اشكروا، بالشكر تتكاثر دجاجاتكم وتمتلئ سلالكم بيضاً!

لم تكن زيارتي للوطن بعد غياب دام ثلاثة عشر عاماً رحلة استجمام أهرب خلالها من عناء الحياة وضغوطها، بل كانت، باختصارٍ، سفرة عملٍ، قررتُ أن أعود من خلالها إلى مجتمع قديم كي أقرأه بمنظار جديد، منظار صحّح قصر النظر الذي عانيت منه طيلة وجودي في ذلك المجتمع.

على قمة جدول أعمالي كان البحث عن “أبي محمد”. وبعد عناء مرير، عانقته كطفلٍ أعادوه إلى أبويه! من ضمن الهدايا التي حملتها إليه كان صندوقاً من البيض. نظر إلى الصندوق، اغرورقت عيناه وقال لي ببساطته المعهودة: بنت حلال!

جمعتني الأيام بأبي محمد في مركز صحي واحد. كان هو حاجب المركز وكنت أنا إحدى طبيباته. حدث ذلك في أواخر الثمانينات. في ذلك الزمن، كان البلد غارقاً في أزمة اقتصادية خانقة، والناس ـ باستثناء ـ قراصنة الرغيف ـ على حافة مجاعة.

كان العثور على لقمة عيش نظيفة معركة تستنزف من الإنسان طاقته وجهده. إذا عرفت أحداً يعمل في المؤسسة الاستهلاكية ورشوته ببضع ليرات حصلت على صندوق من البيض، وإلا فالوقوف في طابور المنتظرين لساعات طوال قدر لا بدّ منه، وقد لا يضمن لك هذا الوقوف الحصول على البيض.

أدرك أبو محمد بحواسه المرهفة أنني أعيش أزمة جهد وطاقة وأعصاب، كان يعود بين الحين والآخر حاملاً إليّ صندوقاً من البيض، رافضاً أن يتقاضى ولو زيادة بسيطة فوق ثمنه!

ذات يوم، دعتني ميساء، وهي زميلة طبيبة تعمل معي في نفس القسم إلى “اجتماعٍ طارئ”!

من ملامح الجدية التي ارتسمت على وجهها خلتُ بأنها ستطرح على بساط البحث قضية “صبرا وشاتيلا”!.. لكنّها فاجأتني بقولها: وفاء.. إن الطريقة التي تشكرين بها أبا محمّد طريقة تؤكد حاجتك إليه ومذلتك له. ليس الأمر لصالح الأطباء ومكانتهم الاجتماعية! أبو محمد بالنسبة لنا ليس إلا حاجباً واجبه أن يخدمنا، ولا شكر على واجب!

كانت صدمتي أكبر من قدرتي على الرد فصمتُّ. حملتُ حقائبي ورحلتُ عن مجتمعٍ بات قبولي لأخلاقياته ضرباً من المحال.

في أول رسالة وجهتها لميساء كتبت أقول: “بلّغي أبا محمد تحياتي.. قولي له، تذكّرني الوفرة الموجودة في أمريكا وغزارة العطاء دوماً به.

هنا لا ندفع رشوة كي نحصل على البيض، بل يدفعون لنا رشوة كي نشتري البيض، فقسائم الحسم تصلنا كل أسبوع بالبريد!..

في هذا البلد العظيم يا ميساء، يقيمون للشكر عيداً، وهو عندي سيّد الأعياد!”

*******

“العرب لا يساعد بعضهم البعض الآخر”، تعليق كثيراً ما أسمعه في لقاءاتنا العربية، وخصوصاً هنا في المهجر. ويطرح السؤال نفسه: لماذا؟!!

لا لأننا لسنا أهلاً للمساعدة، بل ـ باعتقادي ـ لأننا لسنا أهلاً للشكر!

منذ نعومة أظفارنا، تسللتْ إلى عقولنا العقيدة السائدة: الحاجة لغير الله مذلّة!.. والعقيدة، مهما كانت سلبيةً، طالما تتضمن اسم الله، تتسللّ إلى العقل بسهولة أكثر، وتبقى هناك زمناً أطول، وتُحدث أثراً أشدّ!

