادي إنسان الأغلبية باحترام أخيه في الأقليات لن ينعم نفسه بحياة سعيدة، تلك هي فلسفة الحياة: بقدر ما تعطي غيرك تمنحك الحياة! هذا هو سر تعاستنا في المجتمعات الإسلامية، فمتى يعترف إنسان الأغلبية في تلك المجتمعات بالجرائم التي ارتكبها حيال أخيه في الأقليات؟
لم تستطيع محاولة عنصريّة واحدة في العالم أن تبيد أقلية بكاملها، ولكن عندما ننظر إلى تاريخ شبه الجزيرة العربية نتساءل أين اليهود والمسيحيون الذين كانوا يشكلون جزءا كبيرا من النسيج الإجتماعي في تلك الجزيرة؟
كل الشعوب التي ارتكبت مجازرا بحق غيرها اعترفت مع الوقت بمجازرها ودفعت كفارة عن تلك المجازر ولو مجرّد إعتذار،
هل سيعترف المسلمون يوما بمجازرهم؟ وهل سيكون فناء قبيلة قريظة، على سبيل المثال لا الحصر، على قمة جدول تلك المجازر؟ إنها الخطوة الأولى التي يجب أن نطالب بها في محاولة لفتح صفحة جديدة تسمح لنا أن نتجاوز الماضي وننطلق نحو مستقبل أفضل.
المرأة في المجتمع الإسلامي نصف هذا المجتمع من حيث العدد وهي أكثر بكثير من حيث الأهمية، لكنها تعامل كما تعامل بقية الأقليات. هي أيضا مغتصبة الكرامة ومسلوبة الحقوق! وعندما نؤهّل الرجل تربويا لقبول الآخر سيتأهل في الوقت نفسه لقبول المرأة كالند للند. فقضية معاملة الأقليات هي نفسها قضية المرأة والحلّ واحد!
قد يقترح بعضنا اليوم الضغط على حكومات الشرق الأوسط لتبني قوانين جديدة تفرض قبول الآخر والمساواة في حق المواطنة. يبدو هذا الإقتراح معقولا في الوقت الحاضر، لكنه في رأي لا يتعدى كونه ضمادة صغيرة نحاول أن نسدّ بها جرحا كبيرا يستنزف قلب الأمة بكاملها.
مرّة أخرى أكرر بأن نظامنا التربوي ومنابع ثقافتنا تحتاج إلى تغيير جذريّ كي نضمن إعادة خلق مواطن جديد، لا يعترف بمساواة أخيه في حقوق المواطنة وحسب، بل يناضل من أجل أن يضمن تلك المساواة.
يجب أن نصل بانساننا سواء كان ينتمي إلى الأغلبية أو إلى الأقلية إلى مستوى من الوعي يرفض عنده أن يكون ظالما بقدر ما يرفض أن يكون مظلوما ويرفض أن يكون مظلوما بقدر ما يرفض أن يكون ظالما.
رحلتنا رحلة شاقة وطويلة وخطوتنا اليوم ليست سوى واحدة في طريق تلك الرحلة.
فشكرا لجهودكم، و آمل أن يكون لكم ولي يوما شرف اتخاذ ولو خطوة واحدة لإنقاذ تلك الأمة من براثن ماضيها التعيس وحاضرها الأتعس وقيادتها نحو مستقبل أفضل.
شكرا لكم مرّة أخرى وليبارك الله جهودكم.وفاء سلطان (مفكر حر)؟