لذلك، وكنتيجة حتمية لتلك الفكرة المغلوطة الفهم، تكونت لدى الإنسان العربي قناعة مطلقة، بأن الاعتراف بالجميل هو بحدّ ذاته اعتراف بالحاجة إلى الغير. والاعتراف بالحاجة إلى الغير يكرّس لديه إحساسه بالذل والهوان! ولذلك، يسعى بوعيه وباللاوعي عنده، وبعد أن يحصل على حاجته، إلى افتعال خلافٍ مهما كان بسيطاً مع الشخص الذي ساعده، كي يبرر لنفسه الهرب من مواجهته، ويرفض شكره وامتنانه والاعتراف بجميله!

لقد أكّد علم النفس والسلوك، أنه لا يستمرّ سلوكٌ لإنسانٍ على نفس المنوالِ طويلاً، إلا بالشكر والثناء والتشجيع.

وهذا ما يجبر الطرف الآخر إلى أن يعدّ للعشرة قبل أن يقوم بإسداء حاجة لشخص آخر، خوفاً من أن يُقابَلَ بنفس الجحود والنكران.

لم يقصّ عليّ مهاجر عربي واحدٌ حكايةَ هجرته إلى أمريكا إلا وطعن بشكل مباشر أو غير مباشر بالشخص الذي استضافه وفتح له بابه، معدداً سلبياته، جاهلاً متجاهلاً الإحساس بالأمان الذي شعر به عندما رآه في المطار بعد أن وطأت قدمه أرضاً هو فيها غريب الوجه واليد واللسان!

**********

هل الحاجة لغير الله مذلّة؟! حاجة الإنسان لأخيه الإنسان هي جزء من حاجته لله. وشكر الإنسان لأخيه الإنسان هو بطاقةُ شكرٍ إلى الله!

الاعتراف بالجميل ليس مذلّة بل دليل عافيةٍ وثقةٍ بالنفس؛ ونكرانُ هذا الجميل دليل سُقمٍ وضعفِ ثقةٍ بالنفس!

كنت أصغي إلى جدّتي وهي تقول في دعاءاتها الصباحية: يا رب، لا تُحِجْني إلا لوجهك الكريم. كنتُ دوماً أشكّ في عقلانية ومنطقية هذا الدعاء! كنت أحسّ وكأنّ جدتي تطلب من الله أمراً مستحيلاً، كأنْ تقول: امنحني جناحين وساعدني كي أحلّق إلى المريخ!.. ماتت جدتي ـ رحمها الله ـ ، عن عمرٍ ناهز التسعين. آخر عامين قضتهما جامدة في فراشها في بيت أخي. أبدعت زوجة أخي في خدمة جدتي، وكانت تقول مازحة عندما تُسأل: كم ولداً لديك؟.. لديّ أربعة، أحَبّهُم إلى قلبي جدّة زوجي!

بعد ستة أعوام على رحيل جدّتي، كنت أجد لزاماً عليّ، كلما اتصلت بزوجة أخي، أن أذكّرها بخدمتها لجدّتي، وأشكرها على ذلك من أعماق قلبي.

لو اقتضت حاجتي الآن أن تسافر زوجة أخي من سوريا إلى الصين سيراً على الأقدام لما ترددت لحظة واحدة.. لماذا؟.. أولاً لأنها ذات خُلق كريم، وثانياً لأنها تلقّت على كرمها شكراً وامتناناً واعترافاً بالجميل.

هل أستطيع أن أقول: لقد أحاج الله جدّتي إلى غير وجهه الكريم؟!! ألم تكن اليد التي مدّتها زوجة أخي لجدّتي هي يد الله؟!! ألم يكن وجهها السموح وجه الله الكريم؟!!

**********

المجتمع الإنساني، أي مجتمع، وبغض النظر عن كل ما كتبه علماء الاجتماع في كتبهم عنه، تراه وفاء سلطان على أنه “التقاء حاجات”.

حقوق الإنسان في مجتمعه هي حاجاته، ومسؤوليته هي تقديم الحاجة لغيره!

في مطار نيويورك، وفي طريق عودتي من دمشق إلى لوس أنجلوس، أعلن طاقم الطائرة بأن الركاب المسافرين إلى لوس أنجلوس ـ وعلى غير العادة ـ مسؤولون عن نقل حقائبهم من الطائرة التي نقلتهم إلى نيويورك إلى الطائرة التي ستنقلهم إلى لوس أنجلوس. وقع الخبر عليّ كالصاعقة. كيف سأقوى على نقل خمس حقائب من الوزن الثقيل بعد أن أرهقتني اثنتا عشر ساعة طيران!

كنت أناقش الأمر مع ابنتي عندما تقدّم رجل تبدو عليه علامات الشهامة قائلاً: إذا كنت تريدين أية مساعدة فأنا جاهز.

رغم ضيق وقته وحاجته للإسراع كي يلتحق بالقطار المتوجه إلى ميري لاند، فقد وقف معي حتى وضع جميع حقائبي فوق عربة ودفعها أمامي، ثم دلني على بوابتي، حيث كان أدرى مني بتفاصيل المطار، وغاب بعد ذلك بين الحشود. لحقته بورقة صغيرة دوّنت عليها رقم هاتفي، دون أن أذكر اسمي: أشكرك يا أخي، وأتمنى لو فكرت بزيارة كاليفورنيا أن تتذكر بأنّ لك أختاً وبيتاً.

بعد أسبوعين من وصولي، رنّ جرس الهاتف في بيتي؛ على الطرف الآخر شخص يقول: أنا الشخص الذي ساعدك في المطار، اسمي … حداد من عمّان، عثرت بين أوراقي على رقم هاتفك فأدرته.

دار بيننا حديث طويل حول الجالية العربية هنا وهناك، ووعدني أن يزورني وعائلته في الربيع القادم، ووعدته أن نبقى على اتصال!

تجربة إنسانية، خرجت منها بأخ وصديق، ليس فقط لأنه قدّم لي حاجةً بل أيضاً لأنني شكرته على تقديم تلك الحاجة!

سيظلّ … حداد شهماً لأنه بطبعه شهمٌ، ولأنني شجعته بشكري أن يبقى شهماً!

********

الإنسان يمثّل الله على هذه الأرض. علاقتك بالله تحددها علاقتك بأخيك الإنسان. إن قبلت حاجتك منه قبلتها من الله، وإن شكرته عليها شكرتَ الله.

تروي طرفة ذات مدلول فلسفي جميل بأن رجلاً أشرف على الغرق، فابتهل إلى الله متوسلاً: أرجوك يا رب أن تنقذني!.. وجاءه صوت من السماء: لا تقلق يا بني سأنقذك!

مرّ على الفور قارب نجاة فألقى له بحبل لكنّ الغريق رفض أن يتعلّق بالحبل. حامت طائرة هليكوبتر فوق رأسه وألقت له بسلّم كي يتسلّق عليه، فرفض ذلك مصراً أن الله سينقذه!.. مات صاحبنا غرقاً وانتقل إلى الله يوم الحساب فخاطب الربّ معاتباً: يا رب وعدتني أن تنقذني ولم تفِ بوعدك!

ـ يا بني.. أرسلت لك قارب نجاة وطائرة إنقاذ ورفضت أن تمدّ يدك، هل تريدني أن أنزل بنفسي إليك؟!!

عزيزي القارئ: بين الحين والآخر ارفَعْ سماعة الهاتف، واهتف في أذن غيرك: أشكرك على المبلغ الذي أقرضتني إياه يوم احتجت إليه.. أشكرك لأنك زرتني يوم مرضت.. أشكرك لأنك أوصلت أمي إلى عيادة الطبيب.. أشكرك لأنك استقبلتني في المطار.. أشكرك لأنك فتحت لي بابك وبيتك عندما أُوصِدَتْ في وجهي كل الأبواب.. أشكرك.. أشكرك..

اشكروا، فبالشكر ـ أقولها من عمق تجربة شخصية ـ تتكاثر دجاجاتكم وتمتلئ سلالكم بيضاً!!وفاء سلطان (مفكر حر)؟

About وفاء سلطان

طبيبة نفس وكاتبة سورية
This entry was posted in دراسات علمية, فلسفية, تاريخية, ربيع سوريا, فكر حر. Bookmark the permalink.

One Response to اشكروا، بالشكر تتكاثر دجاجاتكم وتمتلئ سلالكم بيضاً!

  1. ساره says:

    شكرا شكرا لك ايتها الاخت الفاضله ….
    مواضيعك وكتاباتك كلها رائعه
    اتمنى لك الصحه والسعاده

    تحياتي

Leave a Reply

Your email address will not be published. Required fields are marked *

This site uses Akismet to reduce spam. Learn how your comment data is processed.